الأربعاء، 25 يناير 2017

دفاعا عن كانط أمام التأويل الفرنسي المعاصر:

عمل كانط على تبرير الشر بإرجاعه إلى الطبيعة البشرية، وذلك بتصريحه أن فعل الشر هو سلوك متجذر في طبع البشر، وهو يسعى من خلال هذا التأكيد إلى تجاوز التأويل الديني والتاريخي لمسألة الخطيئة الأولى، بغية تحميل البشر مسؤولية أفعالهم السيئة من جهة؛ ومن جهة أخرى بغية التأسيس لنظر فلسفي جديد يهدف إلى إقرار إمكانية المرور إلى حالة مدنية اثيقية مبنية على الخير، وذلك بالتوفيق  بين الاستعداد الاصيل نحو الخير في الطبيعة البشرية، ومتطلبات القانون الأخلاقي الصارم.
من هنا نفهم صرخة كانط الأنوارية: "فكروا قدر ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، ولكن عليكم أن تطيعوا"!، وهو يميز بالطبع بين الاستعمال العمومي للعقل والاستعمال الخاص للعقل. وهي الصرخة التي يلام عليها كانط ما من مرة. حيث يعتبر البعض أن طاعة الاوامر هي التي أدت بايخمان (على سبيل المثال) إلى ارتكاب الجريمة في حق ملايين اليهود. فهل يعتبر كانط مسؤولا عما يمكن ان يقع من أعمال الشر في العالم المعاصر؟ هل يمكن أن ننسب لكانط جرائم الانسانية اليوم؟

من المعلوم أن الفلسفة الفرنسية المعاصرة قد تحاملت على كانط كثيرا، بحيث نسمع بين الفينة والأخرى اتهامات لا حصر لها لكانط وللفلسفة الألمانية عامة، وهو صراع قديم لا يعرف خباياه الدقيقة إلا الفرنسيون من جهة، والألمان من جهة أخرى. وقد قاد هذا التحامل البعض منهم إلى إظهار كانط في صورة الفيلسوف التبريري والقديس المشرع لجرائم الإنسانية في حين أن تأملا بسيطا لفلسفة كانط السياسية التي يمثل كتابه النقدي الثالث: "نقد ملكة الحكم"، على حد تعبير حنا آرنت نموذجا صارخا لفيلسوف متنور حامل لهم الانسانية ككل، بالإضافة إلى بيانه الشهير :"مشروع للسلام الدائم"، والذي يعلن فيه دون شبهة أو لبس إيمانه العميق بالسلام، ودفاعه المستميث عن مجتمع جديد خال من العنف والابادة والقتل بأي مبرر كيفما كان، ففي المادة الثالثة من المواد التمهيدية للقسم الأول يقول: "يجب أن تلغى الجيوش الدائمة إلغاء تاما على مر الزمان"، ويعلق على ذلك قائلا: "لأن هذه الجيوش التي تبدو على الدوام متأهبة للقتال تهدد الدول الأخرى بالحرب تهديدا دائما، كما تحفزها إلى التسابق في زيادة قواتها المسلحة زيادة لا تقف عند حد... أظف إلى هذا أن استئجار الناس لكي يقاتلوا أو يقتلوا معناه فيما يبدوا أننا نستعملهم استعمال الآلات أو الأدوات في يد غيرهم (الدولة): وهو أمر لا يتفق مع حقوق الإنسانية في أشخاصنا". ويضيف في المادة السادسة: " لا يحق لأية دولة، في إبان الحرب، أن تستبيح لنفسها اقتراف أعمال عدائية كالاغتيال والتسميم، وخلق ظروف التسليم، والتحريض على الخيانة – من شأنها عند عودة المسلم أن تجعل الثقة بين الدولتين أمرا مستحيلا"، وهو يميز طبعا هنا بين نوعين من القوانين: القوانين الآمرة، والقوانين المحرمة، فكل أعمال القتل والإبادة ... محرمة، أما القوانين الآمرة يقول كانط " تكون أكثر مرونة دون الخروج عن أحكام القانون: بمعنى أن تنفيذها رهين بالظروف، وتقبل التأجيل، مع بقاء الغرض، وبشرط ألا يرجأ التنفيذ إلى أجل غير مسمى مثال ذلك أن تؤجل إعادة الحرية التي سلبت من بعض الشعوب تأجيلا إلى ما لا نهاية". ويفتتح القسم الثاني من المواد التمهيدية لتحقيق سلام دائم بين الدول بالقول: "إن حالة السلام بين أناس يعيشون جنبا إلى جنب ليست حالة طبيعية: إذ أن الحالة الطبيعية أدنى إلى أن تكون حالة حرب. وهي وإن لم تكن دوما حربا معلنة، إلا أنها على الأقل منطوية على تهديد دائم بالعدوان، وإذا فينبغي "إقرار" حالة السلام".
وفي المادة النهائية الثانية يقول كانط: " عندما نفكر في فساد الطبيعة الإنسانية الذي ينكشف عاريا في العلاقات الحرة بين الشعوب (في حين أنه في حالة التمدن يحجبه تدخل الحكومة) نجد ما يدعونا إلى الدهشة من أن كلمة "الحق" لم تستبعد من سياسة الحرب كل الاستبعاد، باعتبارها تعبيرا فيه حذلقة، وأنه لم توجد بعد دولة تبلغ بها الجرأة أن تجاهر بهذا المذهب... إن في الانسان استعدادا اخلاقيا لا يزال قويا على الرغم مما يعتريه من فتور في هذا الزمان. يحفزه الى التغلب يوما على الشر الكامن في نفسه، ولا يستطيع إلى انكاره سبيلا". ففحص نصوص كانط وحده يمكن أن يقينا من شر الحكم المسبق دون معرفة دواعيه السياسية والايديولوجية، والتي لا يسع المجال هنا لمناقشتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق