الخميس، 16 فبراير 2017

الديمقراطية من منظور راولز وهابرماس:


لم يقتصر تفكير كبار منظري فلسفة الحق على النَّظر إلى الجانب المعياري في نظريَّاتهم، بقدر ما اتجهوا نحو فحص واقع تلك النظريّات وفق تطور الدِيمقراطيَّة آنذاك. ولهذا لا نعتقد أن هذين المجالين منفصلان البتَّة، ويعود الفضل في اكتشاف الروابط بين نظريَّة الحق عند هيجل ومجال العقل العملي إلى لودفيغ فيورباخ L, Feuerbach في نصه حول "أصل الدِّين"، وهو النص الذي قاد ماركس إلى صياغة نقده الشّهير لفلسفة الحق الهيجيليّة، ورغم ذلك يبقى البعد المعياري حاضراً في فكر كارل ماركس وفريديريك انجلز، لأن مشروعهما الفلسفي – المادي التاريخي والجدلي - يقدم معايِّير عامَّة للديمقراطيّة العُماليّة، ولسؤال العدالة والحق في الآن ذاته.
كانت الجامعات الغربيَّة تقيم فصلاً بيّناً بين مجال نظريَّة الحق ونظريَّة الدِيمقراطيَّة، من منظور أن نظريَّة الحق لا يمكن أن تتجاوز الصيّاغة المعياريّة لما نأمل أو لما ينبغي أن يكون، مما جعلها متصلةً بمجال الفلسفة النظريَّة، في حين أن دولة الحق أو نظريَّة الدِيمقراطيَّة تتصل بمجال الممارسة Praxis  بالمعنى الماركسي. وستتضح الروابط بشكل مباشر بين نظريَّة الحق (الفلسفة المعياريّة) ونظريَّة الدِيمقراطيَّة (الفلسفة العمليّة) مع تطور الليبراليَّة السيَّاسيَّة المعاصرة خاصة مع جون راولز ومن بعده مع هابرماس.

ينهل جون راولز ويورغن هابرماس من معينين مختلفين ومن تجربتين مغايرتين جذرياً. ففي الوقت الذي اتجه اهتمام راولز نحو صياغة نظريَّة معياريّة لسؤال الدِيمقراطيَّة كنظريَّة ليبراليَّة – سيَّاسيَّة محضة منسجمة مع المجتمع الأمريكي، مع مطمح تعميمها على مجتمعات أخرى، اتجه هابرماس نحو نقد أسس الليبراليَّة السيَّاسيَّة (كما صاغها راولز) للبحث عن المصوِّغات العمليّة لأطروحات جديدة بخصوص العدالة، وتصور الخير والحق، والتدبير السيَّاسي للمجتمع المعاصر، مستنداً في ذلك على إرث الفلسفة الألمانيّة ومتخذاً من التجربة الأمريكيَّة نموذجاً، في سبيل فهمٍ عميقٍ لمستقبل أوروبا، حيث إن التحديّات التي طرحتها العولمة اليوم على الوضع الأوروبي تستوجب تصوراً سيَّاسيّاً جديداً مبنيّاً على معطيات الخريطة الجيوسيَّاسيَّة، هكذا قدم هابرماس نصه الشّهير حول مشروع "دستور أوروبا" الذي يجسد طرحاً فيديراليّاً جديداً يتجاوز واقع الدّولة – الأمّة التي وضعتها معاهدة ويستفاليا، وقد استعان في ذلك بالكوسوموبوليتية (السيَّاسة الكونيّة) الكانطيّة. ستتخذ النظريَّة المعياريّة في نظر راولز بعداً جديداً من حيث تنظيم العلاقة بين المؤسسات الدينيَّة وتدبير الشأن السيَّاسي، وسترتكز النظريَّة الليبراليَّة السيَّاسيَّة على مبدأ الحياد لإبعاد رجال الدِّين من الشّأن السيَّاسي وحصر دورهم في دائرة المجال الخاص كأساس لضمان ديمقراطيّة واسعة. غير أن هابرماس يعيد قراءة "نظريَّة العدالة" منتقداً صوريّة بعض المبادئ المعياريّة ومنها مبدأ حياديّة الدولة وحصر الدِّين في المجال الخاص، ليدافع عن فكرة مجتمع ما بعد العلمانيَّة، لأن السيَّاسيين - وخاصة في أمريكا - يدَّعون الاستقلاليّة عن رجال الدِّين، في حين أن للكنائس دور هام في العمليّة الانتخابيّة. وبهذا اتجه هابرماس نحو التفكير في طرق عمليّة لإعادة تقنين وتنظيم الفضاء العمومي مدافعاً عن استحالة إبعاد رؤى العالم (تصورات) les visions du monde، والفَاعِل الدِّيني من الفضاء العام، وعن حق هذا الأخير في المشاركة في النقاش العمومي وفق معايِّير ومبادئ أخلاقيّات المناقشة، مما يفيد أن هذا النقاش الذي دشنه هابرماس مع راولز دليل على عمق الإشكال الذي يطرحه سؤال الدِيمقراطيَّة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق