الأحد، 19 فبراير 2017

الفلسفة وباقي العلوم: صارت أبا ولم تعد أما!

يقول ابن رشد "يظن كثير من الناس أن العلم الطبيعي والإلهي شيء واحد بعينه..."
         كيف ينظر الفيلسوف إلى العلوم الجزئية؟ وهل له الحق في وضع مبادئ العلوم الجزئية؟ كيف ذلك؟
قد يبدو القول باختلاف جهة النظر الفلسفي والعلمي إلى المبادئ، وكأنه سحب لمهمة ولدور الفلسفة الأولى في البرهنة على مبادئ العلوم. أي أنه سيؤدي إلى عدم إدراك التمايز بين العلوم الجزئية وعلم ما بعد الطبيعة، حيث يشير ابن رشد إشارة مباشرة إلى أن عدم التمييز بين الجواهر المحسوسة والجواهر المفارقة وإدراك الاختلاف بينهما قد يؤدي بالبعض إلى الاعتقاد باتحاد المجال الطبيعي بالإلهي. وبالتالي القول بأن العلمين: الطبيعي والإلهي علم واحد، فقد "يظن كثير من الناس أن العلم الطبيعي والإلهي شيء واحد بعينه..." [1]، وهؤلاء جعلوا العلمين جنسا واحدا واختلط لديهم العالم الحسي بالعالم العقلي. واعتبروا أن الموجودات قسمين، محسوس وغير محسوس، وهكذا فالموجودات تقع ضمن جنس واحد، مما حدا بهم إلى طلب مبادئ الأمور المحسوسة من أمور غير محسوسة اعتقادا منهم أن "المعقول سبب للمحسوس"، ونرى أن ابن رشد ينقل ويشرح ما يذهب إليه أرسطو دون أن يقحم نفسه في ذلك، معتبرا أن الكلام في هذا هو نقد للفلسفة الطبيعية التي سادت في اليونان قبل سقراط. ولا أدل على ذلك ما يذهب إليه الفيثاغوريون الذين "لم يطلبوا مبادئ الأمور المحسوس من حيث هي محسوسة ومتحركة وإنما طلبوا مبادئها من الأمور الغير متحركة وهي التعاليم"[2].

نجد في شرح البرهان تفسيرا واضحا وجليا لهذه المسألة، وقد سبق وأن وقفنا عليه بشكل جزئي خلال حديثنا عن دور البرهان في تحديد العلاقة بين العلمين، ولكننا هنا سنعمل على تحليله تحليلا وافيا نظرا لكونه نصا يجمل القول في هذه الإشكالية التي نحن بصددها.
يقول ابن رشد: "الفلسفة الأولى، وهي التي الناظرة في الموجود بما هو موجود. وذلك أن هذه الصناعة لما كان نظرها في الموجود بما هو موجود، وفي أنواع الوجود، وكانت موضوعات الصنائع من أنواع الموجود، فإذن هذه الصناعة هي التي تتكفل بإعطاء أسباب موضوعات الصنائع أعني إذا أخذت بالجهة التي تنظر فيها الصنائع مثال ذلك أن صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يصحح ويعطي الجهة التي هو بها العدد موجود، أعني الجهة التي هو بها ذلك الموضوع موجود خارج النفس، لا الجهة التي هو بها موضوع لتلك الصناعة. وإذا كان جنس موضوعات الصنائع إنما هو الموجود، فظاهر أن الذي يعطي أسبابها من حيث هي موجودة فقط هو الناظر في الموجود المطلق وهو صاحب صناعة الفلسفة الأولى. وإذا كان ذلك كذلك، فواجب ألا تعطي صناعة من الصنائع أسباب موضوعاتها إذا كان صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يعطي هذه، وهذه الأسباب جنس موضوع الصناعة، لا الأسباب الخاصة بموضوع الصناعة.
وإذا كان ذلك كذلك، فواجب ألا تعطي صناعة من الصنائع أسباب موضوعاتها التي هي بها أحد أنواع الموجودات، إذ كان صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يعطي هذه. وهذه الأسباب في الحقيقة هي أسباب جنس موضوع الصناعة، لا الأسباب الخاصة بموضوع الصناعة. وإن كان الأمر كذلك، فكيف ألزم عن كون الصناعة العامة ناظرة في بيان مبادئ سائر الصنائع ـ أن تكون الصنائع لا تنظر في مبادئها؟! لأن لقائل أن يقول إن مبادئ موضوعات الصنائع الخاصة إنما هي مبادئ خاصة لها، إذا أخذت بالجهة التي بها تنظر في الموضوع تلك الصناعة. وإذا كان ذلك كذلك، فالنظر في تلك المبادئ ذاتي لصاحب الصناعة. وعلى هذا نجد الأمر في العلم الطبيعي ينظر في المادة، وفي المحرك الأول، من جهة ما هما أسباب للحركة، لا من حيث هما أحد أنواع الموجودات.
وقد أشكل هذا الأمر على ابن سينا، حتى أخذ القول الماضي أخذا مطلقا، وظن أن صاحب العلم الطبيعي يتسلم من صاحب العلم الإلاهي للمادة الأولى والمبدأ الأول. ولم يرد أرسطو أن صاحب العلم الجزئي ليس يمكنه أن يبرهن أسباب موضوعه برهانا مطلقا، أعني برهانا يعطي السبب والوجود. وذلك أن أسباب موضوع الصناعة هي من الطبيعة الأعلى، أعني التي هي جنس ذلك الموضوع. والنظر في هذه الطبيعة إنما هو لصاحب العلم الإلاهي، وذلك أن الطبيعة التي تعم موضوعات الصنائع الجزئية هي: الموجود، وهو موضوع الفلسفة الأولى "[3].
يمثل هذا النص أهم نص يجمع بين ثلاثة أمور:
*               الحدود المشتركة بين العلم الكلي والجزئي: حيث يضع فيه ابن رشد نقط الالتقاء ونقاط الافتراق الحاصل بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة.
*               اختلاف جهة النظر بين الفلسفة الأولى وبين العلوم الجزئية[4] (والعلم الطبيعي تحديدا): حيث يبين فيه ويعين لكل من الفلسفة دورها ومهمتها في بيان أسباب جنس موضوع الصناعة، كما وضع فيه للعلم الطبيعي مهمته ودوره في بيان الأسباب الخاصة بصناعته التي يضعها بنفسه.
*               الرد على الشيخ الرئيس: حيث استغل هذه الفقرة لدحض رأي ابن سينا الذي يعتبره أبو الوليد رأيا خاطئا بالجملة، بالنظر إلى سوء فهمه لقول أرسطو في هذه القضية.
فإذا كانت الفلسفة الأولى تنظر في الموجود بما هو موجود، وفي أنواع الوجود التي هي موضوع الصنائع الجزئية. فإنها هي التي تتكفل بإعطاء أسباب موضوعات الصنائع الأخرى. أي أنها هي التي تعطي جنس موضوعات الصنائع، وتحدد جملة المبادئ التي تعطيها للعلوم الجزئية من جهة ما هي أنواع الموجودات، لا من جهة ما هي موضوعات لتلك العلوم، فالأسباب الذاتية تحددها الصناعة الجزئية المعنية بموضوعها.  ويتضح ذلك أكثر من خلال تمييز ابن رشد في النص أعلاه بين الأسباب الخاصة بموضوع الصناعة وأسباب جنس موضوع الصناعة، معتبرا أن الفلسفة الأولى تعطي للعلم الطبيعي أسباب جنس موضوعه، وتترك له المجال لتحديد أسبابه الخاصة، من جهة أن الأسباب الخاصة هي للعلم الجزئي في حين أن الأسباب العامة يحددها العلم الكلي.
وتتمثل الأسباب الخاصة بالعلم الطبيعي ـ كما أشرنا إلى ذلك في فقرة سابقة ـ في الحركة التي هي موضوعه الخاص. ويقصد أساسا حركة الأشياء الكائنة الفاسدة.
ومن هذا يتضح أننا أمام طريقين يضعهما ابن رشد "للنظار":
*               طرق الفلسفة الأولى: والذي يضع فيه الفيلسوف جنس موضوع الصناعة.
*               طريق العلوم الجزئية: حيث يضع الفيزيائي أو الرياضي، الأسباب الخاصة بموضوع صناعته.
ويذهب ابن رشد ابعد من ذلك حيث يضع حدا لهذا الإشكال القائم بين ما بعد الطبيعة والعلم الطبيعي ويقول: "وعلى هذا نجد الأمر في العلم الطبيعي ينظر في المادة، وفي المحرك الأول، من جهة ما هما أسباب للحركة، لا من حيث هما أحد أنواع الموجودات". وما يعنيه ذلك من تحديد لمهمة العلم الطبيعي الذي لا يقتصر في نظره على المادة بل ينظر أيضا في المحرك الأول من جهة أن ذلك مطلوب في مبادئ الحركة، وهو ما عمل عليه في الثامنة من السماع، لذا فنظر العلم الطبيعي هنا يفهم من جهة ما هو سبب للحركة، لأن الحركة تقتضي وجود مبدأ أول يحرك ولا يتحرك (المحرك الذي لا يتحرك)، وإلا صارت الحركة إلى ما لانهاية، وسيصبح أمر البحث عن المبدأ الأول أمرا مستحيلا لا في العلم الطبيعي ولا في ما بعد الطبيعة[5]. فالفعل الذي هو المحرك "يوجد متقدما بالزمان على المتحرك، ويرتقي ذلك إلى تحرك أول ومحرك أول ليس فيه قوة أصلا، يريد، ما تبين في السماع من أن الأمر يرتقي في المتحركات إلى محرك أول هو فعل ليس فيه قوة أصلا، بمعنى أن المتقدم بالزمان فهو متقدم"[6]، كما جاء في مقالة الطاء، وهو الأمر الذي طلبه أيضا في مقالة الباء التي استعمل فيها برهانا مأخوذا من علم طبيعي آخر جزئي بحيث لا يكتفي بالمبادئ العامة لهذا العلم التي أوردها في السماع بل انفتح على السماء والعالم حيث يقول: "فقد تبين في العلم الطبيعي أنه ليس شيء من التي لا تفسد بالجوهر فيها قوة على أن تفسد جواهرها وهذا شيء ذكره ها هنا ذكرا مجملا وبيانه على التمام هو في آخر الأولى من السماء والعالم فإنه هناك بين أنه ليس يمكن أن يكون أزلي فيه قوة على الفساد"[7]. فطلبه في الجوهر هو طلب للواحد، ما دام الجوهر الواحد هو الواحد بعينه[8]، الذي هو "مبدأ وجود الجواهر، ومبدأ عددها، الموجود في الجوهر، وإنما قصد بهذا أنه إذا أضيف إلى هذا ما تبين في السماع من أن ها هنا محركا أول أزليا بريا من كل مادة"[9].  
وفي هذا المستوى من التحليل استغل ابن رشد الفرصة للرد على ابن سينا، الذي أخذ هذا القول أخذا مطلقا، وظن أن الفيزيائي " يتسلم من صاحب العلم الإلاهي المادة الأولى والمبدأ الأول"، وهو الأمر الذي سنعالج في الفصل القادم ونفصل فيه جيدا.
يبقى لنا أن نفحص هنا أي نوع من البرهان استعمل ابن رشد في جهة النظر الفلسفي إلى العلوم، وهو ما يمكن نقول عنه أنه برهان أشد عمومية في علم ما بعد الطبيعة، حيث يستخرج ها هنا البراهين الطبيعية مخرجا اعم من مخرجها في العلم الطبيعي حيث يقول: "وإن استعمل ها هنا براهين العلم الطبيعي فهو يخرجها أعم مما هي عليه. وذلك أنه كلما كان البرهان أشد عموما فهو أخص بهذا العلم ولذلك يتحرى أرسطو من البراهين في هذا العلم فيخرج تلك البراهين الطبيعية هاهنا مخرجا أعم من مخرجها في العلم الطبيعي فهذا هو العلة في  تذكيره تلك البراهين وإعادته إياها في هذا العلم مثل ما فعل في مقالة اللام"[10]. مما يدل على أن جهة النظر تختلف باختلاف البرهان المستعمل وهو برهان عام يستعمله الفيلسوف في بيان أسباب جنس موضوع العلم الطبيعي، وهو الذي ذكره في شرح البرهان باسم البرهان المطلق، الذي يختلف على البرهان الذي تستعمله العلوم الجزئية، والذي يكون خاصا بالنظر إلى انصرافه إلى الأسباب الخاصة بموضوع الصناعة الجزئية، وهو ما يسمى ببرهان وجود (الدلائل)[11].
ب – جهة نظر العلوم الجزئية إلى مبادئها:
يمكن أن يوصف نظر العلوم الجزئية إلى مبادئها بأنه نظر بالاضطرار لأن موضوع العلم الطبيعي يتعلق بالجوهر المتحرك لذا لزم الأمر لبيان حركته أن ينظر في المحرك الأول الذي لا يتحرك لتفسير علة حركته. لذا فواجب على العلم الطبيعي أن ينظر في الجوهر المفارق كي يفسر حركة المتحرك. وعلى هذا الأساس فنظر العلم الطبيعي إلى موضوعه أي إلى الجوهر المتحرك هو نظر بالاضطرار لهذا السبب. وعلى هذا فهو نظر مخصوص بجهة واحدة، أو إن شئنا القول يتم بجهة واحدة، وعليه فبرهان العلم الطبيعي على وجود المادة الأولى والصورة الأولى والمحرك الأول، إنما من أجل غاية محددة هي فهم حركة الجوهر الحسي، وليس بغاية تعميمه على مختلف أنواع العلوم. فما كانت هذه مهمة أبدا.
وعليه فالعلم الطبيعي لا ينظر إذن في مبادئه بما هي مبادئ وجودية وعامية بل فقط كمبادئ مفسرة للحركة في عالم الكون والفساد، ولا يمكن للمادة والصورة الطبيعية والمحرك الأول أن يفسر التغير أو الحركة الحسية مباشرة، بل لا بد من مادة قريبة وصورة قريبة ومحرك قريب يفسر الحركات الجزئية.
نقرأ في مقالة "الألف الصغرى"، من "تفسير ما بعد الطبيعة" عن اشتراك العلمين وعن اتصالهما: "العلم الطبيعي إنما يتبين من غيره بفحصين: احدهما الفحص عن الطبيعة كما قال أولا؛ والثاني عن طباع موجود موجود ما هو؛ وهذا بين بنفسه وقد استوفى الفحص عن ذلك أرسطو في غير هذا الكتاب وفي هذا الكتاب"[12]، وهذا يعني أن بيان مقدمات العلم الطبيعي ومبادئه إنما أمر يتكلف به العلم الطبيعي ذاته من جهة، وعلم ما بعد الطبيعة من جهة أخرى[13]. ويشدد على مفهوم الطبيعة لأن تعريفها يضع حدا لهذه المسألة، فبعد أن رصد ابن رشد مختلف التعاريف المتداولة لدى "النظار" للطبيعة، يقف على المعنى الذي يخدمه في هذا العلم، والذي يفهم منه أن الطبيعة ينبغي أن ينظر إليها من جهة ما هي واقعة في التغير والحركة، لا بما هي الأصل أو المبدأ الثابت الذي لكل الأشياء. ونحن نثير هذه المسألة بالنظر إلى أن موقف ابن سينا من الإشكالية التي نبحث فيها ينبني في جزء كبير منه على فهمه للطبيعة. ففي الوقت الذي يرى ابن رشد أن الطبيعة "تقال على جميع أصناف التغيرات الأربع التي هي الكون والفساد، والنقلة، والنمو، والاستحالة"[14]، وأن "الطبيعة إذا مبدأ وسبب لأن يتحرك به ويسكن الشيء الذي هي فيه أولا وبذاته لا بالعرض"[15]، أي أن في الطبيعة علة ومعلول وفيها أشياء تحرك ذاتها، ومنبع حركتها من ذاتها، وينبغي التشديد على وجود الحركة والتغير في الطبيعة، لا أن ننسب ذلك إلى ما بعد الطبيعة، وهذا ما قاد ابن سينا إلى جعل العلم الطبيعي تابع لما بعد الطبيعة، وفي معاندة هذا الأخير لهذا المعنى يقول أبو الوليد: "إن ابن سينا متعسف على المشائين في قوله أن هذا الحد ها هنا للطبيعة غير بين بنفسه، وأن صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكفل بيان ذلك"[16]. أي أن نفي الحركة الذاتية عن الطبيعة يقود عمليا إلى نفي وجود الطبيعة. فكيف نريد من ابن سينا أن يثبت أنه يوجد من ضمن المبادئ الطبيعية المحركة ما يمكن أن يفارق، والتي يثبتها في آخر السماع؟
وفي نفس المقالة نجد العديد من المقاطع التي يعلن فيها ابن رشد موقفه، في انسجام تام لا يعترضه معترض، ذلك أن مهمة الفلسفة الأولى واضحة وبينة من أمرها، وأن مهمة العلم الطبيعي أيضا واضحة من جهة وضوح مهمة ما بعد الطبيعة. لذلك نقرأ في صدر مقالة الألف الكبرى: "إنه تكلم في العلم الطبيعي في هذه الأشياء إذ كان هو الموضع الذي يجب أن يتكلم فيها وإنما يذكر في هذا العلم على جهة التذكير بما تبين من ذلك في العلم الطبيعي ثم ينظر فيها في هذا العلم من حيث هي موجودات وذلك من جهة ما هي مبدأ الجوهر لا من جهة ما هي مبدأ جسم طبيعي... ثم يأتي البرهان على صحة المسألة أو إبطالها من العلم الطبيعي..."[17]. إن وظيفة العلم الطبيعي من حيث ينظر إلى الجوهر بما هو جسم طبيعي، أي ينظر في الجوهر المحسوس، بينة من أمرها، وليس ينكر الفيلسوف ذلك بل يذكر به على جهة التذكير. فلما كان الفحص عن اسطقسات الأمور المتحركة خاصا بالعلم الطبيعي، وكان النظر فيها ها هنا إنما هو من حيث هي مبادئ للجواهر القائمة بذواتها وكان إنما تكلم مع هؤلاء هنا "كلاما طبيعيا"[18]. لأن الكلام الحقيقي المناسب لهذا المبدأ هو الكلام المأخوذ من أمور طبيعية[19].
ويشير أكثر من مرة إلى بطلان موقف أبي نصر وابن سينا، اللذان يعتبران أن العلم الإلهي والطبيعي هو علم واحد: "كان يظن كثير من الناس أن العلم الطبيعي والإلاهي شيء واحد بعينه"، بل: "إن القوم من القدماء الذين انقسمت عندهم الموجودات إلى قسمين محسوس وغير محسوس فإن هؤلاء لما جعلوا نظرهم في الجنسين وجعلوها جنسا واحدا كان الكلام معهم خاصا بهذا العلم وهؤلاء هم الذين جعلوا التعاليم المعقولة مبدأ للأمور المحسوسة"[20]. هكذا يكشف ابن رشد من جديد الاسترتيجية التي تبناها ورسمها للرد على المشرقيين حول صلة العلم الإلهي بالعلم الطبيعي، وذلك بغية بيان بطلان الادعاء الذي لا يستقيم والفكر الأرسطي، معلنا أن مبحثه هنا يتعلق ببيان البراهين والحجج على ذلك.
إن التمعن جيدا فيما يبحثه ابن رشد في هذه المقالة وفي التي قبلها (الألف الصغرى) ـ والتي ينبغي حسب الترتيب الأرسطي أن تكون أولى من هذه كما فعل ابن سينا والفارابي في شرحهما لها ـ أنه لا يرد على المشرقيين وفقط، بل يعيد النظر أيضا في الفلسفة الطبيعية اليونانية متبعا في ذلك أرسطو. لذا نتساءل: ألم يكن ابن رشد واعيا بأن للفلسفة الطبيعية اليونانية امتداد في الفكر المشرقي؟ قد يكون هذا الإدعاء صحيحا إذا أخذنا بعين الاعتبار أطروحة "الجوهر الفرد" (الجزء الذي لا يتجزأ)، والتي خصها ابن رشد بنقد لاذع مبينا بطلانها بل أكثر من ذلك بيانه لحججها الواهية التي لا تنبني على أسس منطقية وعلمية صريحة وواضحة. هذا ناهيك عن استغلاله لنظرية المثل للرد على المتكلمين[21].
صار ـ كلما تقدمنا في البحث ـ من تحصيل الحاصل التأكيد على أن العلم الإلهي يتسلم مبادئه من العلم الطبيعي، ولقد بينا ذلك في أكثر من موضع ها هنا، ويمكن استدعاء الأطروحة الواردة في شرح البرهان لاختتام القول في هذا الأمر حيث نقرأ فيه: "إننا نرى الصناعة الجزئية المتأخرة تعطي مبادئ الصناعة العامة التي هي تحتها، مثلما يعطي العلم الطبيعي والتعاليمي مبادئ في العلم الإلهي، فإن الأمور المفارقة إنما يتسلم صاحب العلم الإلهي وجودها من صاحب العلم الطبيعي، ويتسلم عددها من صاحب علم الهيئة التعاليمي"[22].
إذا كان من المسلم به أن نظر العلوم الجزئية إلى موضوع مبادئه صار أمرا ضروريا. وعلى هذا يبقى أن نشير إلى أن العلاقة بين العلمين هي علاقة يطبعها التناقض: اتصالية بمعنى من المعاني وانفصالية بمعنى آخر. وعلى هذا نرى ضرورة الحديث عن جزء هام جدا في مشروع ابن رشد ويتعلق الأمر بالمستوى النقدي الذي يحاول من خلاله بناء أطروحته الغير مسبوقة في التقليد المشائي اليوناني والعربي. وسنهتم فيه بالدرجة الأولى بنقد ابن رشد لنظرية المثل من جهة ونقده لابن سينا من جهة ثانية: فعلى ماذا تتأسس هذه الرؤية النقدية؟ ما هي عناصرها؟ لماذا اعتمد ابن رشد توجيه سهام نقده لنظرية أفلاطون بالذات؟ هل يكمن وراء ذلك هدف ما؟ ولكن قبل ذلك نرى من الضروري مقاربة مشكلة الجوهر عند ابن رشد. وهو الأمر الذي يستوجب في نظرنا إلقاء نظرة على مفهوم الجوهر عند أرسطو أولا، وذلك لوضع الإشكالية التي عالجها ابن رشد في سياقها التاريخي. علما أن مشكلة الجوهر تعتبر ـ كما أشرنا سلفا ـ في نظرنا عصب المشكلات التي شغلت الأرسطية لزمن طويل، قبل أن تتحقق الثورة العلمية الحديثة، أي قبل استقلال العلوم الطبيعية عن الفلسفة. وبالنظر إلى مكانة الجوهر في تحديد الصلة بين العلمين موضوع هذا البحث، فإننا سنعمل على تتبع هذا المفهوم في ثلاثة مجالات كبرى: المنطق، والطبيعيات، والميتافيزيقا. من جهة أنه من المفاهيم الملتبسة لدى أرسطو وابن رشد معا. ويزيد من تعقيده أكثر التداخل الحاصل بين تلك المجالات بعضها مع بعض.  




[1] - ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): "تفسير ما بعد الطبيعة"، تقديم و ضبط و تعليق جوزيف بويج Maurice Bouyges ، دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية) بيروت، لبنان، 1967. ص 100: 15-16.
[2]  - التفسير، ص 102. 15.
[3]  - شرح البرهان ص 297، 298.
[4]  - يرى المصباحي أن دفاع ابن رشد في عن "مبدأ تقاسم النظر"، يستند على ثلاثة حجج:
- يفرق ابن رشد بين "أسباب جنس موضوع الصناعة"، و"الأسباب الخاصة بموضوع الصناعة" (تصبح العودة هنا إلى شرح البرهان أساسية). أي أن المبادئ حينما تصبح خاصة بعلم من العلوم يحق لهذه العلوم البحث فيها وحينما تتجاوزها إلى مستوى أعم تصبح من اختصاص العلم الكلي؛
- ينطلق من تعارض أجناس وطبائع العلل والمبادئ، مما يستحيل معها أن تكون من اختصاص علم كلي واحد. فحتى الأسباب تختلف مما يعني أنها لا تنتمي إلى علم واحد فهناك السبب المادي القريب من العلم الطبيعي والأسباب غير المادية القريبة من علوم التعاليم والعلم الإلهي. بالقدر الذي يجوز فيه أيضا لعلم جزئي طبيعي مثلا أن ينظر في مبادئ مفارقة للمادة مفارقة تامة كالصورة الأولى والغاية القصوى؛
- اختلاف البرهان في العلم الكلي والجزئي. الوجه الآخر لحداثة ابن رشد، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1998، ص 90.
[5]  - وبصدد هذا الأمر يقول في المقالة الثانية من التفسير (الألف الكبرى)، نقرأ: "ولما كان الفحص عن اسطقسات الأمور المتحركة خاصا بالعلم الطبيعي وكان النظر فيها ها هنا إنما هو من حيث هي مبادئ للجواهر القائمة بذواتها وكان إنما تكلم مع هؤلاء هنا كلاما طبيعيا، قال، لكن هذه الأقاويل إنما تليق بالكلام في الكون والفساد والحركة فقط وهذا البحث عن هذا الجوهر والمبادئ والعلل كاف، يريد، الكلام الحقيقي المناسب لهذا المبدأ هو الكلام المأخوذ من أمور طبيعية وأما البحث الذي بحثناه ها هنا بحسب ما يعطيه هذا النظر (يقصد ما بعد الطبيعة = الفلسفة الأولى)" التفسير: ص100: 6-13.
[6]  - تفسير مقالة الطاء ص 1198 : 2 – 16 .
[7]  - التفسير، الطاء، ص 1200. وينبغي الإشارة هنا إلى أن مسألة وجود مبدأ أزلي غير فاسد، كانت محط رد ابن رشد على موقف ابن سينا، ونعتقد أن هذه المسالة لا تهمنا كثيرا هنا. وسوف نجد إشارة إليها في رد ابن رشد على ابن سينا. 
[8]  - أنظر ما سيأتي من الحديث عن الارتباط بين الجوهر والواحد والمحرك الأول في نقد ابن رشد لنظرية المثل في هذا البحث.
[9]  - مقالة الباء، التفسير 1277 – 1278.
[10]  - تفسير ما بعد الطبيعة: ص 22: 7 – 11.
[11]  - وهذا التمييز سبق وأن تحدثنا عنها بما فيه الكفاية ولا نرى مجالا لإعادة التذكير بنفس الخلاصات التي أشرنا إليها سلفا.
[12]  - التفسير، ص53: 12 – 16.
[13]  - وهذه الخلاصة هي عينها تلك الواردة في "رسالة السماع الطبيعي" بصدد أحقية العلم الطبيعي على بيانه مبادئه، حيث نقرأ: "على صاحب العلم الطبيعي أن يبرهن أن الطبيعة موجودة كما ليس ذلك على صاحب علم من العلوم بل يضعها وضعا سواء كانت بينة بنفسها أو لم تكن" رسالة السماع الطبيعي نفس المرجع: 32: 2."
[14]  - رسالة ما بعد الطبيعة، م، ن، ص 58.
[15]  - رسالة السماع الطبيعي، م، ن، ص 38.
[16]  - رسالة السماع، ص 38 – 39.
[17] - مقالة الألف الكبرى، التفسير ص: 91- 92 .
[18]  - التفسير الألف الكبرى، ص 100.
[19]  - التفسير الألف الكبرى، ص 100.
[20]  - التفسير الألف الكبرى، ص 100.
[21]  - أنظر في هذا نقد نظرية المثل من هذا البحث.
[22]  -  شرح البرهان، م، ن، ص 285.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق