الأربعاء، 1 فبراير 2017

العقلانية في الفكر الغربي بين ديكارت وسبينوزا

لا تشكل العقلانية بما مذهب يقر بأهمية العقل في بناء المعرفة، عقلانية واحدة، بل يمكن الحديث عن "عقلانيات"، ويعود هذا الإقرار إلى التحولات التي خضعت لها العقلانية في تطورها التاريخي. فإذا كانت العقلانية تخترق الفكر الفلسفي منذ أفلاطون، فإننا سنركز هنا على العقلانية الحديثة كما صاغها أساسا ديكارت واسبينوزا، كعقلانية دشنت مرحلة جديدة كل الجدة في تاريخ المعرفة البشرية.

1.   ديكارت والنظام المعرفي الجديد
من المجازفة حصر اسهامات ديكارت المتعددة في الحقل الفلسفي لوحده، ذلك أن روحه علمية بالدرجة الأولى، فقد استطاع أن ينتقل من روح سكولائية وسطوية لاهوتية إلى فكر عقلاني حديث ساهم في بناء تصورات جديدة بفضل التحولات العلمية التي عرفتها أروبا آنذاك، واساسا الانقلابات (الثورات) العلمية التي أحدثتها فيزياء جاليلي، على التصورات الفيزيائية والفلكية الكوبرنيكية والبطليومسية.
شكلت هجرة ديكارت إلى هولندا ـ موطن الحريات آنذاك في أوروبا ـ محطة هامة دفعته إلى الفكاك من سلطة اليسوعيين وأتاحت له نافذة جديدة لتأمل العالم. فقد جمعته الصدفة بالطبيب الهولندي اسحاق بيكمن Beckman الذي يعود له الفضل في بعث ديكارت إلى درس العلوم الطبيعية والرياضيات والبحث عن الصلات بينهما.
لقد كانت الحاجة إلى ديكارت في زمانه حاجة إلى أسس جديدة (ميتافيزيقية وفلسفية) للعلم الحديث، ففي الوقت الذي ظلت فيه الميتافيزيقا الأرسطية سائدة بتحجرها وعقم مناهجها وتشعب استدلالاتها وأقيستها المنطقية، سعت العقلانية الديكارتية نحو البساطة والوضوح، نحو رسم منهج وقواعد جديدة لهداية العقل، لأن بإمكان هذا العقل أن ينتج المعرفة وهو الأمر الذي يرفضه السكولائيين اعتقادا أن كل شيء معطى، وأن الإنسان مجرد متلقي سلبي لا دور له في عملية الانتاج تلك. هذا التصور اللاهوتي الغارق في القدرية لن يدوم كثيرا، لأنه سيتعرض لانتقادات ديكارت من أجل تقويضه. وبذلك فالديكارتية هي بمثابة بيان من أجل العقلانية، بيان من أجل العقل دشن مرحلة جديدة محورها العقل والذات الإنسانية وليس الذات الإلهية، بيان يقوم أولا على الإقرار بالمساواة والعدل في توزع القدرات. فتقريره أن "العقل أعدل قسمة بين الناس" هو تقرير بأول مبادئ الديمقراطية أي المساواة، وأمام هذا المبدأ لم تعد الحاجة إلى تقرير التراتبية أو ما شابه، لأن ديكارت حطم وقوض الأساس الذي تقوم عليه المعرفة التقليدية وهو حضوة المعرفة كامتياز.
إذا أسيء استعمال العقل فإننا سنبقى في حالة جهل، وهي الحالة المطبقة التي لا نستطيع الخروج مها في نظر ديكارت إلا باتباع منهج وقواعد، وهو بهذا يدق مسمارا في نعش الذين يدعون امتلاك الحقيقة.

2.   الإكتشاف الميتافيزيقي للإنسان
يعود هذا التعبير إلى العقلاني الفرنسي فردناند ألكيي Ferdinand, Alquié[1] الذي درس النصوص الديكارتية وفحصها بدقة متناهية.
يشتهر ديكارت بقوله المتداول جدا "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وهو قول يؤسس لفهم جديد للذات الإنسانية، من خلال سعيه نحو قلب النظام المعرفي القديم الذي ينطلق من الله نحو العالم، لصالح تصور جديد ينبني على الذاتية كمنطلق نحو العالم مرورا بالذات الإلهية. والذاتية عند ديكارت لا ينبغي أن تفهم كمقابل للموضوعية، بل إنها اعتبار الذات أساس ومبدا كل شيء، اي أن بامكانها الوصول إلى اليقين بدل البحث عنه في شيء آخر، وقد شكل مفهوم الذات (الأنا أفكر) أهم اكتشافات ديكارت، وهذا اليقين في وجود الذات، في وجود شيء مفكر غير ممكن ما لم يسبقه شك، لذا ففلسفته فلسفة شكية، جعلت من الشك موضع اهتمام وعصب التفكير.
إن الغاية الكبرى لديكارت وراء مفهوم الذاتية هو التأسيس لميتافيزيقا جديدة تتمحور حول الإنسان كأسمى كائن ميتافيزيقي، فالإنسان لم يعد يحضى بالعناية الإلهية وأن الحقيقة لا تقع خارج الذات الإنسانية بل في جوفها وفي قلبها، وهذا ما تستدعيه العلوم الحديثة التي تنطلق مع ميكانيك جاليلو جاليلي (وفلك كوبرنيك): من أن الكون لم يعد فارغ تحكمه قوانين عمياء كما لم يعد فضاء لا متناه، بل إن العلاقة بين الأجسام علاقة ميكانيكية: علاقة بين السرعة والقوة.

3.   نسق ديكارت الجديد:
رسم ديكارت تصوره الميتافيزيقي للعالم في كتابين هامين من ضمن كتبه: كتاب مقال في المنهج، وكتاب التأملات الميتافيزيقية. لذا يصح القول أن فلسفته تنقسم إلى قواعد وتأملات.
يتأسس النظام الديكارتي على التمييز بين نظامين: نظام الأشياء ونظام الحججl’ordre des raisons ، فنظام العلل والحجج غير نظام الاشياء، لأنه ينبني ويبدأ من الذات ثم الله نحو العالم، يهدف إلى هدم النظام القديم الذي ينطلق من الله نحو العالم، وهذا النظام يتضمن صنفين من الأحكام:
*       النظام التحليلي: analytique
*       النظام التركيبي: synthétique
ولفهم هذين الصنفين من الاحكام يقر ديكارت بأنه كلما اتجهنا نحو القضايا التحليلية نكون أقرب إلى اليقين، والعكس صحيح، كلما اتجهنا نحو القضايا التركيبية نكون أقرب إلى الظن والشك والريبة، وعلى هذا الاساس فالقضايا البسيطة أكثر يقينا من المركبة، وهو حال القضايا الرياضية، المتميزة بالوضوح : المربع له أربعة اضلاع.

أ – الشك طريق إلى اليقين
العقل "هو أعدل الاشياء توزعا بين الناس"، فكل فرد له نصيبه منه، إلا أن طرق استخدام وتوظيف هذه الملكة تختلف من شخص إلى آخر.
يقودنا الانطلاق من هذه الفكرة إلى تأكيد مبدأ المساواة عند ديكارت، وهو الذي يقوم عليه الفكر العقلاني. و اعتبار العقل ملكة فطرية، استاثر اهتمام التجريبيين الانجليز الذين رأو في ذلك أكبر زلة للعقلانية، فالعقل في نظر هؤلاء ليس إلا اداة يستخدمها الإنسان لانتاج المعرفة ولكنها أداة لا يمتلكها الناس بالفطرة قدرما هي مكتسبة ترتبط وترتهن بالتجربة الإنسانية، فالعقل هو بمثابة صفحة بيضاء. إلا أن هذا السجال الفلسفي بين الاتجاهين التجريبي والعقلاني لم ينتهي مع العقلانيين والتجريبين بل سيظل كما كان جدالا يخترق كل التاريخ المعرفي للبشرية. ومع ذلك لا ينبغي التبخيس من قيمة العقلانية الديكارتية، فالعقل عند ديكارت هو الأداة الوحيدة القادرة على بناء المعرفة، وهو الأمر الذي لم يكن يقبله اللاهوتيين في عصره، وهنا قمة إسهامه في تغيير الأراء الجاهزة التي ظلت سائدة لمرحلة بأكملها من تاريخ أوروبا. 
ينضاف إلى ذلك أن الاختلاف لا يقوم على اختلاف درجة التعقل، بل إلى اختلاف الطرق المستخدم أي المناهج المتبعة في التفكير، أو إن شئنا الدقة سوء استخدام العقل. وهنا طبعا الحاجة إلى منهج جديد لقيادة العقل البشري نحو اليقين. واليقين الأول عند ديكارت هو "أنا أفكر إذن أنا موجود"، هذه إذن هي الحقيقة الأولية واليقين الأول، البداهة الأول التي يسلم بها كل عقل، وهي ناتجة عن الشك المباشر لاثبات وجود الذات المفكرة.
دشن ديكارت تفكيرا جديدا، لأن اتباع آراء الآخرين لا يقدم أي جديد بالنسبة له، فلقد كان بامكانه اتباع أراء أفلاطون وأرسطو، إلا أن اقتناعه بأن ذلك الطريق لم يعد مجديا أفضى به الأمر إلى البحث عن طريق جديد، هكذا سار وحيدا في طريق الظلمات بحثا عن منهج جديد لهدم الآراء القديمة وبناء آراء جديدة، وبهذا سيتوجه بالنقد الشديد لمختلف المعارف التي تلقاها منذ طفولته، بل سيطرحها جانبا وسينطلق من الشك.
لاحظ ديكارت أن معظم أحكامنا ترتبط بالحس وتتعلق به وأن معارفنا تتكون من اراء تتعارض فيما بينها، وهذا ما يستوجب أولا الشك فيها ولو مرة واحدة بهدف السعي وراء بناء معارف جديدة كل الجدة. فالحواس في نظره مخادعة بحيث لا يستطيع التمييز بين عالم الحلم وعالم اليقظة، وهذا ما يستوجب ثانيا الشك فيها. لكن السؤال الاساسي هنا هو: هل يمكن للشك أن يبلغ اليقين؟ هل يمكن الشك في البداهات واليقينيات الرياضية: في الأعداد والاشكال...؟
يمكن للإنسان أن يخطئ بصدد هذه اليقينيات الرياضية مثلما يخطئ بصدد المحسوسات. وهذا ما يستلزم في نظر ديكارت وجود أله كامل الضمان، يضمن عدم وقوعي في الخطأ، فالله وحده قادر على كل شيء، وهو صانعي وخالقي على نحو ما أنا موجود. ما يبرر الشك إذن في نظر ديكارت هو أنه لا يملك بعد الدعامة الميتافيزيقية للحدس العقلي، تلك الدعامة وذلك الضمان الذي لا يمكن أن يوجد إلا في الله.
صمم ديكارت عزمه على أن يعرف كيف يتصرف العقل في طريقة البرهان الرياضي. أي أنه عزم على أن يحلل المنهج الرياضي إلى عناصره العقلية، وهي العناصر التي يعرضها لنا في الجزء الثاني من مقال في المنهج: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة. وبالجملة فإن الشك الذي يطبقه ديكارت على المقال يختلف عن الشك الذي يطبقه في كتاب التأملات، ذلك أن الشك في المقال هو شك معرفي لا يتجاوز الحدود التي يرسمها له ويضعها للجمه، في حين أن الشك في التأملات هو شك جذري hyperbolique لا حدود له ويذهب به ديكارت إلى أبعاده القصوى، لذا من اللازم الوقوف على كتاب التأملات لبيان مدى وجاهة هذا القول:

ب ـ نحو شك جذريle doute Hyperbolique :
يحكي ديكارت في التأمل الأول عن معرفته التي تلقاها والتي انبنت على أراء خاطئة معلنا عزمه وإصراره الدائم على بلوغ اليقين، وعلى وضع ما تلقاه منذ الطفولة موضع شك. وهكذا يبدأ بالحواس (أهم مصدر للخطأ) لأنها مخادعة، ثم يشك في إن كان في اليقظة أو في النوم، ويدفع به إلى أقصاه عندما يشك في القضايا الرياضية.
يقول في الفقرة الأولى أن هناك العديد من الاراء الخاطئة التي نتلقاها منذ الصغر وينبغي هدمها لتأسيس معرفة جديدة، ولكنه لا ينبغي أن نعمل على هدم كل راي على حدة، وإنما ينبغي هدم الأسس التي تقوم عليها، وأهم هاته الأسس هي الحواس والتي إذا خدعتنا فإن معرفتنا ستكون مخادعة.
يقدم لنا مثالا حينما يجلس وهو يرتدي لباس النوم أمام النار ويشك في أن لديه يدين، ويقول نعم لي يدين وارتدي هذا اللباس، لهذا فديكارت لا يمكن أن يميز ان كان في حالة نوم أو في حالة يقظة.
تتميز العقلانية الديكارتية بكونها عقلانية قطعية ـ يقينية، لا تستند إلى الاحتمال ولا وسط فيها، فالعقل عند ديكارت دوغمائي، لا يؤمن بالوسط بين الشك واليقين، فإما أننا نخطئ ونقع ضحية الخظأ وإما أن نصل إلى اليقين، إلا أن الطريق للوصول إلى اليقين هو الشك. فالعلوم عند ديكارت، إما مركبة، أو بسيطة. وثمة هناك نظامان كما سبقت الاشارة:نظام الاشياء، ونظام العلل، وهذا الاخير نوعان:
نظام تحليلي: تتميز أحكامه بكونها بسيطة، يقينية، بديهية وصادقة، كما هو الحال في الهندسة وفي الحساب...
نظام تركيبي: لأن الاحكام التركيبية غير يقينية وأقل بديهية، كحال الفلك أو الطب...
دشن ديكارت الشك بالحواس وانتقل إلى النوم واليقظة وانتهى بالحقائق الرياضية، وكان يعتقد دوما أن هناك إله كلي القدرة والاستقامة وهو خالق الإنسان على ما هو عليه، ولكن ما الذي يضمن في انه لا يخدع (دور الشيطان الماكر)؟
وصل ديكارت في هذا التأمل إلى الحيرة والشك ولم يعطي أية حقيقة ولم يتوصل إليها.

ج ـ في الفرق بين المقال في المنهج والتأملات
*       في المقال يصف ديكارت القواعد التي من شأنها تقويض العلوم الحديثة (نظام المعرفة الحديث)، كما أنه في هذا المقال يحاول أن يبحث عن الطريقة التي تؤدي إلى اليقين (منهج بلوغ اليقين)
*       تمثل التأملات الميتافيزيقا الجديدة، اي الميتافيزيقا التي هي بحاجة إلى نظام معرفي جديد وحديث وهي مختلفة تماما عن الميتافيزيقا الارسطية، وقد اعتمد ديكارت في ذلك على الميكانيكا الجديدة (جاليلو) وقد حاول أن يقيمه ديكرات على أساس ميتافيزيقي.
*       في التأملات يبحث في البعد الأنطولوجي
*       يستم الشك في التأملات بأنه شك جذري hyperbolique  راديكالي، وهو شك أكثر جرأة يتعدى الحدود الموضوعة له، ولا يتقيد بأي شيء لذلك يؤدي إلى الحيرة وإلى القلق.
*       في حين أنه في المقال: شك معرفي، وهو شك لا يتعدى ما رسم له من حدود
*       في التأملات يدفع ديكارت بالشك إلى حدوده القصوى ويشمل الحساب الرياضي، في حين أنه في المنهج يكتفي بكونه مجرد منهج لبلوغ اليقين.
*       المشترك في هذه التأملات هو أن ديكارت يحاول أن يضع نظاما جديدا للميتافيزيقا حيث يسعى إلى رسم دائرة العقل الحديث، فالعقل عند ديكارت يعيد تأيس المعرفة ويدفع الميتافيزيقا إلى حدودها القصوى.

د -  خلاصات:
*       ديكارت يبني فلسفته على ثنائية الامتداد والفكر كجوهرين منفصلين أشد الانفصال، غلى حد لا يمكن الجمع بينهما ويمكن أن ينفي بعضهم البعض.
*       تصور ديكارت للإله تصور يعتبر أن الله هو مهندس الكون، ولكن رغم صفاته المطلقة (القدرة المطلقة والمعرفة والحضور المطلقين...) لا سلطة له على الامتداد
*       ثنائية ميكانيكية ما بين الجسم والنفس، فقد فهم ديكارت الجسم وكأنه آلة، مركبة كما هي مركبة الآلات الأخرى، والجسم عنده تجميع لأجزاء، أما النفس فهو من طبيعة أخرى، تنتمي إلى الجوهر العقال، أي الفكر.
*       نجد في ثنائية المادة والامتداد أن هناك جوهران، وفي ثنائية النفس والجسم لدينا ايضا جوهران، ولا تداخل بين هذه الجواهر، ولا أحد منهما يمثل السبب والآخر النتيجة (لا العلة ولا المعلول)، ويعملان في انفصال تام.
*       لا تقل عقلانية ديكارت قيمة لأنها كانت في عصرها ذات أهمية كبيرة، لأنه كن قد أطلق العقلانية في مواجهة ما كان سائدا من قبل، أي النظام المعرفي السابق الذي يؤمن بالقوى الخفية.
*       عقلانية ديكارت كانت صادمة لأنها جاءت لمحو التفكير القديم نرى ديكارت هل هو فيلسوف مسيحي كما يزعم، أم أنه ملحد؟
















4.   عقلانية اسبينوزا:
ا ـ سبيوزا ومشكلة الله:
تتمثل راهنية اسبينوزا في التساؤل حول قضايا عصره، فكتاباته تظل حيوية حتى في العصر الحالي، ونصوصه معاصرة لنا وكأنها كتبت اليوم لأنها تتناول قضايا راهنية جدا. فهو يعارض ديكارت دون أن يتنكر له، اي أنه يظل على الرغم من معارضته ديكارتيا، فهو يحافظ على التصور الديكارتي في العديد من القضايا: النفس، الجسم، الله... والاختلاف المبدئي بينهم هو أن النظام الذي رسمه ديكارت والذي سماه نظام العلل ونظام الاشياء كنظامين منفصلين يظلان متحدان عند اسبينوزا.فالله يوجد في الطبيعة وليس جوهرا مفارقا لها.
تعود صرامة سبينوزا الفكرية إلى صرامة منهجه الهندسي: فهو يكتب كتابة رياضية هندسية يبد|أ بالتعريفات ثم القضايا والراهين والحواشي... فلكل قضية من القضايا برهنة تستوجبها بالضرورة، وهو برهان يرتكز إما على البداهات التي تسبقه أو على التعريفات، وهذا ما سنتعرف عليه من خلال كتابه الأخلاق.
يعتبر كتاب "الأخلاق"[2] أهم كتاب يلخص فيه سبينوزا مذهبه ويكمل فيه القضايا التي طرحتها كتبه الأخرى:
*       رسالة في اللاهوت والسياسة 1670
*       رسالة في مبادئ فلسفة ديكارت 1660
*       الرسالة الموجزة في الله والغسان وسعادته 1660
*       راسلة في إصلاح العقل
يتكون كتاب الأخلاق من ستة فصول:
1 – في الله
2 – في النفس طبيعتها وأصلها
3 – في الانفعالات أصلها وطبيعتها
4 – في عبودية الإنسان أو في قوة الانفعالات
5 – في قوة العقل أو في حرية الإنسان
وسنكتفي في هذا العرض على القسم الأول من الكتاب الذي يعرض فيه سبينوزا لمشكلة الله، فالله في نظره "كائن لا متناهي إطلاقا، أي جوهر يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية"[3]. ذلك أن الله مطابق لفكرته، والجوهر سابق على تجلياته وتعييناته والله لا يسبقه خلقه، إذن فهو قادر. والجوهر لا ينتجه جوهر آخر، ولا يمكن أن يوجد هناك جوهران، وهذا هو مرتكز سبينوزا على وحدة الوجود، التي تجاوز بها ثنائية ديكارت.
ان الثنائية الديكارتية التي رفضها اسبينوزا تعود إلى مراحل مبكرة من تاريخ الفلسفة هذه الثنائية هي التي جعلت ديكارت يظل في مستوى الخلفيات اللاهوتية التي كانت مُهيمنة في الفكر المدرسي. لذلك لم يكن ديكارت يحمل بُعدًا للأونطولوجيَا الحقيقية، مادام الفكر الثنائي قائمًا في فلسفته. فالوجود ينقسم إلى فكر وامتداد، وينقسم مرة أخرى إلى وجود متعال، هو الله، ووجود حسي، هو الوجود الطبيعي. وهذه القسمة شبيهة بالقسمة المقولية التي أحدثها أرسطو، أي أنها قسمة غير قابلة للقلب. فلا وجود الجوهر يصبح وجود عرضٍ، ولا وجود الامتداد يصبح هو وجود الفكر. كل هذه الجوانب جعلت ديكارت المُعبر الحديث عن الفلسفة اللاهوتية، أو المُعبر الفلسفي عن الفكر الديني، وبالتالي لم تكن طاولة ديكارت ممسوحة من الفكر اللاهوتي بالشكل الذي كان يعتقد ويقول، بل كانت مليئة بالمخلفات المدرسية التي ظلت في البناء الفلسفي النهائي للديكارتية.
كل ذلك يجعلنا نقدر مدى أصالة سبينوزا في كتاب "الأخلاق". فبقدرما كان ديكارت وفيًّا للفلسفة التقليدية القائمة على التعالي والثنائية وإبنًا بارًا لها، كان سبينوزا ثائرًا عليها، وابنًا عاقًّا لها. فعندما قال سبينوزا بوجود جوهر فرد لكل الصفات والأحوال، فإنه قد حقق قطيعة مع الفلسفة الديكارتية القائمة على الثنائية الوجودية. فالفكر والامتداد، شأنهما شأن الصفات اللامتناهية، ليسا تعبيرين عن جوهرين منفصلين، وإنما هما تعبيران عن جوهر واحد، هو الجوهر الفرد، أي الله. فهناك جوهر واحد فريد لا متناه كامل التحديد. ثم إن تصور سبينوزا للجوهر جعله يتمتع، على خلاف تصور ديكارت، بأحادية المعنى، أي أن هناك جوهرًا واحدًا هو الله أو الوجود. فالجوهر الفرد ينطوي على ما لا نهاية له من الصفات والأحوال دون أن يتغير معناه وحكمه·
وعلى هذا الاساس فالجوهر من طبيعته أن يوجد ويمكن أن يكون غير موجود، كما أن من طبيعته أن يكون محدودا، لذا فالله علة محايثة وليست متعالية لكل الاشياء، يسري في كل شيء إنه محايث حاضر في الطبيعة وفي الوجود عامة.
من الواضح إذن أن سبينوزا، عكس ديكارت، لا ينطلق من الأَنَا. إنه يتموقع أولا في الله، وهكذا يريد أن يثبت أن الفكر ذاته ليس هو فكر الإنسان، وإنما هو فكر الله. لم يعد هناك إذن انتقال من وجهة نظر الإنسان إلى وجهة نظر الله.
والفكرة الصحيحة كما يرى سبينوزا لا بد وأن تكون مطابقة للموضوع الذي تمثله[4]، فالله والطبيعة شيء واحد، أي أن وحدة الوجود هنا أصبحت مطلبا ضروريا يقتضيه البرهان على تجاوز الثناية الديكارتية. والحال أنه كي تصبح فكرة مطابقةٌ مطابقةً بالفعل، أي أن تُعبِّر عن موضوعها، لا بد لهذا الموضوع أن يكون مرتبطًا بالمطلق الذي يتوقف عليه. فليس هناك إذن (كما تفهمون ذلك، وكل شيء يقودنا إلى هذه الفكرة المركزية) من واجب أمام الفكر الإنساني سوى أن يتطابق مع فكر الله، ومتابعته أثناء بلورته، ولا يمكن لهذا أن يتم سوى انطلاقًا من فكرة الله ذاتها. أو، إن فضلنا التعبير بطريقة أخرى سنقول: تطابق الوجود - كل موجود، وكل ما يمكنه أن يوجد في كل شيء من وجود ومن حقيقة- مع وحدة الجوهر، على أساس أن هذا التطابق هو شرط كل استدلال حقيقي. تلك هي البداهة السامية. يتعلق الأمر بحقيقة معروفة بذاتها، تكون هي شرط كل الحقائق الأخرى.
فالله عنده يتصف بالأزلية، ففي القضية[5] 11 يقول: "الله ـ أعني جوهرا يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ما هية أزلية ولا متناهية ـ واجب الوجود"، ولكن هذه الأزلية ليست هي الامتداد اللانهائي في الزمان، بقدر ما هي أزلية الضرورة المنطقية، فالله يتصف بالامتداد مثلما يتصف بالفكر، اي أن المادة شأنها شأن الفكر منبثقة من الطبيعة الإلهية ومعبرة عنها.
تنضاف إلى صفة الأزلية صفة الاطلاق، فالله مطلق بالضرورة
ب ـ نقد اللاهوت:
لقد جاء سبينوزا لنقد تصورات اللاهوتيين حول الله، والتي ترى أن الله هو شخص
وأنه على مقاس الناس يخاطبهم بما يرتدون ويعدهم بما يشتهون، وأن الغنسان قد اصطفاه الله من بين الكائنات الأخرى. وتشكل حجة سبينوزا دليلا على بهتان حجج اللاهوتيين:
*       الله علة محايثة لكل الأشياء وليس متعاليا.
*       والجوهر له صفات: الوجود والقدرة والمعرفة
*       هنا ينبغي التمييز بين الماهيات والصفات والكيفيات
*       الله هو جوهر وماهية وهذا الجوهر له صفات لا نهائية (الكمالن الوجود...)
*       هذه الصفات لا يمكن تحديدها إلا من خلال الكيفيات
*       لله صفات أزلية
*       مادام الله لا نهائي فصفاته لا نهائية
*       الله وصفاته شيء واحد
*       الكيفيات ليست أقل من الماهيات ولا الماهيات أقل من الكيفيات، فإذا كانت الكيفيات لا نهائية وأزلية فلأن الماهيات كذلك.
*       الله هو العلة الفاعلة
*       الله وصفاته جوهر واحد إذن ليس هناك جوهران بتعبير ديكارت
*       الجوهر فيه الفكر والامتداد أي كيفيتان (الجسم في حركة، والجسم في سكون)، وهما كيفيتان لصفات الامتداد.   
تشكل الحاشية الأخيرة لكتاب "الأخلاق مثالا صارما على النقد الذي وجهه سبينوزا للاهوتيين. ففلسفة سبينوزا فلسفة تحررية لأن الانسان بالنسبة له ليس إمبراطورا في إمبراطوريته، لا سلطة له ولا امتياز ولا حضوة.

5.   سبينوزا وديكارت
أحدثت فلسفة سبينوزا، من خلال كتاب "الأخلاق"، قطيعة مع التصورات اللاهوتية وشكلت فلسفة متميزة في القرن السابع عشر، بل وفي تاريخ الفلسفة عامة.
وهذا التصور الذي أحدثه سبينوزا هو الذي جعله يمثل تجاوزا للفلسفة الديكارتية، التي ظلت على الرغم من إبداعاتها في مجالات عديدة، رهينة الخلفيات الميتافيزيقية التقليدية.
 نعم، مما لا شك فيه أن ديكارت قد أحدث ثورة في الفكر الفلسفي، ومما لا شك فيه كذلك أن الفلسفة الديكارتية كانت ومازالت محطةً أساسيةً في تاريخ الفلسفة الحديثة. إذ أنها تمردت على الفكر المدرسي المثقل بالخلفيات الدينية المعادية للتفكير الفلسفي، وحاولت ربط الصلة بين الفلسفة والفيزياء المعاصرة التي أخذت تتأسس في بداية القرن السابع عشر. وقد قادها هذا إلى الانفصال عن الفيزياء الأرسطية، بل عن الميتافيزيقا الأرسطية برمتها، عندما رفضت تأسيس الطبيعة، لا وفق مقولتي الجنس والنوع، أي لا حسب المفاهيم الكلية المتعالية، وإنما حسب الخاصية اللازمة للشيء، أي وفق الصفة الأساسية للشيء. فأصبح الحدس هو سبيل العقل نحو معرفة الواقع الفعلي. الأمر الذي مَكَّنَ الفلسفة من بناء معرفة محايثة وواقعية للمواضيع الفيزيائية. كل ذلك شكل إسهامًا للفلسفة الديكارتية في تاريخ الفلسفة، وتحولاً أساسيًا في الفكر الفلسفي الحديث.
 لقد حقق سبينوزا ربطًا بين الوحدة والاختلاف. لم تعد الوحدة وحدة تطابق وإنما أصبحت وحدة اختلاف، مادام الجوهر يتحدد بل يتأسس بالصفات المختلفة. هنا نلاحظ بدقة حديث سبينوزا عن العلة والجوهر والله في نفس الوقت ففي التعريفات وفي المقدمات الأولى والبداهات ينطلق دوما من نفس المفهوم ليبرهن على صحة أطروحاته  عن الله، هذا الجور وهذه العلة المطابقة لذاتها والتي لا يمكن أن تقع خارج موضوعاتها.



[1] - Ferdinand alquié : la découverte métaphysique de l’homme chez Descartes, PUF, 3 édition, juin 1987.
[2] - Spinoza : éthique, Présenté, traduit et commenté par Bernard Pautrat, éditions du  seuil, 1988, janvier 1999.
[3] - ibid, déf 6, p 15.
[4] - ibid, axiome 6, p 17.
[5] - ibid, proposition 11, p 29.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق