الأحد، 19 فبراير 2017

اليسار وأوكرانيا



نتابع جميعا كنشطاء يساريين ما يقع في العالم، سياسيا وايديولوجيا، من خلال مواكبتنا لمستجدات الحركات الاجتماعية والسياسية الجارية. نتحمس للبعض منها ونجسد تضامنا امميا ونبخس من قيمة البعض الآخر، ولاشك أن الاعلام البرجوازي يلعب ادوارا هامة لا نعرف بالضبط مدى التعمية التي تمارسها علينا، ولكننا على وعي بأنها تنعكس سلبا علينا.
تعيش الرأسمالية العالمية اليوم أزمات خانقة لا تقل عن نظيراتها طوال القرن العشرين، إلا أن وضعية الرأسمالية اليوم ليس بأفضل حال مما كانت عليه. ومما لا شك فيه أن بؤر الانتفاضة والثورة هنا وهناك لن تمر دون أن تترك أثرا فعليا على حياة الملايين من المواطنين، على الرغم من المحاولات التي الجارية  لتحويل نيران الشعوب لتندلع بين الفقراء وملايين الكادحين، لذلك فالحروب الاهلية لم تكن وليدة اليوم، بل كانت دوما مدفوعة من طرف البرجوازية  للسيطرة على التمرد الشعبي ولإبعاد نيران العدو عنها. هكذا أبانت الانتفاضة المصرية عن شدة عمق التناقضات بين أقسام هامة من البرجوازية المصرية بما فيها فئات واسعة من الاخوان أو ما يمكن أن نسميهم "برجوازيو الاخوان".

تدفع الرأسمالية العالمية التمردات الشعبية حينما تكون خارج سيطرة أقسام مهمة من البرجوازية الكبيرة نحو الحرب الأهلية، وذلك لدفعها لقبول أنظمة استبدادية وفي الغالب عسكرية لضمان أمن الشعب، فالفوضى العارمة التي تخلفها الحروب الأهلية وأحيانا الصراعات الدينية والطائفية والعرقية واللغوية... لا تترك أمام الشعوب أي خيار غير قبول النظام الأكثر استبدادا.
لا يهمنا كثيرا الوقوف على التجربة المصرية او السورية أو الفينزويلية... قدر ما استرعت اهتمامنا التجربة الاوكرانية لعدة أسباب:
·                   التعتيم الذي مارسته الإمبريالية على الصراع الجاري في هذا البلد بين الإمبريالية الروسية من جهة والإمبريالية الامريكية والأوروبية من جهة أخرى؛
·                   ضعف التضامن اليساري – وخاصة في العالم العربي – مع اليسار الأوكراني؛
·                   الحاجة الى فهم تطور الصراع بين روسيا وأمريكا والذي عاد الى الواجهة، والذي يضمر حربا ايديولوجية خفية لخدمة أهداف استراتيجية بعيدة المدى لا نعرف حاليا توقعاتها، ولكن من الأكيد أنه يجري إعادة تقسيم العالم والمواقع أمام أعيننا كل يوم، فما جرى في ليبيا وما يجري في سوريا وفي مختلف بقاع العالم، ليس هينا بل دليل على أن الإمبرياليات تصارع من أجل مصالحها المستقبلية؛
·                   محاولة استخلاص بعض الدروس من هذه التجربة ولو أنها ستكون جزئية.
يذهب سنتياغو البا ريكو Santiago Alba Rico في مقاله عن اليسار وأوكرانيا (المنشور ب: Avanti4.be بتاريخ 19 مارس 2014) إلى أن هناك خطتين تحكمان الصراع الدائر بين الأوكرانيين (والتي كانت سابقا منطقة سوفياتية)، ويتعلق الأمر في نظره بخطة يمينية "تنظر على سبيل المثال إلى حكام أوكرانيا كحكام ديكتاتوريين كما هو حال حكام سوريا وفينزويلا، ضمن لائحة ممكنة ولا نهائية يمكن بكل صرامة ان نضيف لها عناصر جديدة بموجب مصالح ظرفية (كوريا الشمالية، ايران، روسيا البيضاء، وايضا الاكواتور او بوليفيا او روسيا نفسها)" وبخطة يسارية "تقيم نفس التشابه بين اوكرانيا وسوريا وفينزويلا، ولكن والحالة هذه ك "ضحايا الامبريالية"، ضمن لائحة طويلة تفتقر للصرامة اللازمة، وليس من قبيل المصادفة (ما دامت خطة مجردة / متصورة وتفاعلية)، انها تضم نفس الأسماء"؛ لذلك فإن كلا الخطتين تستعمل "تلاعبات وأنصاف الحقائق الدعاوية – إن لم يكن الامر يتعلق بأكاذيب خالصة - لإثبات تشبيهاتها"، ولا يحضر بتاتا سواء من وجهة نظر اليسار ولا من وجهة نظر اليمين الفاعل الحقيقي والأساسي في التعبئات الكبرى الجارية في الساحات العمومية أي الشعب الذي ضحى من أجل اوكرانيا عادلة وديمقراطية والذي يحلم بتحسن أوضاع الجماهير الشعبية بالبلاد. وهكذا يؤكد سنتياغو البا ريكو Santiago Alba Rico "ففي منظور خطة اليمين، فإن الناس غير موجودين، أو يسعون دائما إلى الديمقراطية، ففي صفوف اليمين توجد جماعات اليمين المتطرف. أما بالنسبة لخطة اليسار فإن الناس إما غير موجودين، أو أنهم مجرد "بيادق سهلة" تستأجرها الولايات المتحدة، حتى ولو أن هناك أسباب كافية للمقاومة والتمرد". ويدعو الى تجاوز هذا النوع من التشبيهات التي لا تمت صلة بالتحليل السياسي والتاريخي فمن الأجدر بحسبه النظر الى الحكومات في تنوعها وفي تاريخها ونوعية مصالحها والفئات الداعمة لها والتي تخدم مصالحها، الى جانب الادوار التي تلعبها كل حكومة وكل نظام في الحسابات الجيو - استراتيجية البعيدة المدى".
فإذا كان اليمين المتطرف مدعوما من طرف روسيا وهو ما تبين في الصفقة الاخيرة، فإن الليبراليين مدعومين من أوروبا وأمريكا، وهكذا يكون الصراع الجاري في أوكرانيا صراعا إمبرياليا استعمل فيها الشعب الكادح استعمالا، أي لأغراض استراتيجية لن تنتهي بضم جزيرة الى روسيا . وبناء عليه يتضح بجلاء أن حروب الشوارع الجارية لا تتعلق بحكومة يانكوفيتش Ianoukovitch لأن أطرافا من الجيش شاركت في تدريب الميليشيات التي تجوب الشوارع، وهو الى حد كبير أشبه بما جرى في ليبيا وما يجري في سوريا. ومن حق الاوكرانيين الاطاحة بالحكومة أو بالرئيس، لكن لنتعلم أن الصراعات السياسية التي يكون الشعب ضحيتها لا مكان فيها لليسار، بل إن مكان اليسار هو الفضح واستنكار المؤامرات التي يكون فيها الشعب الأعزل ضحية، وبدل الجري وراء الصفقات السياسية وتوزيع الكعكة من واجب القوى اليسارية الديمقراطية قول الحقيقة وفضح الكواليس الجارية في محيط التظاهرات وفي القاعات المكيفة.
هكذا صرخ سانتياغو في وجه اليسار الإصلاحي الذي باع أوكرانيا لمصالح الامبرياليات. ويستند في تحليله الى اليساري القريب من المعركة الجارية في اوكرانيا اوليغ لازينسكي Oleg Iasinsky الذب قدم تحليلا مناسبا لحالة الاحتجاجات والتعبئات التي تشهدها اوكرانيا: "كنا نصرخ دوما بأن الاطاحة بحكومة يانكوفيتش Ianoukovitch السيئة هو حق مشروع وواجب الشعب الاوكراني. كما حذرنا أيضا بكون التمرد المدني المشروع منذ بدايته قد تم استعماله وإدارته من طرف الجماعات اليمينية المتطرفة التي استفادت من الفراغ الاجتماعي الذي خلقه غياب يسار حقيقي".
ففي اوكرانيا كما قال لازينسكي "لا توجد ثورة، وليس هناك أي انقلاب يمني متطرف: هناك تمرد، حركة واسعة وعفوية للمواطنين غاضبة من السلطة، تنقصها التجربة ولكن مع حسابات سياسية. هذه الحسابات يتحملها سياسيو المعارضة، الذين يعرفون استغلال الوضعية، من موالين لروسيا والنازيين الجدد". وضد اليسار الموالي لروسيا، قال لازينسكي أن المقاومة الاوكرانية مشروعة، وأن يانكوفيتش لم ينقلب عليه الغرب، ولم يكن ضحية الحرب الاعلامية (رغم ان الغرب معني بالشرق، وأن الحرب الاعلامية ستظل مستمرة دوما)، ولكن بفضل فعل آلاف الاوكرانيين العفوي، والبطولي، والغاضب، الذين بقوا في الميادين والشوارع لأشهر في مناخ بارد جدا (حرارة تحت درجات الصفر).
وضد اليمين الموالي لأوروبا، يؤكد لازينسكي، بأن صندوق النقد الدولي FMI هو "من دفع بدعمه الاتحاد المدمر بين الليبراليين الجدد والنازيين في حكومة الاوكرانيين "الثورية" الأولى"، وأن "المهرجين والاشرار الذين يتنافسون على السلطة اليوم لا تمثل مصالح وحاجيات الشعب الاوكراني".
هل صحيح إذن أن الصراع الجاري في اوكرانيا يعود في الأصل إلى الصراع بين روسيا وأمريكا؟ لا نحتاج إلى أدلة استخباراتية كما تفعل الدول بينها، فالأمر بين وواضح بجلاء. وهو شبيه بالصراع حول سوريا. فما العلاقة بين فيتو روسيا حول سوريا وتشديد العقوبات؟ وهو السؤال الذي يطرح أيضا حول مصر وحول مختلف بؤر الصراع في العالم؟
دشن الماركسيون الثوريون طوال تاريخهم صراعا مريرا ضد الامبريالية، وهم واعون تمام الوعي أن نضالهم ليس ترفا، وإنما نابع من قناعتهم بأن التطلع الى مجتمع المنتجين المتشاركين الأحرار لن يكون إلا في خضم هذا الصراع. وهكذا كانت الحركة المناهضة للحروب نموذجا للصراع ضد الإمبريالية، وأداة لتعبئة المواطنين ضد جرائم الإمبريالية. فلنعمل على إعادة إحيائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق