الأربعاء، 1 فبراير 2017

مفهوم الجوهر في فلسفة ابن رشد



1 - مفهوم الجوهر Substance [1]:
استعمل مفهوم الجوهر في الفكر الفلسفي اليوناني كعنصر أول تنتهي إليه جميع التغيرات والتحولات التي تطرأ على المادة في مظهرها العيني الحسي. حيث نجد في الفلسفة الطبيعية ـ القبل سقراطية نموذجا صارخا لهذا الاتجاه الذي كان همه الأساس هو البحث عن الجوهر المحرك للوجود، وعن المادة الأولى التي هي سبب وعلة كل الأشياء. وفي هذا تكمن قدرة العبقرية اليونانية على إبداع مفاهيم تستجيب لتغير الظواهر الحسية. وهنا أيضا بدأ الدمج بين مجال الحس ومجال العقل، أي بين مجال المادة المحسوسة ومجال العقل والتأمل. أو بصيغة أخرى بين مجال العناصر المفارقة ومجال العناصر المحسوسة. فكيف استطاع أرسطو أن يؤسس للقول الميتافيزيقي على ضوء الملاحظة الحسية التي سجلها في العلم الطبيعي؟ كيف يمكن أن نبرر وجود علاقة ما بين العالم الحسي والعالم العقلي؟

يختلف استعمال مفهوم الجوهر من سياق إلى آخر. حيث يدل مفهوم الجوهر على الموجود القائم بذاته لا في موضوع، ولا يحتاج في وجوده إلى شيء آخر خارج عنه، وهو علة ذاته والمبدأ الأول (غير القابل للتحول) الكامن في كل الأشياء الموجودة. كما استعمله الفلاسفة الطبيعيون باعتباره "الأصل" أو "المبدأ" لكل الموجودات. إنه أصل العالم عند طاليس، والبنية الأساس لكل موجود عند ديمقريطس. وهو المثال المفارق والشرط الضروري لوجود الصفات وتغير المتعينات عند أفلاطون.
أما عند أرسطو[2] فإن الجوهر في تعريفه المنطقي كمقولة من المقولات يعتبر "ما لا يسند إلى موضوع ولا يوجد في موضوع"، شريطة التمييز بين الجواهر الأول والجواهر الثواني كما سنرى فيما سيأتي. فللجوهر بحسب كتاب المقولات ثلاثة معان تتمثل في:
أالجوهر الأول (الفرد): وهو الموجود المركب من الصورة والمادة (النفس والجسد).
بالجوهر الذي يصدق على المادة التي تتعاقب عليها الأضداد، وتكون موضوع الكون والفساد (الأجسام الطبيعية: الحيوان، النبات، العناصر الأربعة...)
جالجوهر بمعنى صورة الشيء وماهيته Essence (وهي الجواهر الثواني).
وفي علم ما بعد الطبيعة، أمكننا التمييز بين مجالين من مجالات هذا العلم:
*               مجال عام يسمى بالأنطولوجيا أو علم الوجود  L'Ontologie ويدرس فيه الموجود من حيث هو موجود؛
*               مجال خاص يقتصر فيه على دراسة الجواهر المفارقة وهو مجال العلم الإلهي.
يميز أرسطو في علم ما بعد الطبيعة بين أصناف من الجوهر، لأن البحث في الجوهر وفي ماهيته يتم بالنظر إليه من حيث هو أول الموجودات. ويقال على الموجود الفرد بأخص معانيه لأن المقولات الأخرى تلحق كلها على الجوهر الأول، وبالتالي لا تستطيع أن تقوم إلا به، لذلك يقال على الجوهر أنه أول لهذا السبب. ولأن معرفته تمكننا من معرفة سائر المقولات الأخرى. ثم لأن وجوده سابق على وجود المحمولات الأخرى. ويقال الجوهر بهذا المعنى على الكائن المركب من المادة والصورة (وفي العاقلة من الجسد والنفس)، ويصدق على صورة الشيء وماهيته. وهو ثلاثة أنواع:
1 – الجواهر الحسية الفاسدة، وهي الأجسام الطبيعية الواقعة في عالم الكون والفساد، والتي تخضع للعلل الأربعة (المادية، الصورية، الغائية، الفاعلة)؛
2 – الجواهر الحسية السرمدية التي لا تقبل الكون والفساد، ولكنها تقبل الحركة المكانية، وهي الأجرام السماوية التي تتركب من عنصر بسيط هو الأثير[3]؛
3 – الجواهر المفارقة وهي التي لا تلحقها الحركة بأي شكل من أشكالها، وهي موضوع العلم الإلهي، وتشمل على:
 أ ـ العقول المفارقة: التي تحرك الأجرام السماوية؛
ب ـ النفس الناطقة: التي قد توجد مفارقة للجسم بعد انحلالها؛
ج ـ الله: الذي يحرك الفلك المحيط ومن خلاله سائر الكون بفعل الشوق أو الرغبة، دون أن يتحرك قط.
وبحسب هذا التصنيف فإن أرسطو يحدد معنى الجوهر وفق دائرتين وهما: دائرة العلم الطبيعي (الجوهر الحسي بنوعيه)، ودائرة ما بعد الطبيعة (الجوهر المفارق)، والنوع الثالث هو جوهر يتداخل فيه العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة  ويكون جسرا بينهما، لذا من طبيعته أن يكون وسطيا[4].
ليس قصدنا ها هنا الوقوف على التصور الأرسطي لمفهوم الجوهر، لأن ذلك يقتضي العودة إلى الفلسفة الطبيعية، وبيان مكانة الجوهر في التفكير الطبيعي اليوناني على ضوء الصراع الذي خاضه الفلاسفة مع التفكير الميثولوجي، ويقتضي كذلك الوقوف على سقراط وأفلاطون اللذين مهدا لمجيء أرسطو، في حين أن بحثنا يتجه صوب الوقوف على إسهام ابن رشد في معالجة هذه العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة، والبحث عما إذا كان له قول أو مقالة في هذا الأمر على ضوء المشكلات المطروحة في الفكر العربي ـ الإسلامي، وتحديدا بالنظر إلى السجالات التي خاضها مع علماء الكلام والفقهاء، والفلاسفة المسلمين. وسيكون سؤالنا عن أرسطو سؤالا يتوجه نحو ابن رشد والفلاسفة المسلمين ونقول: كيف استطاع الفلاسفة المسلمين تمثل مفهوم الجوهر؟ كيف تمثلوا وترجموا مشكلة الجوهر بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة؟ لماذا وقف ابن رشد في وجه نظرية الجزء الذي لا يتجزأ (الجوهر الفرد)؟ هل استطاع الشراح العرب ونقلة التراث اليوناني ترجمة مشكلة الجوهر كما هي أم أنهم أبدعوا في ذلك؟ ما الذي يبرر التشبث بمسألة الجوهر الفرد، بدل إحياء نظرية أرسطو في الجوهر؟
إن البحث في رد ابن رشد على المتكلمين بخصوص نظرية الجزء الذي لا يتجزأ (الجوهر الفرد) لا يتعارض والبحث في مسألة الجوهر وبيان مكانة الجوهر في النسق الرشدي (إن صح التعبير عن نسق رشدي كنسق فلسفي بمعناه الهيجيلي)، ولكننا سنؤجل الحديث عن هذه المسألة وسنكتفي بمقاربة مفهوم الجوهر في العلم الطبيعي وما بعد الطبيعة وفي المنطق. 
الجوهر في اللغة هو "ما تقدم بنفسه، فهو متقوم بذاته ومتعين بماهيته، وهو المقولة الأولى من مقولات أرسطو، وبه تقوم الأعراض والكيفيات ويقابل العرض Accident "[5]. حيث يعتبر أس كل المقولات الأخرى فهو يتحدد بنفسه ويكون جذرا لكل الأعراض الأخرى. لا يحتاج إلى غيره لأنه الأول في الوجود[6].
يسعى أرسطو من وراء نظريته في الجوهر إلى نقد وتصويب الآراء السابقة التي ظلت سائدة حول مسألة الجوهر. فأفلاطون؛ على سبيل المثال؛ يجعل الجوهر مفارقا في حين يجعله أرسطو مركبا من الصورة والهيولى معا، فهو كما سلف الذكر: "ما لا يحل في موضوع، أي الذي لا يوجد فيه غيره، ولا يوجد هو في غيره"[7]، ويستعمل الجوهر بثلاث معان: الجوهر كصورة، والجوهر كهيولى، والجوهر المركب منهما معا.
والجوهر الحقيقي بالنسبة لأرسطو هو الجوهر المركب من الصورة، لأن العلم الكلي هو العلم الحقيقي. لذا وجب اعتبار الجوهر كليا، والكلي لا وجود له إلا بالصورة، وعليه فإن الجوهر بما هو الموجود الحقيقي لا ينفصل عنها بل هو الصورة، وهنا نفهم كيف أن المقولات، وأساسا الجوهر، هي الجسر الذي يربط بين علم المنطق وعلم ما بعد الطبيعة[8]، ذلك لأن الجوهر هو أسمى المقولات وأتمها، وهي التي تشكل الموضوع الرئيس لعلم ما بعد الطبيعة. فكيف يتصور ابن رشد مفهوم الجوهر الأرسطي؟ ما أنواعه؟ ما هي دلالاته؟ كيف تقوم الصلة بين الجوهر المفارق والجوهر المحسوس؟
يحاول ابن رشد، في المقالة الأولى والثانية من الجزء الثالث من تفسير ما بعد الطبيعة، أن يبين موضوع الميتافيزيقا كموضوع متميز عن موضوع العلم الطبيعي حيث يقول: "إن النظر إنما هو في الجوهر وذلك أن المطلوب هي علل الجوهر ومبادئه"، فالمطلوب في نظره هو الوقوف على الجوهر وعلله ومبادئه والجوهر في تعريفه هو: "الجنس الكائن الفاسد والأزلي"[9]، محددا هدف أرسطو في هذه المقالة بقوله: "وأن غرضه في هذه المقالة. على القصد الأول هو التكلم في مبادئ الجوهر الأزلي وذلك أن مبادئ الجوهر المحسوس الكائن الفاسد قد بينها في مقالة الواو والزاي وقد تبينت أيضا في العلم الطبيعي لكن بجهة غير الجهة التي تبينت في هذا العلم"[10]،  فالنظر في الجوهر ومبادئه من جهة كونه جوهر (في الميتافيزيقا) على غير النظر في مبادئ الجوهر من حيث هي أسباب التغيير (في العلم الطبيعي: كتاب الكون والفساد). وهنا يتضح الفصل في النظر إلى الجوهر بين العلم الطبيعي وبين الميتافيزيقا. فغايته في هذه المقالة هو النظر إلى الجوهر من جهة ما هو جوهر (غير محسوس).
إن تتبع مفهوم الجوهر في النص الرشدي يقود حتما إلى نتائج متباينة. فلا وجود لاسم واحد لمفهوم الجوهر، هذا ناهيك عن الأقوال المتباينة التي نلفيها خلال الوقوف على دلالة هذا المفهوم من مجال إلى آخر، فالجوهر في العلم الطبيعي غير الجوهر في العلم الإلهي، وهذا تعبير عن تعدد مصادر ابن رشد من جهة وعلى تطوره الفكري وهو الأمر الذي يجسده نص "تفسير ما بعد الطبيعة".
2 - الجوهر في التعريف المنطقي[11]:
يمثل التعريف المنطقي للجوهر أساس موضوعنا، فما دامت نظرية البرهان تمثل القاعدة الضرورية لكل استدلال تقوم عليه المقدمات التي ينطلق منها كل علم، فإن تحديد معنى الجوهر في المنطق. كما لخصه وشرحه ابن رشد يعتبر ضروريا هنا لمعالجة الإشكالية التي نحن بصدد البحث فيها.
ولعل العودة إلى المؤلفات المنطقية الرشدية، التلاخيص منها والشروح، وبالتحديد تلخيص كتاب المقولات (التحليلات الثانية)، يؤكد أن الجوهر كما عالجه أرسطو صنفان[12]:
الجوهر الأول:  وهو "الذي لا يقال على موضوع ولا هو في موضوع"، مثل الإنسان والفرس؛
الجواهر الثواني: وهي "الأنواع التي توجد فيها الأشخاص على جهة شبيهة بوجود الجزء في الكل، وأجناس هذه الأنواع أيضا"[13].
والجواهر التي تقال على موضوع، هي الجواهر الثواني والتي "يجب ضرورة أن يحمل اسمها وحدها على ذلك الموضوع"[14]، فزيد إنسان وهو حيوان ناطق الذي هو حد الإنسان. أما الجواهر الثواني التي تقال في موضوع (أي الأعراض) فهي لا تعطي للموضوع لا اسمه ولا حده: فقولنا زيد أبيض، فالأبيض ليس اسما ولا حد له. وتتضمن الجواهر الثواني: الأنواع والأجناس.
والأنواع "أولى بأن تسمى جوهرا من الأجناس لأنها أقرب إلى الجواهر الأول من الأجناس"، أي أن النوع منها أحق باسم الجوهرية من الأجناس، ذلك أن الجواب عن سؤال: ما الشخص؟ بالقول أنه الإنسان أقرب من الجواب عنه بالقول أنه حيوان، لهذا فالنوع أقرب من الجنس إلى الجوهر الأول. إلا أن نسبة الجوهر للموضوع تظل هنا غامضة فأي موضوع هو الجوهر: المادة، الصورة... أم ماذا[15]؟
أما الجواهر الأول فهي ضرورية لوجود الجواهر الثواني، إذ "يجب أن يكون ما سوى الجواهر الأول  أو فيها"، وهذا يعني شرطا أنه "لو لم توجد الجواهر الأول لم يكن سبيل إلى وجود شيء من الجواهر الثواني رهين بوجود الجوهر الأول". وعلى هذا القول يجوز عند ابن رشد عدم أولوية أنواع الجواهر على بعضها البعض أو الجواهر الأول على بعضها البعض، "وأما أنواع الجواهر التي ليست أجناسا فليس بعضها أحق باسم الجوهر من بعض". وقد خصت أنواع الجواهر الأول وأجناسها باسم الجوهر دون سائر الأشياء المحمولة عليها، فالجواب عن ما الجوهر؟ يكون إما بالنوع أو بالجنس وإذا كان غيرهما صار جوابا غريبا.
ولا يمكن أن تكون الجواهر الأول والثواني من نفس النوع، حيث يقول: "فأما الجواهر الأول فالأمر فيها بين أنها إنما تدل على الأشخاص المشار إليها، لأن ما يستدل من أسمائها عليها هو شيء واحد بالعدد. وأما الجواهر الثواني فقد توهم الأسماء الدالة عليها لاشتباهها بأسماء الأشخاص أو لاستعمالها مواضع أسماء الأشخاص، إنما تدل على المشار إليه وليس الأمر كذلك، بل إنما تدل على أي مشار اتفق إذ كان الموضوع لذلك الاسم ليس واحدا بعينه، كالاسم الدال بشكله على الجوهر الأول"[16]. وهذا بين بذاته لأن القول بانتساب الجواهر الأول والثواني إلى نفس النوع لا يستقيم وضرورة تبعية الثواني للأول، وهذا الأخير يستوجب ضرورة ألا يكون له مقابل، " ومما يخص مقولة الجوهر أنه لا مضاد لها، فإنه ليس يوجد للإنسان ولا للحيوان مضاد"، وهذه الخاصية قد يشترك فيها الجوهر مع بعض المقولات التي ليس لها مضاد مثل الكم. فليس لذي الذراعين أو لذي العشرة أذرع مضاد إلا أن نقول أن القليل في الكم ضد الكثير، والكبير ضد الصغير، لكن "أنواع الكم المنفصل بين من أمرها أنها غير متضادة"[17].
وبناء عليه فإن هذا التمييز يحيلنا على التراتبية التي تقوم بين الجوهر في المقدمات الضرورية لكل برهان، وهذا ما يقودنا عمليا إلى تتبع دلالة الجوهر في العلم الطبيعي.
إن التحديد المنطقي لمفهوم الجوهر، كما جاء في تلخيص المقولات يجعلنا أمام مقدمات علمية برهانية يروم منها ابن رشد وضع اللبنات الأولى والأساس لما سيعالجه في العلم الكلي والعلوم الجزئية الأخرى. إلا أن هذه الطريقة التي اعتمدها كأداة لبيان أولوية الجواهر الأول على باقي المقولات، لا تفيد إلا في دائرة المنطق، وهي التي تسمى بالإسناد[18].
3 - دلالة مفهوم الجوهر في العلم الطبيعي:
لقد جعل ابن رشد موضوع هذا العلم، هو النظر في "الأشياء المتحركة والغايات الموجودة لها من حيث هي متحركة، كالفحص عن الغاية القصوى للإنسان بما هو موجود هيولاني"[19]، فالأمر يتعلق هنا بالبحث عن المادة الأولى لأنها "أشهر الأسباب" أي عن الجوهر الأول. ولما رأى في المنطق، في كتاب المقولات كما سلف، أن الجوهر لا يقال "على موضوع ولا هو في موضوع" يأتي ليؤكد ذلك في هذا الجزء من العلم الطبيعي حيث نقرأ في المقالة الأولى من "رسالة السماع الطبيعي" (التلخيص): "أما شخص الجوهر فقد تبين أيضا عند التأمل افتقاره إلى الموضوع لأنه ليس يكون شيء من لا شيء على الإطلاق يعم ولا بد من أي شيء اتفق فضلا عن أن يكون من لا شيء على الإطلاق"[20]. فالجوهر ها هنا متعين بالضرورة وأن النسبة ذاتية بين "المتكون وما منه يتكون" فاستحالة تكون الشيء من لا شيء يعني استحالة الوجود من العدم.
يهتم العلم الطبيعي بدراسة الجوهر المحسوس السرمدي والجوهر الكائن الفاسد، كما يهتم بالجوهر المفارق الذي يبين الفيزيائي وجوده بدليل الحركة كما جاء في الثامنة من السماع، ولكنه لا ينظر إليه من جميع الجهات ولا باعتباره أحد الموجودات، إنما يدع ذلك للعلم الكلي حيث يقول: "يقول أرسطو ليس على صاحب العلم الطبيعي أن يبرهن أن الطبيعة موجودة كما ليس ذلك على صاحب علم من العلوم بل يضعها وضعا سواء كانت بينة بنفسها أو لم تكن... ثم يرتقي من ذلك إلى إعطاء الأسباب الأول ويعطي من ذلك ما أمكنه في هذا العلم وهي المادة الأولى والمحرك الأقصى.
       وأما الصورة الأولى والغاية الأولى فلم يجد في هذا الجنس من النظر مقدمات مناسبة يكتسب منها الوقوف عليها، فلذلك أرجأ النظر في ذلك إلى الصناعة الكلية وهي الفلسفة الأولى... وإنما النظر في هذا العلم ها هنا في صور الأشياء المتحركة والغايات الموجودة لها من حيث هي متحركة كالفحص عن الغاية القصوى للإنسان بما هو موجود هيولاني"[21].
أي أن العلم الطبيعي يهتم بالجوهر المحسوس، وبالوجود المتغير والمتحرك. فلجميع الكائنات الفاسدات موضوعا أقصى "ليس فيه من الفعل أصلا ولا له من صورة تخصه، وأنه بالقوة والإمكان جميع الصور، وأنه لا يتعرى من صورة أصلا لأنه لو عرى منها لكان ما لا يوجد موجودا، وأن الإمكان والقوة ليس في نفس جوهره بل هو موضوع لهما، فإن القوة والإمكان مما يحتاج إلى موضوع"[22]. أي أن الموجودات والكائنات الفاسدات التي يتكفل صاحب العلم الطبيعي ببيانها إنما تعود في أصلها إلى جوهر أقصى لا يقبل التغير، وهذا ما يسميه ابن رشد بالمادة الأولى مميزا إياها عن المادة الخاصة لموجود موجود، أي أن التمييز في الجوهر بين كونه مادة أولى وبين كونه مادة لموجود موجود، فهما أمران مختلفان بالاختلاف بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل لذلك يقول: "وهذا هو الفرق بين المادة الأولى وبين المادة الخاصة لموجود موجود"[23]. وهنا نستحضر الفرق بين الجوهر الأول والجواهر الأخرى التي تكون مجرد محمولة عن الأول في كتاب المقولات، وهذا ما نجده مرسوما في رسالة السماع حين يتحدث عن الجوهر الشخص كجوهر أول، لأن التمييز أعلاه بين المادة الأولى والمادة الخاصة لموجود موجود يظهر أيضا في أن هذا الجوهر "غير متكون ولا فاسد لأنه ليس له موضوع يتكون منه ولا يفسد إليه"[24]وهذا ما يؤدي إلى أن "جميع الأجسام المتغيرة في الجوهر مركبة من مادة وصورة"[25].
وفي تلخيص كتاب النفس[26] يعرف ابن رشد الجوهر قائلا: "نقول: إن الجوهر يقال على ثلاثة معان: أحدهما على الجوهر الذي هو الهيولى، وهذا ليس هو شيئا موجودا بالفعل وإنما هو بالقوة، والثاني الذي هو جوهر على طريق الصورة، وهو الذي به يكون الجوهر الموجود بالقوة موجودا بالفعل ومشارا إليه، والثالث الجوهر المجتمع منهما، وهي الأشخاص والأنواع. والهيولى بالقوة الصورة، والصورة هي استكمال الذي بالقوة"[27].
كما نقرأ في نفس الكتاب: "إذا ... كانت النفس جوهرا، وكان الجوهر يقال على ثلاثة معان كما تقدم: المادة والصورة والمركب منهما، فالنفس هي الجوهر الذي هو الصورة، والمعنى الثاني أن النفس لا تفارق البدن، والصورة معنى تستكمل به تلك القوة كما تستكمل سائر المواد التي وجودها بالقوة بالصورة التي هي قوية عليها، فبين أن النفس من هذا هي كمال الجسم. وأنه ليس يمكن أن توجد إلا في الهيولى التي هي قوة عليها. ولا يمكن فيها أن توجد في أي جسم اتفق، بل في أجسام مخصوصة، وهي التي فيها قوة على قبولها، فضلا عن أن توجد في غير جسم"[28]. ويضيف: "والجوهر يقال على الهيولى بجهة ما. وعلى الصورة أيضا بجهة أخرى، وعلى المجموع منهما بجهة ثالثة…"[29]. والمراد من ذلك أن الجوهر يقال على ثلاثة أنواع:
أ - الجوهر كمادة: حيث لا يجادل أحد في جوهرية المادة لأن الهيولى هي وحدها جوهر شخص الجوهر المحسوس. وهي علة شخص الجوهر المحسوس لأنها إذا ارتفعت هي ارتفعت سائر الأشياء الأخرى. شريطة التمييز بين نوعين من المادة[30]
* المادة الأولى: وهي التي توجد بالقوة وليس فيها شيء من الفعل أصلا ولا تختص بصورة دون أخرى بل هي بالقوة والإمكان جميع الصور.
* المادة الخاصة لموجود موجود: وهي التي توجد بالفعل وتختص بالصورة.
كما يميز أيضا بين المادة المحسوسة: مواد الأمور الطبيعية، والمادة المتوهمة والمعقولة: مواد الأشياء التعاليمية.
ب ـ الجوهر كصورة: فما دام الجوهر بما هو مادة لا يفي بالغرض بالنسبة لابن رشد لأنه يدل فقط على الجوهر المحسوس، ولا يمكنه أن يوصلنا إلى السبب الأقصى، فإن الجوهر الحقيقي هو الجوهر الذي يتكون من الصورة وهي أحق باسم الجوهر من المادة ومن المركب من المادة والصورة لأنها متقدمة عليهما[31].
ج ـ الجوهر المركب من المادة والصورة: ويدل هذا المعنى على جميع الأجسام البسيطة: الماء، التراب، الهواء، النار... وعلى الأجسام التي تتركب منها. وهذا المعنى إنما حدده فقط لأن الجوهر يقال على المادة من جهة وعلى الصورة من جهة أخرى، لذلك يقال أيضا على المركب منها.

4 - دلالة مفهوم الجوهر في علم  ما بعد الطبيعة:
سنعمل على بيان مفهوم الجوهر في ما بعد الطبيعة متبعين نفس المنهج الذي اتبعناه في التحديدات السابقة والتي تخص مجال العلم الطبيعي ومجال المنطق، ويتعلق الأمر بتتبع معان الجوهر في كل مقالة مقالة من مقالات علم ما بعد الطبيعة.
يتحدد الجوهر عند ابن رشد في المجال الميتافيزيقي في المقالات التي يمكن تسميتها بمقالات "الجوهر" من كتاب "تفسير ما بعد الطبيعة[32]": الزاي والحاء، واللام. ويمكن أن نضيف إليها الطاء والدال للاستئناس[33].
ليست الإلهيات عند ابن رشد علما قائم الذات أفرغ له مؤلفا جامعا ومانعا[34]، وعلى هذا الأساس فإننا سنكتفي بفحص أقواله في شرحه وتلخيصه لنص "ما بعد الطبيعة"، لتحديد وتتبع مفهوم الجوهر في كل مقالة مقالة من مقالات ما بعد الطبيعة.
تعتبر مقالة "البيتا"[35] المقالة التي يمهد فيها لمشكلة الجوهر ففيها يطرح أرسطو شكوكه[36] والتي يمكن حصر أهمها في[37]: هل هناك علم واحد لكل الجواهر، أو عدة علوم؟ هل نقر بوجود جواهر محسوسة فقط، أو نقر أيضا بوجود جواهر غير محسوسة؟ هل علم ما بعد الطبيعة لا يشمل غير الجواهر، أو يشمل أيضا الأعراض الخاصة بالجواهر؟ هل الموجود والواحد جواهر للأشياء أو ثم حقيقة أخرى هي موضوع الموجود والواحد، وينبغي البحث عن طبيعتها؟ هل الأعداد والأجسام والسطوح والنقط جواهر أو غير جواهر؟
قد يدل الموجود - في نظر ابن رشد - على جنس واحد وطبيعة واحدة أو يدل على أجناس مختلفة؛ وبغض النظر عن طبيعته كيفما كانت؛ فالجوهر في نظره هو المتقدم على الباقية، لذا نجد أن كثيرا من الأشياء في جنس واحد بعضها متقدم[38]. والموجود هو الجوهر لأن الجواهر "أحق باسم الموجود"، لأنه يطلق على المقولات العشر وهو بذلك أحق باسم الجوهر[39]، لأنه أول الموجودات بالحد وبالمعرفة وبالزمان... وهو يقال على الهيولى وعلى الصورة وعلى المجموع منهما، لأن الهيولى هي موضوع للصورة، والصورة جوهر من حيث هي مقومة للموضوع. ويتخذ الجوهر هنا عدة معان[40] شأنه شأن باقي المفاهيم الأرسطية، ويعود هذا التعدد الدلالي[41] في جزء منه إلى انتساب موضوع الجوهر إلى عالم الموجودات الحسية، وإلى عالم الأجرام السماوية[42]. فالجوهر كالصورة لا يكون، أي لا يتكون[43]، كما أنه لا يمكن أن يكون جوهر واحد من جوهرين اثنين بالفعل، وكل الانفعالات الموجودة فيه لا يمكن أن تتقدم عليه لا بالزمان ولا بالكون، لأن الجوهر الأول[44] هو الذي يحدد ويعطي للجواهر الأخرى سبب وجوده[45]، فهو علة لكل الأشياء، هنا تصبح المقولات التسعة الأخرى مجرد أعراض.
ويتضح لنا مما سبق أن الجوهر بما هو أسمى المقولات والذي تتبعه مختلف المقولات التسع الأخرى، يتخذ معنى الموجود بإطلاق، ويتعالى على كل المحمولات، ويصير هو القائم على أمرها. أما المقولات الأخرى فهي تابعة له، مما يعني عمليا أن الأسبقية الأنطولوجية هنا واضحة للعيان ولا غبار عليها، وما يقتضيه ذلك من نقض للموقف المثالي الذي يرى أن الماهية أولى من الوجود، فالجوهر لا يوجد شيء خارج عنه ولا يصير تابعا لأي موجود آخر، بل هو الموجود بإطلاقـ، وماهيته تأتي من خلاله وليس من خارجه أو من أي عرض من الأعراض. والموقف الماهوي ـ إن صح التعبير ـ هو الذي عبر عنه الشيخ الرئيس ابن سينا، حيث الأولوية للماهية على الوجود.
وفي المقالة الأولى من رسالة ما بعد الطبيعة والتي تناظر مقالة الدال في التفسير يضع ابن رشد أهم تعريف للجوهر قائلا: "يقال أولا وأشهر ذلك على المشار إليه الذي ليس هو في موضوع ولا على موضوع أصلا. ويقال ثانيا على كل محمول كلي عرف ماهية المشار إليه من جنس أو نوع أو فصل. ويقال ثالثا على كل ما دل عليه الحد، وذلك إما على كل ما عرف ماهية الجوهر وإما كل ما دل على الحد، وذلك إما على كل ما عرف ماهية الجوهر وإما على ما عرف ماهية شيء ما أي شيء كان من المقولات العشر"[46]. واضح إذن أن الجوهر يتخذ في هذه المقالة ثلاثة معان رئيسة:
o                الجوهر الذي ليس هو في موضوع ولا على موضوع أصلا.
o                كل محمول كلي عرف ماهية المشار إليه من جنس أو نوع أو فصل.
o                كل ما يدل عليه الحد، ولكن ينبغي الأخذ بعين الاعتبار هنا أن الجوهر المقصود هو الجوهر بالإضافة لا الجوهر بالإطلاق.
أما ْمقالة "الزاي" فهي "أول مقالة ابتدأ يفحص فيها عن الجوهر"[47]، باعتباره أس المسائل التي عالجها أرسطو لأن السؤال: ما الوجود؟ يتحول إلى سؤال: ما الجوهر؟ فالوجود يتجه صوب البحث عن جوهر الأشياء في العالم الطبيعي بينما السؤال عن الجوهر يتجه صوب ما بعد الطبيعة، أي صوب الصورة الأولى لجميع الموجودات، بدل البحث في كل موجود موجود. والصورة هي التي بإمكانها الكشف عن الحقيقة الكامنة وراء الأشياء، فإلى جانب صور الأشياء بما هي أشياء جزئية وفردية توجد صورة مشتركة لجميع الأشياء، وهذا ما سنراه بالتدقيق في حديثنا عن الصورة والمشكلات المتصلة بها.
و يعلن في هذه المقالة موضوع "علم ما بعد الطبيعة" الذي يقسمه إلى ثلاثة أجزاء عظمى: الجوهر والعرض، القوة والفعل، الوحدة والكثرة. و يعطي للجوهر في هذا العلم أسماء عدة منها الماهية حيث يقول: "لما بين أن اسم الموجود واسم الهوية يدل على كل واحد منها على مقولة الجوهر وعلى سائر أعراض الجوهر التي هي المقولات التسع، يريد أن يبين أن هذا الاسم إنما يدل أولا وبإطلاق وتقديم على مقولة الجوهر"[48].
تطرح مقالة الزاي العديد من الصعوبات المتعلقة بمفهوم الجوهر، فهي مقالة يعالج فيها ابن رشد مسألة الانتقال من الموجود إلى الجوهر وهو الأمر الذي عبرنا عنه بالانتقال من سؤال الوجود إلى سؤال الجوهر، كما تحدث عن أسبقية الجوهر على باقي المقولات، مبينا أن الجوهر والماهية شيء واحد وفي هذا يقول: "إنه يظهر أن الفرد ليس هو شيئا غير الجوهر الذي هو له أعني ماهيته. والسؤال عن الماهية والموجود هو سؤال عن الجوهر، وشخص الجوهر متقدم على أشخاص الأعراض، وكأنه يريد أن يبين هنا التمييز بين الجواهر الأول والجواهر الثواني وفي هذا يقول: "ماهية شخص الجوهر متقدمة بالوجود على ماهيات الأعراض لأن كون شخص الجوهر يتقدم على سائر أشخاص الأعراض في الموجود بين بنفسه"[49]. وهذا يعني أن الدليل في هذا الجزء، بل في أغلب أجزاء الميتافيزيقا هو دليل منطقي حيث يقول: "وينبغي أن تعلم أن هذا دليل منطقي وأكثر براهين هذا العلم هي براهين منطقية، وأعني بالمنطقية ها هنا مقدمات مأخوذة من صناعة المنطق تستعمل استعمالين من حيث هي آلة وقانون تستعمل في غيرها، ويستعمل أيضا ما تبين فيها في علم آخر على جهة ما يستعمل، ما تبين في علم نظري في علم آخر وهي إذا، استعملت في هذا العلم قريب، من المقدمات المناسبة إذ كانت هذه الصناعة تنظر في الموجود المطلق والمقدمات المنطقية هي موجودة لموجود مطلق مثل الحدود والرسوم وغير ذلك مما قبل فيها"[50].
يمكن للجواهر أن تكون معروفة بالحواس: "الجواهر أحق أن يدل عليه اسم الموجود فيما يظهر للحس أي أن أعرف عند الحس..."[51]، فالجوهر هو اسم للموجود من جهتين من حيث هي جواهر تدل على الجزئيات ومن حيث هي جواهر تدل على الكليات، لذلك فالجوهر يدرس من هاتين الجهتين ، وهو بهذا "علة سائر المقولات، وهو الذي قصد بيانه في هذا الموضع"[52]، ويدل في هذه المقالة على: الموجود، الماهية، حيث نقرأ له : "الجوهر أحق أن يدل على اسم الموجود"[53]. ويضيف: "الهوية التي هي بنوع أول أي متقدم وبنوع مبسوط أي بإطلاق هي الجوهر"[54].
الدليل على أن الجوهر وحده مفارق وأن الأعراض لا تكون مفارقة: "وإنما كان الجوهر متقدما بهذه الأنحاء (يقصد بالحد وبالمعرفة وبالزمان) لأن ليس شيء من الأعراض مفارق وهذا (يقصد الجوهر) وحده مفارق وهو الذي دل عليه"[55].
يشرح ابن رشد ما معنى أن يكون الجوهر متقدما بالحد وبالمعرفة وبالزمان:
1 – الجوهر متقدم بالحد: يعني أن "تكون كلمة الجوهر في كلمة كل واحد من الأشياء"[56]، وهو متقدم بالحد على كل الأعراض لأن الجوهر يؤخذ "في كل حد واحد من الأعراض"[57].
2 – الجوهر متقدم بالمعرفة: يعني "أن الجوهر عندنا أعرف من الأعراض أعني كلياته من كليات الأعراض. إن معرفتنا بشخص الجوهر المشار إليه تكون أتم بكلياته الجوهرية من معرفتنا إياه بكليات الأعراض" (755: 7-9)، فالصفات الجوهرية أعرف من الصفات العرضية.
3 – الجوهر متقدم بالزمان: لأن العرض متأخر حدوثه عن الجسم الذي هو فيه (أي الجوهر)، مما يعني أن الجوهر متقدم بالزمان على جميع الأعراض كمثل النار وصورة النار، فالجوهر هو علة سائر المقولات الأخرى (الأعراض).
يفحص ابن رشد كما فعل أرسطو الجوهر المحسوس في "ما يعد الطبيعة"، لأن القول بأن الجوهر متقدم بالحد وبالتعريف وبالزمان لا يعني غير أن الجوهر هو أول الموجودات وعلة كافة الأشياء، ولما كان متقدما لها وعلة لها وجب البحث عنه لا باعتباره مفارقا، بل باعتباره محسوسا لذلك يقول: "إذا عرف ما الشيء الذي هو ماهية هذا الجوهر فقد عرفت العلة الأولى لجميع الموجودات"[58]، وهذا يقتضي فحص الآراء السابقة عليه لبيان وجهة نظره في الموضوع فالجوهر هو: محسوس من جهة ومفارق من جهة أخرى وهذا التباين يعكس وجهة نظر أرسطية محضة، ففي معرض رده على الفلاسفة الطبيعيون[59] حاول أرسطو إبراز اختلاف النظر إلى الجوهر بين "العلم الطبيعي" و"علم ما بعد الطبيعة"، ونعتبر أن هذه المسألة في غاية الأهمية لذا سنعمل على إيراد أهم نص يعالج فيه ابن رشد (كما فعل أرسطو) مكانة الجوهر في كلا العلمين، واختلاف النظر إليه لذا نقرأ في مقالة الزاي: "أما الجوهر فمن الناس من قال أنه واحد ومنهم من قال إنه أكثر من واحد ومنهم من قال أنها أشياء متناهية ومنهم من قال أنها غير متناهية.
وهذه الآراء بأعيانها من أراء القدماء هي التي ذكرها عنهم من فحصه عن مبادئ الجوهر المتحرك، أعني الطبيعي، لا كن فحصه ها هنا عن هذه هو بجهة غير الجهة التي فحص في السماع الطبيعي، وذلك أن هناك، إنما فحص عن مبادئ الجسم بما هو طبيعي، أي بما هو موجود ساكن أو متحرك، وهنا إنما فحص عنه من جهة ما هو جوهر فقط، أي قائم بذاته وذلك أن كون الشيء جوهرا وعرضا هي القسمة الأولى التي ينقسم بها الموجود بما هو موجود، والفرق ما بين هذا الطلب والطلب الذي استفتح به في العلم الطبيعي إنما أفضى إلى معرفة المادة الأولى و الصورة الطبيعية والمحرك الأول"[60].
           فالجوهر وفق ما سلف نوعان: جوهر محسوس وجوهر مفارق، أي جوهر يتم بيانه في العلم الطبيعي بما هو جوهر متحرك، ويتم بيانه في علم ما بعد الطبيعة بما هو جوهر مفارق أي بما هو جوهر فقط. وسيتضح هذا التصنيف أكثر في مقالة اللام كما سنرى ذلك.
 وفي معرض نقده لأقوال القدماء بدأ يتساءل عن العلاقة بين الجواهر المحسوسة والجواهر المفارقة: هل ها هنا جواهر ما مفارقة غير الجواهر المحسوسة هي علة الجواهر المحسوسة؟ أوليس ها هنا شيء بهذه الصفة؟ وإن كانت: فكيف هي جواهر لهذه الجواهر المحسوسة؟
يتعلق هذا الإشكال بما سعى إلى بحثه في آخر كتاب "السماع الطبيعي"[61]، حيث وقف على المحرك الأول الذي لا يتحرك، وعن البرهان عن الجوهر المفارق بما استلزم العلم الطبيعي، وما فرضه المنهج من ضرورة الانتقال من الطبيعيات إلى الإلهيات. وبهذا يصح القول أن أرسطو وقف في العلم الطبيعي على الجوهر المفارق وبحث عن أسسه المادية الأولى ومبررات وجوده، وضرورته أيضا، إلا أن بحثه عن الجوهر المفارق في "ما بعد الطبيعة" يختلف عن بحثه في العلم الطبيعي وهذا ما نقرأ في المقطع أعلاه "لا كن فحصه ها هنا عن هذه، هو بجهة غير الجهة التي فحص في السماع الطبيعي".
وفي معرض بيانه للفرق بين دراسة الجوهر المحسوس والمفارق في العلم الطبيعي ودراسته في ما بعد الطبيعة يقول: "وينبغي أن تعلم أن الفرق بين هذا الفحص ها هنا وبين الفحص في أول السماع الطبيعي عن المادة والصورة، أن ذلك الفحص الذي في أول السماع لما كان بما هو فحص طبيعي لم يفض به إلا إلى بيان المادة الأولى فقط بما هي مادة لا بما هي جوهر وإلى الصور الطبيعية فقط لا إلى الصورة الأولى لجميع الأشياء المحسوسة ولا إلى الصورة من حيث هي جوهر.
ولذلك لم يفض النظر في الصور الطبيعية بما هي طبيعية إلى الصور الأولى وذلك أن النظر في الصورة الذي يفضي به إلى الصورة الأولى هو النظر فيها من حيث هي جوهر، وليس ينظر العلم الطبيعي في الأشياء من حيث هي جواهر،,أما المادة الأولى فينظر فيها صاحب العلمين أما صاحب العلم الطبيعي فينظر فيها من حيث هي مبدأ للتغيير. وأما صاحب العلم الإلاهي فينظر فيها من حيث هي جوهر بالقوة، وأرسطو لما نظر فيها في العلم الطبيعي اكتفى بنظره فيها في ذلك العلم عن النظر فيها في هذا العلم"[62].
ولما كانت الغاية من هذا العلم هو البحث عن الجوهر الأول "فلذلك جعل ابتداء الفحص عنه من مبادئ الجواهر المحسوسة، فإذا تبين له أن مبادئ الجواهر المحسوسة أعني الصور هي جواهر، وكان قد تبين في العلم الطبيعي أن هناك جرما محسوسا هو السبب في سائر الجواهر المحسوسات ومتقدم عليها تبين أن صورة هذا الجرم هي مبدأ الجوهر الأقصى المتقدم على سائر الجواهر وأنه أعطى الجواهر الجوهرية الكائنة الفاسدة"[63]. فالبحث عن الجوهر الأول هنا يختلف عنه في العلم الطبيعي، ذلك أن الجوهر في "ما بعد الطبيعة" يتم البحث عنه من جهة ما هو سبب في كافة الجواهر المحسوسة. فإذا كان الجرم المحسوس سببا في سائر الجواهر المحسوسة ومتقدم عليها، فإن هذا الجرم يحتاج إلى جوهر يوجده ويكون سببا له، ويصبح هذا الجرم جوهرا لكل الكائنات الفاسدة والأشياء المتغيرة.
هكذا يتضح لنا أن مفهوم الجوهر في مقالة الزاي يقال على أربعة معان[64]: يقال على الماهية، وعلى الجنس، وعلى الكلي، وعلى الموضوع.
تقال الماهية على ما يدل على إنية الشيء أي على جوهره. فهي المبدأ الأول للوجود ولعلته، وهي متقدمة على سائر الموجودات باعتبارها علة لها. وهذا ما ينطبق مع ما جاء في كتاب المقولات من أن الجوهر الأول هو علة كل الجواهر الأخرى، يعبر عن الماهية باعتباره علة كل الأشياء، يفترض بالضرورة ألا تكون له علة.
إن ما يهمنا هنا في هذا المقام بالضبط هو الاتحاد الذي يقيمه ابن رشد على غرار أرسطو بين الماهية والوجود. والذي يلخص أطروحته ضد نظرية المثل الأفلاطونية[65] والتي نجد أثرها في الفلسفة الإسلامية مع الفارابي وابن سينا.
نشير هنا إلى نقد ابن رشد لأفلاطون بالنظر إلى مكانة هذا النقد في بيان مهمة الجوهر ووظائفه وعناصره الأساسية، وعلى الأخص بيان العلاقة بين الجوهر المفارق والجوهر المحسوس، وهي العلاقة التي أسسها أرسطو للمحاججة ضد نظرية المثل. ويتضح أن النقد الرشدي بما هو نقد أرسطي يتجاوز مستوى الماهية والوجود إلى تجلياته الأخرى، ونقصد بالأساس العلاقة بين الجزئي والكلي أو العلاقة بين العالم العقلي والعالم الحسي. فالجواهر في نظر أفلاطون تقال على الكلي، بل هي كلية في أساسها[66]. حيث يقصي معنى الكلي من دائرة الجوهر لأن النظرية الأرسطية ترى أن الكلي لا يوجد إلا في القول ومن هنا كان النقد الأرسطي للأفلاطونية يتلخص كله في كون أفلاطون جعل من المثال الذي يؤخذ ككلي ماهية، والمثل لا ماهية لها. يقول ابن رشد "وإذ هذه الحالات كلها لازمة لمن يقول بجواهر كلية مفارقة، فبين أنه ليس شيء من الكليات جوهرا، ولا أن جوهرا من الجواهر كلي.."[67]. ومن هنا يرى ابن رشد" أنه ليس يمكن أن يكون شيء من الأشياء التي تسمى كلية جوهرا لشيء من الأشياء وإن كانت هي المعرفة لجواهر الأشياء القائمة بذاتها…"[68].
أما الجوهر باعتباره يقال على الموضوع فيطرح بدوره لبسا لا بد من الإشارة إليه، ذلك أن الموضوع قد يقال على المادة وقد يقال على الصورة وقد يقال على المركب منهما. علما أن المركب قد لا يفي بالغرض بالنظر إلى أنه يحيل على العرض الواحد.
وبالجملة فدراسة الجوهر في العلم الطبيعي من جهة ما هو متغير، غير دراسته في الميتافيزيقا من جهة ما هو جوهر مفارق[69]. وهذا ما دفعنا إلى بيان جهتي النظر إلى الجوهر. وما يطرحه من مفارقة بالنظر إلى ما تستلزمه العلاقة بين علم ما بعد الطبيعة والعلم الطبيعي من تباين واختلاف أحيانا ومن تداخل وتلازم أحيانا أخرى.
فالجوهر هو الموجود الحقيقي، ولهذا كان نظر الفلسفة الأولى في الجوهر: من جهة علله ومبادئه. وهذا عين ما نجده في مقالة اللام حيث يميز ابن رشد بين ثلاثة أنواع من الجوهر: جوهران طبيعيان، وثالث مفارق غير متحرك. وإذا كان العلم الطبيعي يبحث النوعان الأولان فإن الجوهر الثالث هو موضوع "الفلسفة الأولى". لذا نتساءل مع أرسطو: هل يمكن أن يكون جوهر لا يبليه الزمان، ولا يقبل الاستحالات والتغاير، لكن يبقى على حاله الدهر كله؟ فعلى هذا المبدأ لا يقام البرهان، لأن البرهان لا يكون إلا من علل ومبادئ. والعلة الأولى التي هي المبدأ الأول لا توجد لها علة قبلها.
ويتضح هذا التقسيم بين الجوهر المحسوس والمفارق (المعقول) في قوله: "الجوهر نوعان: جوهر قائم بذاته ليس يمكن فيه أن يخلو من الأعراض وهذا هو الجوهر الحامل للأعراض، جوهر قائم بذاته وهو خلو من جميع الأعراض. والأول هو المحسوس وهذا هو المعقول"[70]. والجوهر المحسوس أي الحامل للأعراض نوعان كما رأينا: سرمدي، وغير سرمدي. وهذا ما يفحصه في هذه المقالة حيث خصص الخمسة فصول الأولى منها لفحص الجوهر المحسوس والفصول الأخرى لفحص الجوهر المفارق، للوصول إلى المبدا الأول، أي المحرك الذي لا يتحرك. ذلك أن موضوع هذه المقالة وغايتها إنما تكمن في بيان الموجود بما هو موجود، ثم بيان الجوهر الأول ومبادئه. ولبيان هذا الموضوع تحدث عن موقع هذه المقالة في الكتاب مذكرا بموضوع المقالات التي تسبقها[71].
الجوهر هو الهوية الحقيقية الموجودة خارج النفس، أي أن دراسة الجوهر تقتضي عدم كفاية الهوية بالعرض والهوية الموجودة في الفكر[72]، حيث يرى أن الجوهر كما أشرنا إلى ذلك يتركب من الهيولى من جهة ومن الصورة من جهة ثانية، ومنهما معا من جهة ثالثة. لذلك فالجوهر المعقول والمفارق لا يتم إلا من خلال الجوهر الحسي، أي الكائن والفاسد، وهذا بين بذاته بالنظر إلى وحدة المادة والصورة، تلك الوحدة التي لا تقبل تدخل طرف ثالث بينهما، فالصورة لا معنى لها من دون مادة، وهذه الأخيرة لا يمكنها أن تخرج من القوة على الفعل إلا بفضل الصورة. وهذا ما يتضح أيضا في موضوع المقالتين الواو والزاي: التي يفحص فيهما مبادئ الجوهر المحسوس الكائن الفاسد. والجوهر الفاسد هنا يتكون عن جوهر فاسد هو مثله بالنوع والجنس[73]، لأن المتكون والفاسد هو الشيء المجتمع من الصورة والهيولى. والصور التي يقصد هنا هي صور ليست بكائنة ولا فاسدة إلا بالعرض، "وأنه لما كان هذا ليس للصور الأفلاطونية غناء في الكون وان كانت موجودة أعني الصور المفارقة التي يقول بها أفلاطون. وبين أيضا أن الكليات ليست بجواهر موجودة خارج النفس، وإن كانت تدل على جواهر وأن الصور جواهر لا على أنها أسطقس ولا على أنها من أسطقس بل على أنها مركبة من أسطقس بل على أنها جوهر ثالث"[74].
5 - في الصلة بين الجواهر المحسوسة والجواهر المفارقة
نكون إزاء هذه الخلاصات قد بلغنا مبلغنا، والذي يتمثل في طبيعة العلاقة القائمة بين الجواهر المحسوسة بنوعيها والجوهر المفارق. أي أن الأمر يتعلق بطبيعة الصلة بين علم الجواهر المحسوسة (العلم الطبيعي) وعلم الجوهر المفارق (ما بعد الطبيعة): فكيف يفسر ابن رشد الانتقال من الجواهر المحسوسة إلى الجواهر المفارقة؟ أو كيف يقيم الصلة بين عالم الموجودات الحسية وعالم المعقولات؟
أولا لا ينبغي الخلط بين الجوهر المحسوس والجوهر الأزلي، وهذا ما نفهمه من قوله: "ينبغي أن نفهم أن ها هنا من الجوهر الجنس الكائن الفاسد والأزلي، وأن غرضه في هذه المقالة على القصد الأول هو التكلم في مبادئ الجوهر الأزلي وذلك أن مبادئ الجوهر المحسوس الكائن الفاسد قد بينها في مقالة الواو والزاي وقد بينت أيضا في العلم الطبيعي، لكن بجهة غير الجهة التي تبينت في هذا العلم. وذلك أن النظر في مبادئه من حيث هي أسباب التغيير الذي الكون والفساد وسائر أنحاء التغايير الباقية. ولذلك يبدأ أولا فينظر في مبادئ الجوهر الكائن الفاسد ويذكر بما قد تبين عن ذلك في العلمين جميعا أعني في العلم الطبيعي وفي المقالة المتقدمة لهذه المقالة. ولذلك كانت هذه المقالة تنقسم أولا إلى جزأين أحدهما النظر في مبادئ الجوهر الكائن الفاسد والآخر النظر في مبادئ الجوهر الأزلي"[75]. فالخلط بين هذين النوعين من الجوهر قد يسقطنا في الخطأ الشنيع الذي وقع فيه الإسكندر وثامسطيوس ومن بعدهم الفارابي وابن سينا، أي أن الخلط بين الجوهر المحسوس والجوهر الأزلي سيؤدي بنا إلى القول باتحاد العالمين: عالم المعقولات وعالم المحسوسات، والذي يستلزم عدم الفصل بين المجال الفيزيقي والمجال الميتافيزيقي، بين عالم الجواهر الحسية، وعالم الجواهر المفارقة. وبهذا يقر ابن رشد ضرورة التمييز بين جهتي النظر الفيزيقية والميتافيزيقية، بصدد مسألة الجوهر. فالنظر في الجوهر المحسوس الكائن الفاسد من جهة العلم الطبيعي غير النظر فيه من جهة علم ما بعد الطبيعة، لذا انقسمت هذه المقالة إلى جزأين: أحدهما خاص بالنظر في الجوهر الكائن الفاسد ولكن من زاوية غير جهة نظر العالم الطبيعي، والآخر خاص بالنظر في مبادئ الجوهر الأزلي.
ولما كان النظر في الجوهر هو موضوع هذا العلم، فإن هذا النظر لا ينفصل عن النظر في مبادئ الجوهر وعلله، ذلك أن الجوهر بما هو مقولة منطقية تظل علة لسائر المقولات الأخرى التي يتقدمها. فالموجود على التحقيق وبإطلاق هو الجوهر، وأما سائر المقولات فموجودة بإضافة. والسبب في ذلك أن الجوهر هو الموجود بذاته والقائم بنفسه، أما المقولات الأخرى فهي موجودة في الجوهر.
فالتمييز يقتضي الانتباه إلى أن الحديث عن الجواهر المحسوسة هنا في هذه المقالة، لا يعني أنها موضوع من مواضيع علم الموجود بما هو موجود، وإنما يذكر فقط بما تبين في العلم الطبيعي، أي أن الجواهر المحسوسة هنا تستعمل كجسر للانتقال إلى الجواهر المفارقة، ما دام البرهان والدليل على ذلك هو دليل طبيعي يتم بواسطة الحركة. أي أن الأمر يقتضي تجاوز مخلفات النظرة الأفلاطونية التي تؤكد على كلية الجواهر حيث يرى ابن رشد أن الجوهر لا يتمثل في الكليات شأنه في ذلك شأن أرسطو، معتبرا أن إبطال فكرة كون الجوهر هو الكلية قد تم في مقالة الزاي، ويضيف أن نقد أرسطو يتوجه صوب إبطال فكرة أفلاطون القائمة على مقدمات منطقية غير مناسبة، بل باطلة، مما ينتج عنه نتائج غير مناسبة وهذه هي طريقة الجدل، لذا يقول ابن رشد: "فقال (أي أرسطو) فأما الموجود منهم الآن يعني المحدثين فكانوا يعتقدون أن الكليات هي الجواهر وأنها مبادئ الجوهر المحسوس يشير بذلك إلى أفلاطون... وأما أفلاطون فكان يضع الكليات أمورا قائمة خارج النفس موجودة بذاتها (...) وقد تقدم في مقالة الزاي إبطال كون الكليات جواهر"[76]. وعلى عكس هذه النظرة التي تنظر إلى الجوهر بما هو كليات فإن "النظر في مبادئ الموجود يوجب أن يكون النظر في الجوهر وأن الجوهر الذي نطلب مبادئه ليس هو شيء كلي أخذ يقسم أنواع الجوهر"[77].
فالجوهر على ثلاثة أصناف كما يذهب إلى ذلك ابن رشد في التفسير حيث يقول في مقالة اللام: "إن الجواهر ثلاثة، جوهر محسوس وغير محسوس، والمحسوس قسمان أحدهما جوهر سرمدي غير كائن ولا فاسد على ما تبين في العلم الطبيعي وهذا هو الجرم الخامس، والآخر كائن فاسد وهو الذي يقر به الجميع مثل النبات والحيوانات"[78]. وهو التمييز الذي لا يستحضره أغلب الشراح معتبرين أن الجوهر المحسوس يفهم منه فقط جوهرا مرتبطا بالعالم المحسوس بما هو جوهر متغير وواقع في الحركة.
وفي هذه المقالة يحاول ابن رشد أن يبين الرأي الباطل الذي تبناه الإسكندر، والرأي الذي تبناه ابن سينا، فالجوهر السرمدي لا يبينه الفيلسوف بل الفيزيقي (الفيزيائي)، أي صاحب العلم الطبيعي كما جاء في آخر الثامنة والأولى من السماع الطبيعي، فكيف يقال إن صاحب العلم الطبيعي يضعه وضعا ووجوده لا يمكن بيانه إلا في العلم الطبيعي؟ وكيف يسوغ أن يقال إن الذي يتكفل بيان مبادئه العلم الطبيعي، هو الجوهر الكائن الفاسد، وهو ليس إنما ينظر في الجوهر الكائن الفاسد فقط، بل وفي غير الكائن والفاسد، لأن نظره إنما هو في الوجود المتحرك سواء كان كائنا أو لم يكن؟
تعتبر هذه التساؤلات عن رؤية نقدية تسلح بها ابن رشد وهو يفحص نصوص الشراح الكبار، ففي نظره "إن هذا القول على هذا التأويل قول باطل"[79]. وبخصوص فهم ابن سينا يقول: "وأما ابن سينا فلما اعتقد صحة القول بأن كل علم لا يبرهن مبادئه وأخذ ذلك بإطلاق. اعتقد أن مبادئ الجوهر المحسوس، سواء كان أزليا، أو غير أزلي، صاحب الفلسفة الأولى، هو الذي يتكفل بيان وجودها. فقال إن صاحب العلم الطبيعي يضع وضعا أن الطبيعة موجودة، وأن صاحب العلم الإلهي هو الذي يبرهن وجودها ولم يفرق بين الجوهرين في ذلك"[80]. ويفهم من هذا الكلام أن الرأي الذي عبر عنه الشيخ الرئيس والإسكندر هو على خلاف ما يعتقد ابن رشد، وهذا ما يستوجب في نظره ضرورة تقويم بعض الآراء الخاطئة التي تنسب إلى المعلم الأول، وهي لا تتصل به. وبالنظر إلى مكانة هذا النقد الذي سنه أبو الوليد اتجاه ابن سينا على الأخص فقد خصصنا له فصلا كاملا لبيان مختلف الحجج التي يحاج بها ضد ابن سينا.
إن الإقرار بالتمييز بين الجوهر الطبيعي والمفارق يؤدي عمليا إلى القول أن بين العلمين صلة ظاهرة على مستوى دراسة الجوهر، فهما يشتركان في الموضوعات ولكنهما يختلفان في جهة النظر لذلك يقول ابن رشد: "فهكذا ينبغي أن يفهم اشتراك هذين العلمين، أعني الطبيعي والإلاهي في النظر في مبادئ الجوهر. أعني أن العلم الطبيعي يبين وجودها من حيث هي مبادئ جوهر متحرك، وصاحب هذا العلم ينظر فيها بما هي مبادئ للجوهر بما هو جوهر لا جوهر متحرك"[81]. أي أن "النظر الطبيعي إنما هو في الجواهر التي في الحركة، من حيث يأخذ مبادئ هذه من الفلسفة الأولى. وأما الجوهر الغير متحرك، فالكلام فيه خاص بالفلسفة الأولى"[82]. فالحركة هنا هي الحكم والفيصل في هذا الأمر. وهذا طبيعي بالنظر إلى دليل الحركة، لأن قانونها يقتضي الانتهاء إلى جوهر يحرك ولا يتحرك، وإلا لما كان مفارقا، وبدون لما انتهى الجوهر إلى الواحد. فلما كانت الغاية من علم الموجود بما هو موجود هو البحث عن السبب الأقصى والمبدأ الأول الذي يكون بالضرورة واحد فينبغي أن ينتهي إلى جوهر أول[83].
بهذه الصلة المفترضة هنا بين الجوهر المحسوس والجوهر المفارق نكون قد أجبنا جزئيا عن العلاقة القائمة بين الطبيعة وما بعد الطبيعة. أي أن الأمر يتعلق في هذا المستوى بالإقرار بالصلة بين العلمين، وهو ما سميناه أعلاه بالاشتراك. وهو اشتراك لا يلغي وجود تباين كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الثالث. بل إن هناك تمايزا بين العلمين. وانفصال قل نظيره حينما يتعلق الأمر بجهة النظر التي تخص موضوع علم واحد بعينه. فصحيح أن للفلسفة الأولى الحق في وضع المبادئ العامة لباقي العلوم الجزئية كما لهذه الأخيرة الحق في وضع مبادئ عامة تسري على الفروع التي تتفرع عنها. إلا أن العلوم الجزئية لها أيضا الحق في وضع مبادئ العلم الكلي. فلسنا ها هنا أمام علاقة تنازلية يتم فيه النزول من العلم الأعلى نحو العلم الأسفل. بل أمام علاقة نتوجه فيها أحيانا من الأعلى إلى الأسفل وأحيانا أخرى من الأسفل نحو الأعلى، أي علاقة تصاعدية وتنازلية في الآن ذاته.


قائمة المراجع والمصادر:
1. ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): رسالة النفس تحقيق جيرار جهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبناني ، الطبعة الأولى سنة 1994.
2. ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): كتاب السماء والعالم. تحقيق عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، 1961.
3. ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): "تفسير ما بعد الطبيعة"، تقديم و ضبط و تعليق جوزيف بويج Maurice Bouyges ، دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية) بيروت، لبنان، 1967
4. ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): تلخيص منطق أرسطو، كتاب المقولات تحقيق جيرار جهامي المجلد الأول. دار الفكر اللبناني 1994.
5.   ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): "رسالة السماع الطبيعي"، تقديم و ضبط و تعليق جيرار جهامي، رفيق العجم. بيروت: دار الفكر اللبناني 1994. 
6.   ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): "رسالة ما بعد الطبيعة"، تقديم و ضبط و تعليق جيرار جهامي، رفيق العجم. بيروت: دار الفكر اللبناني 1994. 
7.   ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): "رسالة النفس"، تقديم و ضبط و تعليق جيرار جهامي، رفيق العجم. بيروت: دار الفكر اللبناني 1994. 
8.   ابن رشد، محمد بن أحمد بن محمد (الحفيد): "تلخيص ما بعد الطبيعة"؛ حققه وقدم له عثمان أمين. القاهرة: مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1958. 
9. أبو نصر الفارابي: "كتاب الحروف"، حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي، دار المشرق، لبنان بيروت، 1990، الطبعة الثانية.
10.      محمد المصباحي: "تحولات في تاريخ الوجود والعقل"، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى سنة 1995.
11.      أرسطو طاليس: "في السماء والآثار العلوي، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، دراسات إسلامية 28، الطبعة الأولى 1961.
12.                     عبد الرحمن بدوي: "أرسطو"، وكالة المطبوعات ـ الكويت، دار القلم ـ بيروت، الطبعة الثانية، 1980.
13.      عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة، الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984.
14.      المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1979، مادة: جوهر.

15.              Aristote, physique, traduction et présentation par Pierre Pellegrin, Paris Flammarion, 2000.
16.              Aristote, la métaphysique, nouvelle édition, entièrement répondue, avec commentaire par J. tricot, paris, Vrin, 1974. 
17.              Aristote, la métaphysique, traduction de Jules BARTHELEMY-SAINT-HILAIRE, revue et annotée par Paul MATHLAS ,paris, Pocket, 1991.











[1]  - يمكننا أن نسجل التباس اللغة الفلسفية لابن رشد، فهو عادة ما يستعمل عدة مفاهيم للدلالة على الجوهر كما هو الأمر بالنسبة للعديد من المفاهيم الأخرى، فالجوهر يستعمل على معان مختلفة للدلالة على: الموضوع والماهية والذات، وفي نفس الوقت نجده يستعمل هذه المفاهيم بدلالة واحدة، فأحيانا لا يمكننا التمييز بين الجوهر والصورة... ولقد نبهنا محمد المصباحي إلى التباس اللغة الفلسفية لابن رشد في كتابه "تحولات في تاريخ الوجود والعقل"، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى سنة 1995، ص 159.
[2] - يعرف أرسطو مفهوم الجوهر في كتاب الدال بقوله: "يقال الجوهر على الأجسام البسيطة، كالتراب والنار والماء والأشياء المشابهة الأخرى. وفي الغالب فإنه يقال على الأجسام ومركباتها سواء الحيوانات أو الموجودات الإلهية وأخيرا على أجزاء هذه الأجسام. وكل هذه الأشياء تسمى جواهر لأنها ليست محمولات موضوع، بل الأشياء الأخرى هي محمولات، وبمعنى آخر فجوهر[2] هو علة محايثة لوجود الموجودات التي تتمثل طبيعتها في أنها ليست مقولة عن موضوع، كالروح بالنسبة للحيوان. ويقال الجوهر أيضا على الأجزاء المحايثة للموجودات، هذه الأجزاء التي تحد شخصها وتعينه، والتي يؤدي القضاء عليها إلى القضاء على الكل. وهذه هي حال السطح بالنسبة للجسم والخط بالنسبة للسطح حسب ما يقول بعض الفلاسفة. وبصفة أعم فإن هؤلاء الفلاسفة، يعتبرون العدد جوهرا من هذه الطبيعة، لأنه إذا أعدم انتهى كل شيء، فهو الذي يحد كل الأشياء. وأخيرا فإن الماهية التي تصاغ في الحد، هي أيضا جوهر كل الأشياء.
وينتج عن كل ذلك أن الجوهر يرجع إلى معنيين: فهو الموضوع الأخير، الذي ليس مقولا عن أي موضوع غيره. وهو أيضا ما هو قابل للفصل، لكون الشخص معتبرا في جوهره، أي أنه شكل كل موجود أو صورته".
- Aristote, la métaphysique, traduction de Jules BARTHELEMY-SAINT-HILAIRE, revue et annotée par Paul MATHLAS, paris, Pocket, 1991. pp 180, 181.

[3]  - يعتبر أرسطو أن الأثير هو جوهر الأجرام السماوية، لا يخضع للكون والفساد ولا ينشأ عن تحول العناصر الأربعة ولا يتحول هو إليها، إنه جوهر يتحرك حركة دائمة، أي في استمرار. وفق ما جاء في كتاب السماء والعالم. تحقيق عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى، 1961.
[4]  - من المهم الانتباه إلى هذه المسألة في التقسيم على الرغم من أن الجوهر الثاني هو جوهر حسي، ولكنه يتطلع إلى أن يكون مفارقا أو وسطيا يقع بين الحسي والمفارق. ونعني بالوسطية هنا أن الانتقال من مجال الحس إلى مجال المجرد تحتاج إلى وسيط يتكون من الحسي ومن المجرد، فالجوهر المحسوس منه جوهر سرمدي ومنه ما هو فاسد، فالسرمدي غير كائن ولا فاسد، في حين أن غير السرمدي يتعلق بالجوهر الطبيعي الواقع في التغير والحركة. وهذا الجوهر الذي ينتمي إلى مجال الحس وإلى مجال المعقول، يكون ضروريا لتفسير الانتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، وقد خصص المقالة الثامنة من السماع لبيان ذلك.
[5]  - المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1979، مادة: جوهر.
ويقال عامة بمعنى أنه الموجود في موضوع، لكن ليس كل ما وجد في موضوع هو عرض، بل العرض هو ما وجد في موضوع وكان الموضوع مستغنياً عنه، كالحرارة الموجودة في الماء، والماء مستغن عنها، والبياض الموجود في الورقة والورقة مستغنية عن البياض. ولهذا نقول: الماهية إذا وجدت في الخارج، ووجدت في موضوع، وكان هذا الموضوع مستغنياً عنها، كانت هذه الماهية هي العرض. ولبيان الفرق بين الجوهر والعرض يورد ابن رشد مثالا ملموسا، فحينما نقول عن موجود بأنه أبيض فإننا نعني بأن البياض موجود في هذا الموجود أي قائم في موضوع، أما حينما أقول بأن موجودا ما إنسان، فإننا لا نتحدث عن شيء خارج عن ذاته، فالإنسان ليس خاصة فيزيائية يمكن ملاحظتها في بعض الموضوعات، بل هي حقيقة حاضرة موجودة هناك، وماثلة أمامنا، وباختصار فالجوهر هو الوجود بالحقيقة كما يقول ابن رشد.
[6]  - ويمكن أن نجمل التمثل العامي حول الجوهر والتعريف الفلسفي في أهم ملخص قدمه لنا الفارابي في كتابه الحروف، ولا شك في أن ابن رشد قد استعمله في مقالة الزاي وإن بشكل مقتضب جدا. يقول الفارابي: "فهذه هي المعاني التي يفال عليها الجوهر عند الجمهور. وهي كلّها تنحصر في شيئين، أحدهما الحجارة التي في غاية النفاسة عندهم، والثاني ماهيّة الشيء وما به ماهيّته وقوام ذاته - وما به قوام ذاته إمّا مادّته وإمّا صورته وإمّا هما معا. ويكون الجوهر عندهم إمّا جوهرا بإطلاق وإمّا جوهر الشيء مّا". أبو نصر الفارابي: "كتاب الحروف"، حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي، دار المشرق، لبنان بيروت، 1990، الطبعة الثانية، ص 100. وفي التعريف الفلسفي يقول الفارابي: "الجوهر في الفلسفة ضربين، أحدهما الموضوع الأخير الذي ليس له موضوع أصلا، والثاني ماهيّة الشيء - أيّ شيء اتّفق ممّا له ماهيّة. ولا يقال الجوهر على غير هذين"، كتاب الحروف، م، ن، ص 71.
[7]  - عبد الرحمن بدوي: "أرسطو"، وكالة المطبوعات ـ الكويت، دار القلم ـ بيروت، الطبعة الثانية، 1980، ص 82.
[8]  - يقول بدوي في هذا الصدد: "إن المقولات حلقة اتصال بين المنطق وبين ما بعد الطبيعة" نفس المرجع: أرسطو، ص 83.
[9]  - ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، ص 1407.
[10]  - ابن رشد تفسير ما بعد الطبيعة، ص 1404.
[11]  - فالجوهر ينتمي إلى المقولات، التي هي أنواع الدلالات في القول، أو بحسب ابن سينا: "كل لفظ فرد يدل على شيء من الموجودات" فإما أن يدل على جوهر، وهو ما ليس وجوده في موصوف به قائم بنفسه، وإما على كمية... أو كيفية أو إضافة أو أين أو متى أو الوضع، الملكية أن يفعل شيء، أن ينفعل شيء، وعادة ما يختزلها العرب في البيت التالي:
زيد، الطويل، الأزرق، ابن مالك               ****            في بيته بالأمس، كان متكئ
بيده، رمح، لوا، فالتوى                          ****            فهذه عشر مقولات سوا
عبد الرحمان بدوي: "موسوعة الفلسفة"، مرجع سابق، ص 459.
[12]  - تلخيص منطق أرسطو، كتاب المقولات تحقيق جيرار جهامي المجلد الأول. ص 16، دار الفكر اللبناني 1994.
[13]  - تلخيص منطق أرسطو : كتاب المقولات، مرجع سابق ص 17.
[14]  - نفس المرجع ص 18.
[15]  - سنعود إلى تفصيل هذه المسألة، بعد إبراز دلالات الجوهر عند ابن رشد.
[16]  - نفس المرجع ص 32.33.
[17]  - نفس المرجع ص 23.
[18]  - مشكلة الإسناد أو الحمل prédication
[19]  - رسالة السماع الطبيعي مرجع سابق ص 32.
[20]  - رسالة السماع، ص 33.
[21]  - رسالة السماع، ص 32.
[22]  - رسالة السماع، ص 34.
[23]  - رسالة السماع، ص 35.
[24]  - رسالة السماع، ص 35.
[25]  - رسالة السماع، ص 36.
[26]  - يقف ابن رشد في أول رسالة النفس على صلة النفس بعلم الطبيعة، وذلك في قوله: "الغرض هاهنا أن نثبت من أقاويل المفسرين في علم النفس ما نرى أنه أشد مطابقة لما تبين في العلم الطبيعي، وأليق بغرض أرسطو. وقبل ذلك فلنقدم ما تبين في هذا العلم ما يجري مجرى الأصل للموضوع لنفهم جوهر النفس.
فنقول أنه تبين في الأولى من السماع أن جميع الأجسام الكائنة الفاسدة مركبة من هيولى وصورة، وأنه ليس ولا واحد منهما جسما، وإن كان بمجموعهما يوجد الجسم، وتبين هنالك أن الهيولى الأولى لهذه الأجسام ليست مصورة بالذات ولا موجودة بالفعل..."، ابن رشد رسالة النفس تحقيق جيرار جهامي ورفيق العجم، دار الفكر اللبناني ، الطبعة الأولى سنة 1994، ص 27.
[27]  - تلخيص كتاب النفس، ص 47: 4.
[28]  - تلخيص كتاب النفس، ص 56: 1.
[29]  - مقالة الزاي، ص 769
[30]  - وفي هذا يقول ابن رشد: "المواد صنفان: صنف موضوع للتغير الذي يكون في الجوهر وهو أخص باسم المادة، وصنف موضوع لسائر التغاير الآخر، وهذا يخص في الأكثر باسم الموضوع" تلخيص ما بعد الطبيعة، ص 67.
[31]  - وفي هذا يقول ابن رشد: "فإن كانت الصورة متقدمة في الوجود على الهيولى، وأكثر في باب الهوية لكون الهيولى موجودة بالقوة، والصورة موجودة بالفعل، فإنها تكون متقدمة أيضا على المركب من كليهما. لأن المركب إنما يكون موجودا بالفعل من قبل الصورة (…) فالصورة أحق باسم الجوهرية من المركب" مقالة الزاي، 770.

[32]  - ومن الجدير بالذكر أننا سنقتصر هنا على كتاب "تفسير ما بعد الطبيعة"، لأنه لا يمكن التمييز في "رسالة ما بعد الطبيعة" بين الأقوال الرشدية والأقوال الأرسطية، في حين أنه يميز بدقة في التفسير بين أقوال أرسطو وأقواله هو.
[33]  - نقول مقالة الدال للاستئناس بالنظر أولا إلى أنها مقالة مشكوك في نسبتها إلى أرسطو، فحتى في الترجمة الفرنسية يتم الاعتراض عليها من خلال موقعها بين مقالتين لا رابط بينهما، مما يدل على أنها مقالة خارجية لا يربطها أي شيء لا بالمقالة التي قبلها ولا بالتي بعدها في الترتيب. أنظر في هذا:
Aristote: la métaphysique, traduit par J. Tricot, PUF 1974, Tome 1, p XXIII, XXIV.
[34]  - وفي هذا يقول عبد الرحمن بدوي: "ليس لابن رشد كتاب قائم برأسه في الإلهيات، وإنما نتلمس آراءه في هذا الباب من شرحه على "ما بعد الطبيعة" لأرسطو وتلخيصه من ناحية، ومن ردوده على الغزالي في كتاب تهافت التهافت"، موسوعة الفلسفة، الجزء الثاني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى 1984، ص 31.
[35]  الباء: وهي المقالة الثالثة من الكتاب. وفي الترجمة الفرنسية الكتاب باء: le livre B
[36]  - وتتكون من 14 قضية، أنظر تفسير ما بعد الطبيعة مقالة الباء ص 171...
[37]  - هي في الأصل أربعة عشر شكا أخذنا منها ما يهم موضوعنا.
[38]  - حيث يقول: "فالتقدم والتأخر قد يوجد في الجنس الواحد بعينه وقد يوجد في الأجناس المختلفة التي تقال بالنسبة إلى شيء واحد كالحال في اسم الموجود على المقولات العشر"، تفسير ما بعد الطبيعة، ص 1409- 1410.
[39]  - نفس المرجع: 752 – 13.
[40]  - نقرأ في التفسير: "إن الجوهر يقال في المشهور على أربعة معان: على ما يدل عليه الحد وهو الصورة، وعلى الموضوع للصورة، وعلى الجنس أكثر من النوع، وعلى الكلي أكثر من الجزئي". التفسير: 1026، 5.
[41]  - يستعمل الجوهر بمعان مختلفة: جوهر بالفعل، أول، حامل الأعراض، سرمدي، عام، غير متحرك، غير منقسم، كلي، محسوس، المشار إليه، المطلق، المفارق، المفرد...
[42]  - فالجوهر المفارق هو علة الأجرام السماوية، في حين تبقى الجواهر المحسوسة بنوعيها علة عالم ما تحت القمر، وفي هذا يقول ابن رشد: "إن الأشياء التي لا تتحرك واجب أن تكون سرمدية أكثر من السرمدية المتحركة الإلاهية يعني الأجرام السماوية لأن هذه هي علتها، أعني الجوهر المفارق هو علة الأجرام السماوية". التفسير: 74، 15.
[43]   - التفسير: 866 – 3.
[44]  - بحسب التعريف المنطقي كما رأينا ذلك في "تلخيص كتاب المقولات".
[45]  - وهنا يقول ابن رشد: "الجوهر ليس جوهرا لأشياء كثيرة وإنما هو جوهر إما لذاته وإما للشيء الذي هو جوهر له"، التفسير: 1002، 10.
[46]  - رسالة ما بعد الطبيعة، ص 38.
[47]  - التفسير، 744.
[48]  - التفسير ص 749: 6.
[49]  - التفسير ص 748.
[50]  - التفسير، ص 749.
[51]  - التفسير، ص 751: 3-4.
[52]  - التفسير 752: 13-14.
[53]  - التفسير ص 751.
[54]  - التفسير ص 753.
[55]  - التفسير 754: 10 – 11.
[56]  -  التفسير، 751، 15.
[57]  - التفسير ص 751، 17.
[58]  - التفسير، 759: 3-4.
[59]  - انظر المقالة الأولى والثانية من كتاب الطبيعة: السماع الطبيعي. وفي الترجمة الفرنسية أنظر:
Aristote: physique, tr: p. pullegrin, Ibid pp: 69 – 158.
[60]  - التفسير: ص 759-760.
[61]  - وتحديدا في المقالة السابعة والثامنة.
[62]  - التفسير ص 779-780.
[63]  - التفسير ص 780 – 781.
[64]  - يقول ابن رشد: "الجوهر وإن كان يقال على أنواع كثيرة فإنه ينحصر في أربعة مشهورة.
ثم ذكر تلك الأنواع، فقال، فإنه يظن أنه الذي هو الإنية والكلي أيضا والجنس يظن أنه جوهر كل واحد، يري، فإنه يطلق اسم الجوهر على ماهية الشيء، وقد يقال على الكلي المحمول على الشيء من طريق ما هو انه جوهر وكذلك يظن أن الجنس القريب المحمول على الشيء إنه جوهر ويشبه أن يكون إنما قال ذلك لأن القدماء كانوا يختلفون في هذا المعنى...
ثم قال والرابع من هذه الموضوع يعني به شخص الجوهر ولذلك أتي بحده الذي حده به في كتاب المقولات فقال، والموضوع هو الذي تقال الآخر عليه وأما ذلك بعينه فلا يقال على غيره... ويقال مثل هذا (الذي يقال على الموضوع) بنوع ما الهيولى وبنوع آخر الصورة وبنوع ثالث الذي منهما". مقالة الزاي ص 768 – 769.
[65]  - سوف نقف فيما يأتي من البحث على حجج ابن رشد ضد نظرية المثل والتي لخصها في هذه المقالة وفي غيرها، لأن الحديث عن حجج هذه المقالة لوحدها غير كاف.
[66]  - ينبغي أن نستحضر أن ابن رشد لا يهدف من وراء تنقيحه للنص الأرسطي إلى بيان درجة وفاءه للمعلم الأول بل إلى نقد أطروحة علماء الكلام التي تتنافى والحكمة الفلسفية.
[67]  - التفسير، ص 1005.
[68]  - التفسير، ص 962. وسنقف فيما بعد على حجج ابن رشد على ذلك بالنظر إلى أنها تستدعي أيضا الاستئناس بشرح البرهان وبمقالة اللام.
[69]  - وهذا ما يبرره قول: "لما كان الجوهر منه مفارق وغير مفارق انقسم النظر في الجوهر إلى قسمين". التفسير: 744، 9.
[70]  - التفسير، م، ن، ص1535 – 15.
[71]  - يحدد ابن رشد في ديباجة المقالة، كيفية اشتغاله على هذه المقالة مبينا أن بعض الشراح أولوا العناية لها نظرا لمكانتها في هذا العلم، وأن ابن رشد سيقف على ما أضافه هؤلاء الشراح مميزا بين أقوالهم وأقواله لذلك يقول: "وكذلك نذكر نحن أيضا ما كان من عندنا من زيادة أو شك"، وهنا يشدد ابن رشد ويعلن بشكل صريح أن عمله فيه إضافات تخصه هو وعليه التشكيك في بعض القضايا. التفسير، ص 1394: 1 – 2.
كما حدد فيها موضوع هذه المقالة حيث يقول: "وأما في هذه المقالة [اللام] فتكلم في مبادئ الموجود بما هو موجود، وفي مبادئ الجوهر الأول الذي هو في غاية الحقيقة، وذلك من حيث يبين أنه يوجد جوهر ما هذه حاله، وما هو هذا الجوهر. وبيان هذا الجوهر كان الغاية المقصودة من هذه العناية" (31 – 32).
[72]  - لذلك يقول: "ولما تبين له أن الهوية التي بالعرض، والتي في الفكر ناقصتان، وأن التي يقصد هذا العلم الفحص عنها هي الهوية الحقيقية الموجودة خارج النفس. شرع بعد ذلك يفحص عن هذه الهوية، ولما كان الجوهر هو مبدأ هذه الهوية أخذ يطلب ما هي مبادئ الجوهر وابتدأ من ذلك بمبادئ الجوهر الكائن الفاسد، فعرف أنها الصورة والهيولى، وجعل السبيل إلى معرفة أن الصور جواهر من قبل الحدود أعني أنه لما بين أن الحدود تدل عن الجواهر المحسوسة على شيء هو منها جوهر وأنها تدل على الصور اجتمع له من ذلك أن الصور جواهر وأنها والشيء الذي هي له صورة تكون شيئا واحدا بعينه وأنه لمكان ذلك ليس للأعراض جواهر ولا يحتاج في معرفة الأشياء إلى إدخال صور مفارقة هي غير الصور المحسوسة" التفسير، ص 1402: 4-17.
[73]  - وهذا ما يسمى بنظرية التوليد، حيث الإنسان لا يولد إلا من الإنسان. لا من غيره، وسوف نشير إلى هذا في نقد نظرية المثل.
[74]  - التفسير ص 1403: 4 – 7
[75]  - التفسير 1407: 2-13.
[76]  - التفسير ص 1417
[77]  - التفسير، ص 1418: 16-17.
[78]  - تفسير ما بعد الطبيعة، 1420، 1-5. والجوهر الخامس المشار إليه في النص يسمى بالأثير وهو جوهر الأجرام السماوية، ومن خواصه أنه لا يخضع للكون والفساد، ولا عن تحول العناصر الأربعة، ولا يتحول هو إليها، أنظر بصدد هذه الفكرة: أرسطو طاليس: "في السماء والآثار العلوي، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، دراسات إسلامية 28، الطبعة الأولى 1961، ص2.
[79]  - التفسير: 1432، 13.
[80]  - التفسير ص 1423، 1424.
[81]  - التفسير ص 1425- 1426.
[82]  - التفسير ص 1429.
[83]  - أنظر بهذا الصدد النقطة الثانية من نقد ابن رشد لنظرية المثل والمعنونة ب: "الجوهر والواحد والمحرك الأول"، في الباب الثالث من هذا البحث.

هناك تعليقان (2):

  1. أين اسم الكاتب؟ومعلومات الاتصال به

    ردحذف
  2. هل المقالة ل د رشيد؟

    ردحذف