تشهد وقائع وأحداث التاريخ العربي - الإسلامي المعاصر، على ضرورة العودة إلى الماضي. لكن أي عودة ممكنة إلى الماضي؟
إن الرجوع إلى الماضي في تصورنا لا يعني الرجوع إلى
"السلف الصالح"، ولا إلى "التاريخ الذهبي" للمسلمين أيام
الغزو والفتوحات، كما لا يعني العودة إلى الماضي للبكاء على الأطلال، والاقتداء
بالأمجاد، وإنما العودة إلى التاريخ، ولكن أي تاريخ1؟
إن تاريخ العرب والإسلام لا نجده في كتب التاريخ، فالتدوين
العربي خضع لهواجس السياسة، كما لمطامح ومصالح النخبة في العصر العباسي، لذا تشهد
الكتابات النقدية في قراءة التراث على أن ما تركه لنا مؤرخو التاريخ الإسلامي،
ينبغي التعامل معه بحذر شديد، فليس كل ما قيل بصحيح، وليس كل ما كتب بتاريخي.
السؤال هنا عن إمكانية أن يؤلف النبي "محمد" ذلك
الكم الهائل من الأحاديث المنسوبة إليه، سؤال مشروع اليوم، على الرغم من المسافة
الزمنية التي تفصل بيننا وبين فترة النبي. صحيح أن النبي بإمكانه أن يؤلف عشرات
الآلاف من الأحاديث المنسوبة إليه لو أنه كان جالسا طوال حياته يؤلف الأحاديث،
ويتحدث إلى أتباعه ويفتي في القضايا التي تهمهم وتقض مضجعهم.
كما أن السؤال عن كم من الحروب خاضها النبي وهل بإمكانه أن
يخوضها جميعها، لهو سؤال مشروع اليوم. ففي كتب التاريخ كما دونها العرب أيام الحكم
العباسي وبعده نجد ما لا يحصى من الموضوعات التي تحتاج إلى فحص دقيق، إلى إعادة
كتابة التاريخ العربي ـ الإسلامي، إلى استقصاء للوقائع والأحداث، وإلى إعادة النظر
من جديد.
قد يبدو هذا المطلب بالنسبة للبعض مطلبا مشروعا يعزز الحاجة
إلى الاهتمام بالتراث، ولكنه في نفس الوقت مطلب طوباوي وغير ممكن، فلماذا سنفحص من
جديد هذا التاريخ المدون؟
قد أتفق مبدئيا مع القول إن مطلب إعادة كتابة التاريخ
المدون غير ممكن، ولكن الحسم مع جزء من هذا التدوين (الذي يعد غير صالح ومشوه) أمر
ممكن، لماذا لازلنا نتعامل مع كتابات محرفة للحقائق؟ لماذا لازلنا إلى اليوم نعيش
على التراث الذي لا يفيدنا في شيء؟ إن قراءة التراث ينبغي أن تتجه نحو تأويل
موضوعي كفيل بالمساهمة في إنتاج معرفة علمية وموضوعية تنقذ هذا الجزء من العالم.
حظي التراث الثقافي والفكري والمعرفي للعرب المسلمين،
باهتمام متزايد من طرف النخبة المعاصرة: المنتمية إلى هذا التراث والمنتسبة إليه،
والتي لا تربطها أية صلة بهذا التراث غير صلة المعرفة والإيمان بوحدة الفكر
الإنساني. فالخطاب العربي المعاصر حافل بالقراءات المتعددة والمتنوعة للتراث. وهذا
التعدد والتنوع في الخطاب، إنما هو دليل على حجم الإشكالية التي تعترض عملية
القراءة تلك: إشكالات منهجية من جهة وإشكالات إيديولوجية ومعرفية من جهة أخرى.
ليس قصدنا في هذا المدخل الوقوف على قراءة التراث، ولا على
إبراز حجم المشكلات التي تعترض البحث في التراث، لأن هذا بحاجة إلى عمل مفرد
وجريء، وإنما هدفنا الوقوف على حاجة العرب إلى المصالحة مع التاريخ: فكيف أمكن
للعرب المسلمين أن يتصالحوا مع تاريخهم؟ ولماذا هم بحاجة إلى هذه المصالحة؟ وما
مبرراتها؟
تعني المصالحة مع التاريخ في نظرنا ملحاحية العودة إلى هذا
التاريخ، لا بمنظور نكوصي، ولا اعتقادا بأنه الخلاص من معضلات اليوم، وإنما لرؤية
الوجه الحقيقي لماضي المسلمين.
تشغل خطابات السلفية - الرجعية في الوعي السياسي العربي
المعاصر، مساحات واسعة جدا، فمن الدعوة إلى إحياء التراث والدفاع عنه إلى الدفاع
عن "النبي" و"الله"، فكيف تم الانتقال من خطاب الإحياء إلى
خطاب التكفير؟
إذا كان خطاب السلفية في القرن التاسع عشر والعشرين مركزا
على ضرورة إحياء التراث العربي الإسلامي والتطلع إلى التاريخ المجيد للمسلمين
كنموذج منشود، فإن خطاب هذه الحركات السلفية تحول اليوم إلى خطاب سياسي تكفيري،
فلم يعد العدو هو الأجنبي ـ المستعمر وحداثته، وإنما العدو هو العربي المسلم الآخر
الذي لا يشاطر السلفيين أفكارهم واعتقاداتهم المذهبية.
لقد كانت الحاجة إلى السلفية في القرنين الماضيين مفهومة
كرد فعل أمام صدمة المستعمر، واليوم يتكرر نفس الشيء أمام زحف العولمة الرأسمالية
على العالم. فأين نحن من التاريخ؟ لماذا نحن بحاجة إلى التاريخ إذا لم نستطع أن
نستخلص الدروس؟
نسمع اليوم عن جماعة "جند الله"، وعن "حزب
الله"، وعن "أنصار محمد"، "الهجرة والتكفير"... فهل الله
بحاجة إلى جند يدافع عنه، وعن حزب ليدبر له شؤون خلقه؟ وهل النبي بحاجة إلى أنصار
في القرن الواحد والعشرين؟ في اعتقادي كان النبي بحاجة إلى أنصار في فترة تاريخية
معينة لهزم العدو، وحتى إذا افترضنا أن "عدو الرسول" اليوم قد تقوى
وأصبح شرسا فإن أنصار النبي متعلقون اليوم بنبي متخيل ومتصور وليس بنبي يوجد معهم،
فكيف يتصور ويتخيل الأنصار الجدد نبيهم؟ ما هو العدو المفترض اليوم ضد الرسول؟ هل
هو صاحب الرسوم الدانماركية؟ هل هو اليهودي؟ هل هو البوذي وعابد نار؟ هل هو...؟ إن
النبي اليوم ليس إلا صورة متخيلة، كما أن عدو النبي ليس إلا صورة متخيلة، وهذا
المتخيل إنما هو ناتج عن نمط الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام ومؤسسات التنشئة
الاجتماعية. إنها بعبارة واحدة: صورة متخيلة مصطنعة.
إذا كان الله اليوم بحاجة إلى من يدافع عنه، وإذا كان
الرسول بحاجة إلى أنصار يصدون هجوم العدو عن عقيدته، فمن المشروع أن يكون إبليس
أيضا بحاجة إلى من يدافع عنه، وأن تكون مقدسات العرب قبل الإسلام بحاجة إلى أنصار،
فاللات والعزى ومناة بحاجة إلى من يدافع عنها، كما أن أبا لهب ومسيلمة الكذاب،
وأبا ذر... كلهم بحاجة اليوم إلى أنصار.
العودة إلى التاريخ مفيدة جدا لوعي العرب - المسلمين
بماضيهم ولإنصاف تاريخهم، فماذا عن ذلك الماضي؟
إن الإسلام لم يكن دين فطرة كما يدعي التيار المتزمت
والمحرف لحقيقة الإسلام، كما أنه ليس دينا طبيعيا يمتلكه الإنسان بالطبيعة.
الدين الإسلامي شأن أي دين هو دين مكتسب، دين يعبر عن حاجة
الإنسان إلى ضبط التوازن النفسي والروحي وإلى تجاوز المفارقة بين السؤال والجواب.
فالدين نابع من الحاجة إلى فهم العالم: فهم الطبيعة وكل الأشياء المحيطة بالإنسان.
إنه تعبير عن وعي بدائي بالعالم والطبيعة.
لم يكن العرب قبل مجيء الإسلام بحاجة إلى الدين الجديد
لضمان وجودهم وللحفاظ على بقائهم. لم يكونوا بحاجة إلى الإسلام قدر حاجتهم إلى
الأوثان. ولكن الإسلام قدم للعرب ما ليس بممكنتهم آنذاك، فقد صنع لهم حضارة مجيدة،
وساهم في تقدم الوعي الاجتماعي، وأرسى أسس تنظيم سياسي قدم للعرب المسلمين ماض
مجيد.
تاريخ العرب قبل الإسلام يشهد على حضور المقدس والمعتقدات
الدينية، فالتبادلات الجارية آنذاك بين الحضارات تشمل مختلف الحقول: الاقتصادية،
السياسية، المعرفية والثقافية... وبالقدر الذي كان عدي بن لحي يقايض سلعه بسلع
الغير، قايض أيضا الأصنام والأوثان. فهو أول من أدخل عبادة الأصنام إلى الكعبة كما
تقول المصادر التاريخية2 .
إن ماض العرب في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام هو ماض
حافل بالدروس التاريخية التي تدحض التأويلات الخرافية والمتزمتة للإسلام اليوم.
ماض يشهد بأن اختيار العرب للإسلام ليس اختيارا نابعا من قناعة ولا من إيمان صادق،
فلقد تصدى أغلبهم للدعوة أول الأمر، كما تصدت لها الشعوب الأخرى أيام الغزو
والفتوحات. صحيح أن زعماء القبائل كانت لديهم أهداف ونوايا ومطامع، فالجزيرة لم
تكن جزيرة للدين وفقط، بل تفاعلت فيها الغنيمة بالقبيلة والعقيدة، ولم يكن من
الممكن الفصل بين هذا الثلاثي المركب الذي حرك مجمل تاريخ العرب والإسلام.
اتخذت معاداة الإسلام في القرن الأول الهجري أشكالا لا حصر
لها، ظل البعض منها سائدا إلى حدود القرن الخامس الهجري، فالمعارضة الصريحة
والضمنية للإسلام اتخذت أشكالا متعددة دينية وسياسية3 ... وإلى اليوم
لازالت "المعارضة" شديدة ضد "الإسلام السياسي"، سواء من داخله
أو من خارجه، ونعتقد أن المعارضة الداخلية أعقد وأشد من المعارضة الخارجية:
فالصراع بين الطوائف والشيع الدينية المنتسبة للإسلام والناطقة سياسيا باسم
المسلمين اتخذت في التوسع ووصل بها الأمر حد القتال بالنار والحديد، وهو صراع
يحتاج إلى تدبير حقيقي قبل أن يصل الوضع إلى مداه.
عادة ما يتم الحديث عن صراع الحضارات وعن ضرورة الحوار مع
الغرب واعتماد سياسة المصالحة وتعزيز حوار الأديان، ولكننا نتغافل عن الحوار داخل
الأديان، وهو حوار مفقود، حوار الطرش. إن الحوار بين الأديان غير ممكن دون هذا
الحوار الداخلي بين الطوائف الدينية المنتسبة لنفس الدين. وهنا نكون أمام مأزق
طالما تجنبه "الأئمة والفقهاء" و"دعاة الإجماع" و"السلف
الصالح"، ويتعلق الأمر بتعدد الإسلام، وبكون تاريخ الإسلام، ليس تاريخا
واحدا، فما يجري اليوم في آسيا الصغرى لا يشبه بحال ما يجري في أفريقيا جنوب
الصحراء، ووضع الإسلام في إيران اليوم يقف على النقيض من وضع الإسلام في السعودية،
فمن له الحق في الحديث باسم الإسلام والمسلمين؟
إن جملة المشكلات التي تعترضنا اليوم في هذا الجزء من
العالم لهي تراكم لسياسات طويلة الأمد، ناتجة عن غياب تدبير حقيقي للأوضاع
السائدة، وهي بحاجة إلى ثورة على كافة المستويات للرقي بحال هذه الأمة إلى ما هو
أفضل. وهو ما ليس ممكنا إلا بمضاعفة الجهود لتحقيق مصالحة المسلمين مع تاريخهم
الحقيقي وليس مع تاريخهم الزائف، ولعل الإقرار بحقوق الشعوب الأخرى التي أخضعها
الفتح الإسلامي لحكم الدولة المركزي، من أولويات المصالحة - طالب
باحث في كلية الآداب والعلوم الغنسانية بنمسيك الدار البيضاء المغرب.
.......................
هوامش
1- الحديث هنا عن التاريخ المدون، أو كما دون،
وليس التاريخ كوقائع وأحداث.
2- راجع بهذا الصدد كتاب الأصنام لابن
هشام الكلبي.
3 - في اعتقادنا أن هذا الموضوع يعتبر حقلا واعدا
للدراسة والبحث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق