الأربعاء، 28 يونيو 2017

في صحبة ابن رشد: 8 – ضرورات الحياة وانشغالات الفكر


كوة: العروي رشيد
العودة إلى مختلف سير المفكرين والأدباء والنخبة عامة، يؤكد المفارقة بين ضرورات الحياة وانشغالات الفكر: كيف استطاع ابن رشد التوفيق بينهما؟


لم تصلنا أخبارٌ كثيرة حول حياة ابن رشد الزوجيَّة ولا عن حياتِه الأسريَّة (أما العائليَّة فقد كُتِب حولها ما تيسر لضلوعها في الفقه والقضاء والطب...) لأمرين:
·       الطبيعة المحافظة لمجتمع عصره والصمت المطبق على حياة الناس الحميمية، شأن مختلف علماء وفلاسفة عصره.
·       سكوت أهل التراجم والسير ومحرِّري طبقات الأمم من ذكر هذا الجانب من حياة النُّخب.
غير أن المناخ الذي عاش فيه ابن رشد متقدم في زمانِه وبيئتِه، فداخل البلاط لا يمكن لفيلسوفٍ ومعه أسرتُه أن يكلف نفسه عناء البحث عما يسد به رمقه اليومي، لأن جل الضروريات متوفرة ومتاحة له بقدر ما هي متاحة لأفراد البلاط، بل إن روتين الحياة اليوميَّة يظل مُعقلناً وخاضِعا لنظام صارم لترتيب الانشغالات واتمام المهام على أحسن وجه، ممَّا جعل الصورة النَّمطِيَّة التي رُسمت حوله وحول مجتمع البلاط آنذاك في أبهى حُللِها.
كيفما كانت قدراتك على التخييل فإن إعادة كتابة الحياة الزوجيَّة واليوميَّة لابن رشد، فإنها لن تتجاوز مستوى الحِبكة الأدبيَّة سرداً ووصفاً ولعل "من شرفة ابن رشد" وما جاء في "لسان آدم" كافٍ.
هكذا قِيل عنه أنه لم يتوقف عن الكِتابة إلا ليلتين: ليلة زواجه وليلة وفاة أبيه، حيث يقول ابن الآبار في التكملة لكتاب الصِلة: "إن ابن رشد لم يدع النَّظر والقراءة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائِه على أهلِه، وأنه سود فيما صنف وقيد وألف وهذب واختصر نحو من عشر آلاف ورقة". وما نعلمه أن فيلسوفاً من طينته، طبيعي أن تُحاط بِه هَالة بفضل سُلطتِه المِعرفيَّة أولاً، ومكانتِه الاجتماعيَّة والسيَّاسيَّة والثقافيَّة كقاضي القضاة ثانياً، وحُظوته في صُحبة السُّلطان كمستشار في قضايا مؤرقة ثالثا. لذا لا نستطيع قول الكثير عن عرس ابن رشد أو علاقته مع زوجته، رغم أن مواقِفه من المرأة عموماً (والتي سنعالجها في حلقات قادمة) قد يُلخِص لنا طبيعة علاقِته مع أسرته، فابنه بعده قد تولى مهمة التطبيب في عهد السلطان الناصر.
قد يكون قول ابن الآبار صحيحاً من جهة أن ابن رشد يشتغل طوال اليوم كقاضي ولا يجد الوقت الكافي لإنهاء قضايا العدالة، وبالتالي لن يبقى له إلا اللَّيل لاستكمال مُهمتِه التي تشهد عليها شروحاتُه وتلاخِيصه وتفاسِيره بضخامتها، وقد يكون قولاً مبالغاً فيه لبيان مكانتِه وباعِه الطويل في الاهتمام بالفلسفة، غير أن أثره يشهد على ثِقل مهمتِه التي كرَّس لها كل وقته إلى حين وفاته.
وضع ابن رشد لنفسِه مهمةً ما كانت بيسيرة في زمانه، فبالنظر إلى ما لَحِق فلسفة الحكيم والمعلم الأول من تحريف وتشويه وسوء فهم، انخرط في مهمة تقويم التشويهات التي لحقتها. ملخصا ذلك في قوله: "وإنما اعتمدنا نقل هذا الرأي من بين آراء القدماء إذ كان قد ظهر للجميع أنه أشدُّ إقناعاً وأثبتها حجةً. وكان الذي حرَّكنا إلى هذا أن كثيراً من النَّاس يتعاطون الرَّد على مذهب أرسطو من غير أن يقفوا على حقيقة مذهبه" (رسالة السماع، ص 27).
لقد كلفته تلك المهمة عناء وشقاء كبيرين، وكان ثمن دفاعه عن الفلسفة هو المِحنة التي تكبدها في أواخر حياته. لأنه لم يكن يدافع عن الفلسفة من باب الدفاع وإنما لإحساسِه بقيمة المُهمة الملقاة على عاتقه، ولحاجة عصره إلى التفكير النقدي في زمن الاضطرابات السيَّاسيَّة وتنامي فكر التكفير وشيوع الفتنة وازدهار سوق المروق والزندقة اتجاه المعارضين وتغلغل إيديولوجيَّة التطرف الدِّيني. ففيلسوف قرطبة يختار النصوص ويتفاعل معها من موقع العارِف والمُلِّم بشكل دقيق بخبايا الفلسفة الأرسطيَّة.
يذكرني قول ابن الآبار بسيرة ابن ميمون الذي تزامن مُخطط كتابه «دلالة الحائرين»، مع موت أخيه الذي آلمه كثيراً، وسبَّب له محنة كبيرة وهو منشغِلٌ بتداوي النُبلاء أيام صلاح الدين بمصر، بحيث لا يجد وقتاً فارِغاً لاستكمال أبحاثِه في الفلسفة، خاصة مع أرسطو الذي يُقدِرهُ كثيرًا. وقد اشتُهِر بنباهتِه وكفاءتِه العلميَّة والدينيَّة. وكرَّس معظم وقته للعمل كطبيب، لا يجد الوقت الكافي للمطالعة والكتابة، حيث يقول في رسالته إلى أخيه: «أخبرك أني حظيت في الطب بشهرة واسعة في أوساط العظماء، مثل كبير القضاة والأمير. أما بالنسبة للعامة، فينظرون إليَّ بوصفي شخصاً بعيدُ المنَال. ويضطرني هذا الأمر إلى إضاعة طوال اليوم في القاهرة لزيارة المرضى من النبلاء. وعند عودتي إلى الفسطاط، أقضي ما تبقى من اليوم واللَّيل في دراسة الكتب الطبيَّة التي هي ضروريَّة لي. وأنت تعلم مدى صعوبة هذا العلم لكل إنسان دقيق ذي ضمير حي، ولكل من لا يرغبُ في إقرار شيء لا يستطيع البرهنة عليه ودون معرفة ما أشير إليه وكيفيَّة شرحه. وأسفر هذا الوضع، عن أنه لم يعد لدي وقت كافٍ لدراستها، وهذا الأمر يزعجني. ولم أجد بعد الوقت اللاَّزم لقراءة أعمال أرسطو" (Twersky 1972).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق