السبت، 11 مارس 2017

مقدمة كتاب

  مشكلة الجوهر في فلسفة ابن رشد:
بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة
تندرج العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة ضمن تصور ابن رشد للعالم. ففي سعيه وراء تملك رؤية متكاملة ومنسجمة عن الكون بدأ من ابسط أشكال الطبيعة (الفيزيقا) وانتهى بأرقى درجات ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، لذا نجده تارة عالما وفلكيا وطبيبا، وتارة فيلسوفا وسياسيا... ولا نستبعد هنا التأثير المباشر لأرسطو، الذي وقف ضد فلسفة أستاذه أفلاطون  Platon(428 ـ 347 ق.م)[1]، مما قاده إلى الاهتمام بالمسائل الفيزيقية لبيان دور المحسوسات في وجود الكليات. وهنا نفهم الهجوم الذي شنه ابن رشد على الأثر الأفلاطوني في الفلسفة العربية الإسلامية، وضد بقايا تاسوعات أفلوطين في الفلسفة المشرقية. فإذا نظر أفلاطون إلى عالم المثل بما هو الحقيقة العقلية الوحيدة التي يمكن إقرارها، فإن العالم الحسي (عالم الطبيعة) لا يمثل إلا نسخة عن عالم المثل وما يعنيه ذلك من استبعاد لدور الجزء في وجود الكل. فالوجود هو وجود كلي ولا دور للحس فيه[2].

يقر مؤرخو الفلسفة ويعترفون صراحة بالاهتمام الذي يوليه أرسطو للطبيعة إيمانا منه بدور الحواس في عملية المعرفة، وهو الأمر الذي تأثر به ابن رشد أيما تأثير، وهو الذي يدرك حجم الزيف الذي طال فلسفة الحكيم جراء دخول الفلسفة الأفلوطينية على التقليد المشائي، لذلك لا نبالغ إن قلنا إن الصراع الذي خاضه الحكيم ضد أفلاطون، أعاد ابن رشد صياغته وفق شروط العصر ومتطلباته ضد الفارابي وابن سينا والغزالي ومن خلالهم ضد علماء الكلام.
ويتميز المتن الرشدي في نظرنا بامتداده إلى مجال هذين العلمين. فعلى خلاف القراءات الاختزالية التي ترى أن كل ما في فلسفة ابن رشد هو توفيقيته بين الشريعة والحكمة، ونظرته الحداثية للمجالين الديني والفلسفي، وقدرته على بلورة موقف عقلاني من إحدى إعضالات الفكر الوسطوي، نذهب مع الرشديين إلى القول إن النص الرشدي وقف على النظر الأرسطي في الطبيعة لتأسيس منطلق جديد شكل ركيزة وعماد رؤيته للعالم.
فأقواله في العلم الطبيعي، وبراهينه تضع حدا فاصلا بين تصوره للعالم، وتصور الفلاسفة المسلمين السابقين عليه. وبخاصة ابن سينا الذي لا يفصل بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي اعتقادا منه أن الفيزيائي لا يضع مبادئ العلم الطبيعي ولا يبرهن عليها، وليس من اختصاصه ذلك، بل الفلسفة الأولى هي التي تضع مبادئ الفيزياء[3]. وتنم هذه النظرة عن تصور اختزالي للعلاقة بين العلمين، تكون فيه الأولوية للاهوت (الثيولوجيا la théologie) على الوجود (الأنطولوجيا L'Ontologie). في حين أن القول الرشدي[4] يذهب إلى تقويم هذه النظرة الاختزالية التي لم تنصف الفيلسوف الحكيم. مما يعبر عن سوء فهم للنص الأرسطي. فالعلاقة (في نظر ابن رشد) تتأسس على أولوية الانطولوجيا على الثيولوجيا، أي أولوية الوجود الطبيعي، كمعطى أولي ثابت بأسبابه الأربعة التي تشكل لبنة وقوام العالم، على الميتافيزيقا، التي تقوم على ما تم في العلم الطبيعي، رغم ما يوجد من تداخل بين مبادئ الجوهر المتحرك الفاسد (موضوع العلم الطبيعي)، ومبادئ الجوهر الأزلي (موضوع ما بعد الطبيعة). ذلك أن "البرهان على وجود مبادئ الجوهر الطبيعي ليس للفلسفة الأولى، بل إن صاحب العلم الطبيعي هو الذي يعطي أسباب الجوهر المتحرك المادي والمحرك"[5]
يحيل ابن رشد على بعض العلامات التي تدل على تميز النظر الطبيعي عن النظر الميتافيزيقي، وهناك مستويات متعددة في الفصل بين الطبيعيات والإلهيات، فقارئ نصوص ابن رشد يقف أول الأمر على تباين النظر الابستمولوجي والأنطولوجي، ذلك أن أولى علامات الفصل والتمايز والأكثر وضوحا تتمثل في الاختلاف الظاهر بين مستويين في النظر إلى الوجود متباينين في الطبيعة لا في الدرجة فحسب: نظر في المتحرك أو في الموجود بما هو متحرك ومتغير ونظر في الموجود بما هو موجود. أي بعبارة أخرى الجوهر كجوهر متحرك والجوهر كجوهر غير متحرك. وهنا نطرح التساؤلات الآتية:
*       هل هناك علم واحد لكل الجواهر، أم أن هناك عدة علوم؟ هل نقر بوجود جواهر محسوسة فقط، أم نقر أيضا بوجود جواهر غير محسوسة؟
*       هل يمكن أن يكون الجوهر جسرا بين العلم الطبيعي ما بعد الطبيعة؟ كيف استطاع ابن رشد تجاوز الفلاسفة السابقين عليه كابن سينا مثلا؟ هل قدم ابن رشد تصورا جديدا بصدد العلاقة بين العلوم الجزئية والفلسفة الأولى؟ فيما يكمن هذا التصور؟
*       ما دور المنطق في بيان طبيعة العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة؟ كيف استثمر ابن رشد رؤيته الجديدة للعلاقة بين الفلسفة الأولى والعلوم الجزئية للرد على علماء الكلام؟
تشكل في نظرنا هذه التساؤلات منطلق البحث في مشكلة الجوهر، ففيها يضع أرسطو الأساس الذي سيقوم عليه علم ما بعد الطبيعة. ويخصنا في المقام الأول السؤال الثاني منها: هل نقر بوجود جواهر محسوسة فقط، أم نقر أيضا بوجود جواهر غير محسوسة؟ فهو سؤال بقدر ما يطرح إمكانية وجود جواهر من طبيعة مغايرة ومختلفة بل ومتناقضة، بقدر ما يفتح أمامنا إمكانية رصد هذين الجوهرين باحثين عن الفروق بينهما وعن أوجه الاتصال والانفصال بينهما، إلا أن ما يهمنا هنا في موضوعنا هو ما يتعلق ب: هل ينتسب البحث في كل أنواع العلل إلى علم واحد أم إلى عدة علوم؟ أي هل لعلم واحد الحق في أن يبرهن على وجود جوهرين مختلفين بل ومتناقضين، أم أن البرهان على ذلك هو من اختصاص علوم عدة؟ وبصيغة أدق: هل علم ما بعد الطبيعة هو العلم الذي يستطيع أن يبرهن على الجوهر المفارق والمحسوس معا، أم أن لكل جوهر علم خاص به؟ وبذلك نجد أنفسنا إزاء سؤال إشكال يتعلق بحدود علم ما بعد الطبيعة أمام العلم الطبيعي، أو بصيغة أعم أمام العلوم الجزئية. وهو الأمر الذي تعبر عنه التساؤلات المتبقية والتي تهدف إلى فحص الموقف الرشدي من العلاقة بين العلوم الجزئية والفلسفة الأولى، مركزين أكثر على العلم الطبيعي. ففي الوقت الذي يفضل فيه أغلب الدارسين الانطلاق من إشكالية العلاقة بين الدين والفلسفة عند ابن رشد، وذلك نتيجة الرؤية التي كرستها دراسات المستشرقين، والتي اعتبرت أن محور اشتغال الفلاسفة المسلمين لا يبرح هذا المجال، نفضل الانطلاق من إشكالية العلاقة بين العلم والفلسفة، عل البحث يسعفنا في التأسيس لرؤية جديدة لابن رشد تنبني على هذه الصلة المفترضة بين العلم والفلسفة والتي ساهمت في نظرنا ـ ولو بشكل غير مباشر ـ في مجاوزة ميتافيزيقا أرسطو وتأثيرها على تطور العلوم الطبيعية خلال العصور الحديثة. فنقد ابن رشد لتصور علماء الكلام لصلة الله بالعالم، ونقد نظرية الجوهر الفرد... ليس نقدا مجانيا. كما أن انكبابه على تصحيح آراء ابن سينا والفارابي والغزالي لم يكن مجرد ترف فكري، ولا كان مجرد تسلية بل هو دليل قاطع على الروح العقلانية التي كان يتحلى بها الرجل.
1 - الوجه المنطقي للإشكال:
يعتبر المنطق في نظر ابن رشد أساس العلوم خاصة النظرية منها، لذلك فالنظر في "العلم الطبيعي" و"علم ما بعد الطبيعية" يقتضي الكشف عن "الثابت المنطقي" في العلاقة بين هذين العلمين، وعن هذه الضرورة يرى ابن رشد أن "أهم شيء في حق من يريد أن يتعلم العلوم هو أن يبدأ أولا بعلم المنطق"[6].
إن الإقرار بوجود مبادئ منفصلة وغير مشتركة بين العلوم الجزئية والعلم الكلي (الفلسفة الأولى) لا يفيد البحث في شيء، ولا يرسم أصلا الصلة بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، بل ينكرها[7]. وسنصل إلى نتيجة معكوسة تنكر كل صلة بين العلم والفلسفة. وهذا على خلاف ابن سينا الذي يقر بهذا الفصل مدافعا عن أحقية العلوم الفلسفية في البرهان على مبادئ العلم الطبيعي، فإن ابن رشد يذهب إلى اعتبار أن العلوم الجزئية لها الحق في إثبات مبادئها بنفسها بشرط احترام مقتضيات العلم الكلي. وهذا ما يوفره علم المنطق. لذا فبالعودة إلى مسألة البرهان نجد أن ابن رشد قد خصص لهذا المبحث المنطقي كل جهده نظرا للمكانة التي يحتلها في فلسفته. وعلى هذا الأساس نرى ضرورة الوقوف عليه لما له من دور في فهم جزء من المشكلة المتعلقة بموضوع الجوهر بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة. فالرد على ابن سينا ينبني في جزء منه على المقدمات المنطقية التي يتوجب احترامها للقول بأحقية العلوم الجزئية في البرهان على مبادئها، أو العكس.
تشكل نظرية البرهان أساس وركيزة نظرية العلم الرشدية، فمن خلالها يتأسس المشروع المنطقي و الابستمولوجي الرشدي. ودفاع ابن رشد عن البرهان لا يمكن أن يتغافل عنه أحد، لأنه كرس كل حياته[8] لتخليص الفكر الأرسطي[9] من الأقاويل غير البرهانية، أي تخليصه من الأقاويل الجدلية و السوفسطائية التي لا تتناسب والقول البرهاني الأرسطي، فالحكمة بالنسبة له تمتلك من الحقيقة ما يمتلكه الشرع، وإذا صادف أن عارض ظاهر الشرع ما أقرته الحكمة ـ الفلسفة فينبغي إعمال التأويل لأن البرهان الفلسفي لا يقبل الجدال. فالجوهر في نظر ابن رشد؛ كما سنبين ذلك بين ثنايا هذا البحث؛ لا برهان له ولا يستلزم البرهان[10]، فما صار به الجوهر جوهرا فهو جوهر[11]. والبرهان بحسب تعريفه هو "قياس يقيني يفيد علم الشيء على ما هو عليه في الوجود بالعلة التي هو بها موجود، إذا كانت تلك العلة من الأمور المعروفة لنا بالطبع"[12]، ولسنا ها هنا بحاجة إلى الاستدلال على وجود الجوهر، فهو موجود بموجب علة معروفة، وكما أشرنا سلفا فالجوهر لا يوجد الكثرة وإنما يكون دوما علة ذاته، أو علة جوهر يكون علته، وهذا من الأمور المعروفة.
يتأسس البرهان على مقدمات صادقة وضرورية في الآن ذاته، وتشكل تلك المقدمات المنطلقات الأولى لكل العلوم. مما يعني أن البناء النظري الذي تتأسس عليه العلوم في معظمها تفرض علينا الوقوف على أهم القضايا التي تهمنا أساسا في هذا المقام والتي يمكن صياغتها في التساؤل الآتي:
هل يجوز نقل البرهان من صناعة إلى أخرى؟ أي هل يمكن للبرهان على الجوهر في العلم الطبيعي أن يصدق على الجوهر في العلم الإلهي؟ وهل تصدق كل براهين العلم الإلهي على العلوم الجزئية الأخرى؟
يمثل هذا التساؤل جوهر ما نروم إلى صياغته هنا كوجه منطقي للعلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة. وفيها يتضح بالضبط اللبس الذي يكتنف القول الرشدي بصدد هذه المسألة العويصة التي واجهتنا ونحن نبحث عن مخرج - مصوغ للمشكلة المطروحة: هل العلاقة بين العلمين هي علاقة اتصال أم علاقة انفصال؟ أمن المستصاغ أن يتبني ابن رشد نظرية انفصال في الوقت الذي يعرف فيه بكونه واحدا من دعاة الاتصال شأنه شأن فلاسفة المغرب ـ الأندلس؟
فلنتتبع ما كتبه ابن رشد بصدد هذه المسألة، حيث يفصح وبكل جرأة عن موقفه في تلخيص البرهان معتبرا أنه: "يمكن أن ينقل البرهان من صناعة إلى صناعة متى كان المطلوب في الصناعتين واحدا بعينه"[13]. وبهذا القول يضعنا أمام إجابة لا غبار عليها. فعملية النقل تتم في نظره "إما على الإطلاق إن أمكن ذلك، وإما أن يكون واحدا بجهة ما، وذلك بأن تكون إحدى الصناعتين تحت الصناعة الأخرى بمنزلة علم المناظر الذي تحت علم الهندسة، وبمنزلة علم الموسيقى الذي تحت علم العدد، فإن علم المناظر يستعمل أمورا هندسية، وعلم الموسيقى أمورا عددية. وإما إذا كان المطلوبان اثنين فليس يمكن أن يبرهن واحدا منهما في غير الصناعة التي تخصه"[14]. وبخصوص هذه المسألة تكون العودة إلى نظرية البرهان منطلقا لدحض الخطأ الذي وقع فيه ابن سينا.
لقد خصص ابن رشد فصولا بأكملها لنقد موقف ابن سينا[15] القاضي بأن العلم الإلهي هو الذي يتكلف ببيان مبادئ العلوم الجزئية وأن هذه الأخيرة إنما تأخذ بتلك المبادئ التي يضعها الفيلسوف وضعا ولا يحق للطبيعي ـ الفيزيائي أن ينظر في مبادئ علمه. وعلى هذا الأساس يذهب ابن رشد إلى أنه "ليس للعمل الإلهي أن يبين أن المكعبين إذا ضوعف أحدهما بالآخر كان منهما عدد مكعب، وإنما للعددي"[16]، ويضيف "لا سبيل إلى أن يقام البرهان على أمر من الأمور إلا من مبادئه المناسبة التي تخصه"، فالبرهان هو وحده على الحقيقة. وسوف نقف على هذا النقد الموجه  للموقف السينوي الذي يقر بالانفصال القطعي بين العلمين على مستوى وضع المبادئ وتبعية الجزئي للكلي تبعية عمياء لا يحق فيها للعلوم الجزئية أن تنظر في مبادئها. مع الإشارة إلى أن بيان أسس هذا النقد لا يعني بأي حال من الأحوال التحامل على ابن سينا أو على الفلسفة المشرقية، من أجل الرفع من مقام الفلسفة المغربية ـ الأندلسية، وإنما الغاية كل الغاية هي الوفاء للمنهج النقدي الرشدي. ذلك أنه على الرغم من الانتقادات التي سيوجهها للشيخ الرئيس، فإنه لم يسلم بدوره من السقوط ضحية الأفكار السينوية: فهل كان ابن رشد قادرا على الفكاك من ابن سينا؟ هل كان بإمكانه أن يطلق طلاقا بائنا الفلسفة السينوية؟ صحيح أن ابن رشد كان على وعي تام بتدخل ابن سينا في الفلسفة الأرسطية وفي الموروث المشائي، وأنه أضاف من عنده ما كان يراه ملائما لإعادة إنتاج نفس الإيديولوجية السائدة، وإن بشكل غير معلن ف"فلسفة ابن سينا المشرقية، بل ومجمل فلسفته، هي من تلك الفلسفات "الناجحة" في إخفاء مضمونها الإيديولوجي، حتى تبدو وكأنها غير ذات علاقة بالصراع الإيديولوجي بالمرة"[17]. وهنا يكمن السر، فنقد فيلسوف قرطبة ومراكش للشيخ الرئيس كان بغرض الكشف عن الإيديولوجية الكامنة وراء الفلسفة المشرقية[18]، وهذا ما يبرر اتهام هذه الأخيرة بكونها أقرب من الكلام منها إلى الفلسفة.    
يتلخص ـ كما سيتضح لنا فيما تقدم من البحث ـ هذا النقد في فكرة أن مبادئ العلوم الجزئية إنما يكون بيانها على صاحب العلم الإلهي وهو الذي ينظر في ما بعد الطبيعة. وهذا يؤدي ضرورة إلى وضع المبادئ الكلية للعلم الطبيعي وضعا، طالما أنه واحد من العلوم الجزئية. وهذا الموقف لا يحدث أي خلل معرفي عندما يرى أن العلم الطبيعي والعلم الإلهي كلاهما يبحثان في الجسم الطبيعي. فلكل علم جهة نظره الخاصة بشأن موضوعه شرط أن يتسلم صاحب العلم الطبيعي مبادئه الأولى للجسم من العلم الإلهي مبرهنا عليه.
يرى ابن رشد أن ابن سينا لا يميز بين الجوهرين السرمدي غير الكائن وغير السرمدي الكائن، فالجوهر الكائن الفاسد مركب من مادة وصورة، أما الجوهر السرمدي فهو على خلاف ذلك شيء متبرئ من الهيولى، فضلا عن أن الجوهر الكائن الفاسد جوهر محسوس وليس موجودا مجردا ومفارقا.
يصادر ابن سينا مبادئ العلم الطبيعي لصالح العلم الإلهي، فالعلم الطبيعي حينما يبحث (ينظر) في مبادئ الجوهر، إنما ينحصر بحثه في مبادئ جوهر متحرك، وأما العلم الإلهي فينظر إلى هذه المبادئ على أنها مبادئ جوهر غير متحرك. معنى ذلك أن ابن رشد لا يعطي فضلا للعلم الكلي على العلم الإلهي، أي حق برهنة أو فرض مبادئ العلم الطبيعي إلا في منطقة محددة لا تخص الموجود المتحرك بما هو متحرك بل تخصه بعده موجودا مطلقا. فهناك انقسامات عامة تخص كلا العلمين الإلهي والطبيعي مثل: انقسام الموجود إلى: جوهر وعرض؛ قديم وحادث؛ واجب وممكن؛ علة ومعلول؛ قوة وفعل...
وبالجملة فإن سوء فهم عبارة: "فالصناعة العامة قد تتكلف بيان سائر المبادئ"[19]، هي التي جعلت ابن سينا يقع في الغلط الذي وقع فيه، وهذا النقد في حقيقة الأمر إنما يجسد المشروع النقدي العام لابن رشد الذي يتأسس على ثلاث مجالات كبرى[20]: نقد منطق الفارابي، ونقد طبيعيات ابن سينا، ونقد ميتافيزيقا الغزالي.
2 - الوجه الابستمولوجي للإشكال:
سنقف في هذا المستوى على الإشكال الذي تطرحه العلاقة بين العلمين على المستوى المعرفي، وبذلك سنتجاوز المستوى الانطولوجي والمنطقي. ذلك أن هذه العلاقة تستدعي وجود نظرية معرفية وراءها. فالتصور الأرسطي ينبني في معظمه على نقد الفلسفة الطبيعية من جهة، وعلى نقد فلسفة أفلاطون من جهة أخرى. هكذا نكون إزاء نظرية متكاملة يراد لها أن تكون بديلا عن نظرية أفلاطون. في نفس الوقت يكون ابن رشد محكوما بخلفية عصره، فنقده للجوهر الفرد ليس بريئا بل تحكمه غايات وأهداف تتجاوز الدفاع عن الإرث الأرسطي لأن الهجوم على الفقهاء، لا يبرره الجهل بفلسفة الحكيم وإنما وراء ذلك مشروع فلسفي ضخم[21]. ونحن نذهب هنا مع الجابري إلى القول إن النزعة البرهانية هي السر وراء مشروع ابن رشد التنويري والعقلاني، كنزعة تروم تقويض نظرية المثل لصالح نظرية الوجود، أي تعطي الأولوية للوجود على الماهية، وتجعل الأنطولوجيا مبنية على مبادئ علمية مؤسسة على البرهان بدل المبادئ الجدلية والأقاويل السوفسطائية. وفي نفس السياق ينبغي التنبيه إلى أن هذا، لا يعني الاقتصار على نظرية المعرفة الأرسطية (فهذا الموضوع وحده يشكل مجالا خاصا)، بل نتجه صوب نظرية المعرفة الرشدية التي تتأسس على نقد المتكلمين والفلاسفة والفقهاء معا، بهدف بناء تصور كامل وجديد للعالم قوامه الوفاء للفلسفة الأرسطية، على الرغم من أن ظهور نص "تلخيص السياسة لأفلاطون"، يستوجب البحث في علاقة ابن رشد بهذا الأخير وما إذا كان له تأثير في تصوره العام للعالم[22].
يتمثل الوجه الإبستيمي للعلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة في البدائل التي يقدمها ابن رشد لتصورات ابن سينا والفارابي والغزالي في إطار مشروع نقدي شامل يضم المباحث الثلاثة الكبرى: المنطق والإلهيات وعلم الطبيعة. ونكتفي ها هنا بفقرتين لبيان عمق النقد الرشدي لابن سينا والفارابي فيما يتصل بالعلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة: تتمثل الفقرة الأولى في قوله في "شرح البرهان": "وقول من قال: إنما لم تذكر الجزئية في البراهين لأنها داخلة تحت الكلية ـ قول خطأ، كما قال محمد أبو نصر الفارابي في كتابه في "البرهان". وإنما يصح هذا القول في المقدمات الجدلية، أعني هذا التحليل، وهو الذي قاله أرسطو في الثانية من "الجدل". فالتبس الأمر على أبي نصر، فظن أن الأمر في ذلك واحد في البرهان والجدل. إلا أن يريد مقدمات البراهين الصغرى المستعملة في الصنائع العملية القياسية"[23]. أما الفقرة الثانية فنأخذها من "تفسير ما بعد الطبيعة"، حيث يقول: "وأما ابن سينا فلما اعتقد صحة القول بأن كل علم لا يبرهن مبادئه وأخذ ذلك بإطلاق، اعتقد أن مبادئ الجوهر المحسوس سواء كان أزليا أو غير أزلي، صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكلف بيان وجودها فقال: إن صاحب العلم الطبيعي يضع وضعا أن الطبيعة موجودة وأن صاحب العلم الإلهي هو الذي يبرهن وجودها ولم يفرق بين الجوهرين في ذلك كما وقع ها هنا في هذا الكلام بحسب ظاهره."[24]
أما بصدد نقده للغزالي فواضح للعيان بالنظر إلى تخصيص كتاب "تهافت التهافت" بأكمله لدحض الافتراءات التي تعرضت لها الفلسفة من طرف العقل الأصولي. وبهذا يتضح ما سميناه في المدخل باسترتيجية النقد والتي تتجسد في أعمال ثلاثة: شرح وتلخيص كتاب "البرهان" اتجاه الفارابي، ورسالة وتفسير "كتاب ما بعد الطبيعة" اتجاه ابن سينا، وكتاب "تهافت التهافت" اتجاه الغزالي. وهذا لا يحتاج إلى بيان[25]، وتشديدنا على ابن سينا والفارابي تحديدا فمرده إلى التقدير الذي يحضى به هؤلاء العمالقة لدى أبي الوليد.
ولقد اقتضت رؤيته التقدمية والمتنورة للعالم إرساء دعائم تقاليد جديدة للتعامل بمقتضاها مع الفكر الفلسفي: فالحكمة لا تتعارض مع الشريعة لأن "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له"، وما يعنيه ذلك من إثبات "للفاعل الأول"، وللمحرك الذي لا يتحرك كفاعل ومحرك مفارق، فالجوهر المفارق يتصل أشد الاتصال بالعالم الحسي، وهنا نقطة التقاطع بين الطبيعيات والإلهيات، سعيا وراء تجاوز أرسطو، حيث نقرأ له في تفسير ما بعد الطبيعة، مقالة اللام: "إذا المادة ليس لها وجود خارج النفس من جهة هذا التصور بالعقل لها أعني كونها مشتركة لجميع الكائنات الفاسدات. إذ كان تصورا لها من جهة العدم. وإذا كان هذا هكذا، فالشيء الذي هي به المادة مخالفة للعدم وموجود من الموجودات خارج النفس إنما هو كونها موضوعا للشخص المحسوس الذي يرى لا الشيء الذي يعقل منها وهذا هو التصور التام للمادة. وهذا شيء لم يذكره الحكيم في موضوع من المواضع ولكنه شيء تعطيه أقاويله في المادة"[26].
لنلاحظ في هذا الموضع كما في مواضع أخرى استراتيجية النقد التي سنها ابن رشد حتى مع الحكيم والمعلم الأول، ولا يستثني من النقد أحدا من الشراح[27]. وهذا ما حدا بالعديد من المهتمين بالنص الرشدي إلى القول أن تفسير ما بعد الطبيعة يمثل بحق أنضج مؤلفات ابن رشد بالنظر إلى كثافة المادة التي يتضمنها، من جهة المضمون ومن جهة الشكل، فهو نص كثيف لا غنى عنه لأي مهتم بالإرث الرشدي. ويمكن صياغة الأسئلة الأساسية التي تثير الاهتمام في هذا المستوى من التحليل على الشكل الآتي: هل يقدم ابن رشد نظرية في المعرفة؟ ما هي عناصر هذه النظرية؟ كيف استطاع ابن رشد التأسيس لقول في مجال المعرفة؟ هل يمكن الحديث عن انفراد ابن رشد بقول في هذا المجال؟ ما هي التصورات المعرفية التي تجاوزها؟ هل استطاع أن يتجاوز المنظومة الأرسطية؟ ما دور ابن رشد في الطبيعيات الحديثة التي ازدهرت في الغرب؟





[1]  - التواريخ الواردة في هذا البحث والمتعلقة بحياة الفلاسفة اليونانيين هي تواريخ غير متفق عليها، ولكن متداولة جدا في تاريخ الفلسفة بالنظر إلى أن تاريخ الفلسفة اليونانية يطرح مشكلة كبيرة جدا تتعلق بمنهج التأريخ وبالصعوبات التي تعترض التدقيق في حياة الفلاسفة. وقد اعتمدن في أغلبها على كتاب إميل برهييه:
- - Émile Bréhier: Histoire de la philosophie, Tome premier. L’Antiquité et le Moyen âge. Librairie Félix Alcan, Paris, 1928.
[2]  - أنظر في هذا الفصل الخامس حول نقد نظرية المثل.
[3]  - يقول ابن رشد : "وقد كان ابن سينا يعتقد أنه (أي الفيلسوف) هو الذي يبرهن وجودها وأن صاحب الفلسفة الطبيعية يتسلم وجودها من صاحب هذا العلم (ما بعد الطبيعة)"، التفسير مقالة الدال الجزء الثاني: 508، 9-11.
[4]  - وهذا لا يعني أن ابن رشد مستقل تمام الاستقلال عن ابن سينا، بل ظل يرزح في العديد من المواقف والرؤى تحت تأثير ابن سينا.
[5]  - مقالة اللام، تفسير ما بعد الطبيعة، تحقيق موريس بويج، ص 1433.
[6]  - تفسير ما بعد الطبيعة، (50، 7).
[7]  - وبخصوص هذه النقطة ترتكب أخطاء في حق ابن رشد فهذه الدكتورة زينب العفيفي ترى أن ابن رشد خلط في معالجته لمسألة العالم بين العلم الطبيعي وما بعد الطبيعي (العلم الإلهي) ولم يلتزم مبدأ الفصل بينهما، حيث تقول: "نرى أن ابن رشد في دراسته الطبيعية لم يلتزم بهذا الفصل وخلط بين مجالات الفلسفة الطبيعية والفلسفة الإلهية حين تناول بالدراسة العالم ومبادئه وموجوداته"، وهذه المسألة (أي مسألة العالم) ناقشها ابن رشد في العلم الطبيعي كما في علم ما بعد الطبيعة. لذلك فإشكالية العالم حاضرة في كلا العلمين وتصلح أن تكون جسرا بينهما، وحضورها في كليهما تم بكيفية مغايرة ومتباينة ومختلفة. زينب عفيفي شاكر: "العالم في فلسفة ابن رشد الطبيعية"، مكتبة النهضة المصرية 1993، ص 19.
[8]  - وفي هذا يقول ابن الآبار في التكملة لكتاب الصلة: "إن ابن رشد لم يدع النظر والقراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحو من عشر آلاف ورقة".
[9]  - كما هو متداول في الفكر العربي الإسلامي، أي فيما يعرف بالأرسطية العربية.
[10]  - يقول ابن رشد: "ليس للجوهر برهان لأن البرهان هو من الجواهر على الأعراض وليس للجوهر جوهر، ولذلك ليس يوجد للجواهر حدود. ولذلك ليس يوجد على الجواهر براهين هي حدود متغيرة في الوضع بل إنما يلقى ذلك في الأعراض". التفسير: 702، 14.
[11]  -ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة، مرجع سابق، تحقيق موريس بويج، 775، 7.
[12]  - ابن رشد: تلخيص البرهان، (337، 4)، تحقيق جيرار جهامي، منشورات الجامعة اللبنانية، قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، 12، المجلد الثاني، بيروت 1982.
[13]  - تلخيص البرهان، نفس المرجع، 395، 15.
[14]  - تلخيص البرهان: 395، 14 – 20.
[15]  - نعرض هنا جزء من نقد ابن رشد لابن سينا الذي نعرضه في الفصل الرابع من هذا البحث، وذلك فقط لبيان دور المنطق في الاعتراض على استقلالية العلم الطبيعي عن ما بعد الطبيعة. أنظر الفصل السادس من هذا البحث.
[16]  - تلخيص البرهان: 395، 17-20.
[17]  - نحن والتراث: م، ن، ص 205.
[18]  - يقول الجابري في هذا: "إن الفيلسوف الذي لا ينتج الايدولوجيا، هو أخطر فيلسوف. غنه يعيد إنتاج ايديولوجيا سابقة". نحن والتراث:  م، ن، ص 205.
[19]  - شرح البرهان/ مرجع سابق، ص 297.
[20]  - سنبين فيما يلي من البحث أسس هذا المشروع النقدي إن اتضح لنا فيما تقدم ضرورته.
[21]  - وهو مشروع مجتمع سياسي على حد تعبير جمال الدين العلوي: "إن هناك وحدة تنتظم فيها جميع مؤلفات ابن رشد. وأن هذه الوحدة تعبير عن مشروع معرفي من جهة وعن مشروع مجتمعي ـ سياسي من جهة أخرى"، مقال: "مدخل لقراءة الخطاب الفلسفي لابن رشد"، مجلة آفاق ، العدد الثامن، ص 39.
[22]  - من المؤكد أن بحثنا بخصوص الوجه الإبستيمي للإشكال لن يقف على هذا التصور كما صاغه ابن رشد في معظم مؤلفاته وعلى الأخص في الكتب التي وضعها بنفسه (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال، وتهافت والتهافت)، وإنما سنكتفي بما يخدم موضوعنا هنا فقط، لأن هذه المسألة تستوجب بحثا خاصا في نظرية المعرفة عند ابن رشد، وسنجانب الصواب إن ادعينا إمكانية بحثها هنا.
[23]  - ابن رشد، "شرح البرهان"، تحقيق بدوي عبد الرحمن، ص 289.
[24]  - التفسير، م،ن، ص 1423 – 1424. ونجد في رسالة السماع الطبيعي نقدا مفصلا بصدد هذه المسألة حيث نقرأ: "إن ابن سينا متعسف على المشائين في قوله أن هذا الحد ها هنا للطبيعة غير بين بنفسه، وأن صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكفل بيان ذلك (...) وإن كان أراد بذلك أن الطبيعة مجهولة الوجود كما هو الظاهر من قوله، وأن صاحب العلم الإلهي يبرهن وجودها فقد أخطأ. وذلك إن تبرهنت فإنما تبرهن من الأمور المتأخرة التي في هذا العلم، أعني العلم الطبيعي، ولو تبرهنت في العلم الإلهي لوجب أن تبرهن من أمور هي أقدم منها وأعرف عندنا وذلك غير ممكن". ويواصل نقده لابن سينا قائلا: "والعجيب من ابن سينا حيث يقول انه يجب على صاحب هذا العلم أن يتسلم وجود المادة الأولى عن الفلسفة الأولى وليست هاهنا الضرورة التي يتسلم بها صاحب علم من علم آخر شيئا ما ويلزمه مثل ذلك في المحرك الأول ولا سبيل إلى بيان وجوده إلا في هذا العلم". م، ن، ص 32 – 38. ولكي نعطي لهذا النقد حقه من التحليل فقد خصصنا فصلا كاملا لنقد ابن رشد لابن سينا.
[25]  - ينبغي فقط أن نأخذ بعين الاعتبار أن النقد الذي يوجهه لكل واحد من هؤلاء نجده في اغلب نصوصه، وتشديدنا هنا على هذه النصوص إنما انسجاما مع منطلقنا حول استراتيجية النقد من جهة، ومن جهة أخرى بالنظر إلى حضور كل واحد من هؤلاء في كتب من الكتب السالفة، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد ذكر ابن سينا في التهافت اثنان وثمانون مرة في حين أنه ذكر الغزالي أكثر من ذلك بكثير.
[26]  - تفسير ما بعد الطبيعة ص 1473، فقرة 14، 15و ص 1474 فقرة 14 ، 1- 7.
[27]  - يتوجب علينا هنا التنبيه إلى أن نقد ابن رشد لا يقتصر على الفلاسفة المسلمين بل يمتد ليشمل الشراح الذين عرفوا في عصره والذين يحتلون مكانة هامة في تاريخ الفكر و الثقافة الغربية، ونخص بالذكر منهم ثامسطيوس  والاسكندر الأفروديسي.، وسوف نتناول هذا النقد دون أن نفصل فيه، لأن ذلك يستلزم تتبع مساره في مختلف نصوص ابن رشد، وهو ما لا يتسع لهذا البحث وربما يمكن أن يكون مادة لمقالة خاصة حول استراتيجية النقد عند ابن رشد.
للمزيد أنظر في هذا: محمد فتحي عبد الله:  "مترجمو وشراح أرسطو عبر العصور"، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2000.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق