جمال أبناس باحث مغربي
من المميزات الأساسية في التجربة الدينية، أنها تجربة اختيارية، ومن صميم
القرار الحر للإرادة، فلا إكراه ولا غصب فيها، لأنها تعبر في ذاتها ومن خلال
طبيعتها عن الإرادة الحرة للمعتقد إزاء ما يعتقده فيه، ما يجعله مرتبطاً بكل مبادئ
التجربة الدينية عن طواعية، فالتجربة الدينية تجربة الحرية في أعمق مستوياتها ، ووليام جيمس
في هذا السياق من بين الفلاسفة الذين دفعوا وبشدة على حق الفرد في أن يعتقد فيما
يشاء،
فلما كانت إحساساتنا وانطباعاتنا مختلفة ومتفاوتة في درجة تأثيراتها وقوتها،
فإن التطابق مع مبادئ التجربة الدينية يكون متباينا من فرد لاخر، وهو نفس الشيء الذي يجعل كل متدين في
ارتباطه بالدين، قد بلغ درجات في الإيمان والاعتقاد، غير الدرجات التي قد يصل
إليها فرد أخر، فمن المستحيل التطابق
تطابقاً واحداً في التجربة الدينية، فالله يفهم بصُور مختلفة حتى وإن بدت متشابهة،
فهناك من يؤمن ومن لا يؤمن، وهناك من يعتقد في وجود الله باعتباره حقيقة مطلقة،
وهناك أيضاً من لا يؤمن به ويُنكر وجوده، وستظل الأمور على هذا المنوال، لأن من لا
يؤمن بوجوده مبدع للكون انطلق من إرادته، وهذه الأخيرة هي التي أفضت به إلى الاستقرار
في تجربة الإعتقاد، ونفس الشيء بالنسبة للذي لا يؤمن، فكذلك استقرت ارادته في عدم الاعتقاد في عدم وجود الله ، وفي نظر وليام
جيمس هذه الخاصية في التجربة الدينية هي التي ينبغي أن تجعلنا من المدافعين عن
التصور الذي يعتبر بأن الجربة الدينية، هي مسألة إرادة أولاً قبل كل شيء، فلا يمكن
أن تصير متديناً إلا بتوافق مع إرادتك، لأن هذه الأخيرة هي التي تحدث كل شيء يقع
في تاريخك، وهي التي تتكلف برسم التخوم بين تجربة قديمة وأخرى جديدة.
إن قضية الاعتقاد عند الإنسان
إذن قضية شخصية إلى درجة كبيرة، ولا يحق لأي شخص أن يفرد على الأخر معتقداته بدعوى
أنها معتقدات مطلقة وأكثر يقين من معتقداته، لأن الإنسان ليس في حاجة في نهاية
المطاف أن يبرر لغيره من الناس "
براءة اعتقاداته "، هل هذه الاعتقادات صحيحة، أم باطلة؟، فالأمور كما يراها
الأمريكي، ومن خلال مجموعة من الدراسات التي خصصها لفلسفة الاعتقاد وبالتحديد فيما
يتعلق بصحة المعتقد من غير صحته يؤكد أن للإنسان الحق في أن يعتقد في أي معتقد
أراد الاعتقاد فيه دون الارتباط بما يكفي من الأدلة العقلية والمنطقية التي تثبت
صحته، ذلك أن الاعتقاد علاقة محددة بين المُعتَقد والمُعَتقد فيه.
بهذا المعنى ارتكزت براجماتية
وليام جيمس في علاقتها بموضوعات فلسفة الاعتقاد على مفهوم التجربة الفردية
المستقلة، هذا المفهوم ذاته الذي قاد وليام جيمس إلى رفض المبادئ التي تقوم عليها
الفلسفة التصورية في فلسفة الاعتقاد، فالفلسفة التصورية كما حدد بذلك وليام جيمس،
فلسفات لا تقبل التسليم بشيء ما لم تقم البينة عليه فهده هي قاعدة المذهب العقلي.[1]
إن ما يفسر هذا الارتباط بهذا
المبدأ هو كون الفلسفات التصورية تقوم على مسلمات بما هي صيغ مكتملة وشرطية في الاعتقاد،
فينبغي دائما لمجموع مضامين الاعتقاد أن تتوافق وتلك الصيغ الشرطية، لأنها إشراطات
تطبق في جميع مناحي الحياة، في المعاملات والعلاقات، ويلخص وليام جيمس هذه المسلمات في ثلاثة مستويات أساسية،
أولهما أن الغاية التي تصبو إليها الفلسفة
الكلاسيكية هي عدم الوقوع في الخطأ[2]،
لأن فعل الإيمان والاعتقاد من الأفعال
التي تسعى إلى جني الحقيقة مع العلم أنه قد يقع أن لا يجنيها، أما ثاني هذه
المستويات فتفيد سلبية الإنسان في علاقته بالإعتقاد، فهو يتلقى وحسب، لأن الإنسان
يتعامل مع عالم تم تكوينه قبل أن يتعامل معه، فوقائع العالم محددة والإنسان لا
قدرة له على أن يغير ما ينبغي الاعتقاد فيه، اما
المسلمة الاخيرة فتفيد أن
اعتقاداتنا وأفعالنا المؤسسة على هذا النحو، وإن تكون أجزاء من العالم، لا تعدو كونها أشياء خارجية، بحيث لا تعدل على
أي نحو في مغزى سائر أجزاء العالم حين تنضاف إليها[3]"
يتجسد عيب هذه المسلمات في أنها تغفل القيمة الحيوية للاعتقادات ، وتغرق نفسها في
التصنيفات والتمييزات الصورية للاعتقادات ما حولها الي نظام محدد ومكتمل في الاعتقاد،
فعبر هذه المبادئ تسعى الفلسفات التصورية فرض نظام من الاعتقادات التي لا ينبغي
اختيار سواها أو التشكيك في مصداقيتها، لأنها خضعت لشروط المعقولية واحتكمت لمبادئ
المنطق والحال أن منطق الاعتقاد يتنافى تماماً مع المنطق الذي تود النزعات
التصورية الانتصار له، على اعتبار أن الإيمان تجربة روحية نفسية ، تفعل نفسها بطريقة خاصة وفي
ارتباط بإرادة المعتقد وحدها.
وفق هدا يرى وليام جيمس عملاً
بالمبدأ العملي أن الإيمان سلم قائم على الخطوات التالية :
1)
ليست ثمة تناقض في كون وجهة نظر خاصة بالعالم صادقة، فليس ثمة شيأً متناقض
في ذاته.
2)
قد تكون وجهة النظر هذه صادقة في كنف شروط معينة.
3)
وقد تكون صادقة حتى الآن.
4)
وهي صادقة لأن تكون صادقة.
5)
ويجب ان تكون صادقة.
6)
ستكون صادقة على أية حال بالنسبة لي.
تبرز هذه الخطوات منحدر الإرادة الطيبة، هذه الأخيرة التي لا يمكن للإنسان
كما يرى وليام جيمس أن يستغني عنها، وبما أن منحدرات الإرادة بصفة عامة عند
الإنسان، مختلفة ومتفردة من شخص إلى أخر،
فإنه من الأكيد بأن الانتقالات وبناء العلاقات سيكون وفق مستويات تلك الإرادة الشخصية، فما قد يكون صادقاً لك ليس
هو ما قد يبدو صادقاً للأخر، فهو صادقاً بالنسبة لي، لأنني أريد أن أصدقه الآن
والهنا.
سيدهب وليام جيمس إلى أبعد من هذا وسيعتبر الاعتقاد والإيمان مجالا للاحتمالات
" فينبغي أن نسمح
لإرادتنا أن يكون لها حق التصويت، وهذا الإعتراض يمنعنا من أن نسلم بأن يكون هذا
العالم - حقيقياً صادقاً - ويبقى الإيمان على ذلك حقاً من الحقوق الثابتة النابعة
من ذهننا، ويجب يقيناً، أن يظل موقف عملياً، لا موقف دوغمائياً قطعياً وينبغي
لإيماننا أن يقف موقف تسامح مع ألوان الإيمان الأخرى مع البحث عما هو أشدها
احتمالاً ومع الوعي الكامل بالمسؤوليات والمخاطر[4]"
يقدم لنا وليام جيمس من خلال دفاعه عن الحق في الحرية
الروحية أو حرية المعتقد درساً فلسفياً وانتربولوجيا مفاده أن الاعتقاد مفهوم معين
في الإختلاف الروحي والنفسي لهذا يدعو تجاوز النقاشات الكلاسيكية العقيمة في مسائل الاعتقاد
ورفض تلك النزعات الفلسفية وجميع مشاريعها التي تتمثل في السعي إلى " صورنة
" مضامين ومعطيات التجربة الدينية في حين ان الأمر يتعلق بتجربة وإرادة
الأفراد أنفسهم، فهم من يقرر كل شيء في علاقتهم بمعتقداتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق