اهتم ابن رشد بالطبيعيات كغيره من الفلاسفة والعلماء،
وهو اهتمام يترجم التطور الحاصل في العلوم بالأندلس آنذاك، وانكب أول الأمر في العلم
الطبيعي على الجوامع الطبيعية: «جوامع السماع الطبيعي»، و«جوامع السماء والعالم»، و«الكون
والفساد»، و«الآثار العلوية»، والتي تشمل المباحث الأربعة الأولى من العلم الطبيعي
الأرسطي، وهي في الترتيب تأتي ثانية بعد جوامع المنطق الصغار، ويليها بعد ذلك جامع
النفس، وأخيرا جوامع الميتافيزيقا.
وفي المرحلة الثانية ألف ابن رشد تلاخيص العلم الطبيعي،
منها: «تلخيص السماء والعالم»، و«الكون والفساد»، و«الآثار العلوية»، و«كتاب النفس».
أما في المرحلة الثالثة فقد اهتم بشروح العلم الطبيعي
التي لم يغطها كاملة، بل اكتفى فقط منها بـ«السماع الطبيعي» و«السماء والعالم»، و«النفس».
ويضاف إلى هذا التصنيف الثلاثي في العلم الطبيعي العديد من المقالات، نشر أغلبها جمال
الدين العلوي في كتابه «مقالات في المنطق والعلم الطبيعي»، وهي: «تعليق على المقالة
السابعة والثامنة من السماع الطبيعي لأرسطو»، و«مقالة في أصناف المزاج أو في المزاج
المعتدل»، و«مقالة في البذور والزروع».
يرى ابن رشد أن «العلم الطبيعي ينظر.. في السببين الأولين
المحرك والهيولى»، كعلم يهتم و«ينظر في بعض أجناس الموجودات وهي المتحركة»، وعلم من
«العلوم النظرية لا العملية، إذ كانت الأشياء الطبيعية تظهر في حدودها الطبيعية، كما
أن الأمور الإرادية تظهر في حدودها الإرادة». إنه علم يتكفل ببيان موضوعه وبالبرهان
على مبادئه، لذا يشدد على أنه «على صاحب العلم الطبيعي أن يبرهن أن الطبيعة موجودة،
وليس على صاحب علم من العلوم أن يفعل ذلك، بل يضعها وضعا، سواء كانت بينة بنفسها أو
لم تكن»، فالطبيعة في تعريفه «مبدأ وسبب لأن يتحرك به ويسكن الشيء الذي هي فيه أولا
وبذاته لا بالعرض»، وما يعنيه ذلك من إقرار بالسببية التي في الطبيعة. فالعديد من الأشياء
تعود في تكونها وفسادها إلى الطبيعة بما هي مبدأ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل أو تفسير
آيديولوجي، عدا عن أنه يرفض جملة وتفصيلا منكري السَّببية الطبيعية، بسبب إفراطهم في
النّزعة الفيضيّة ونكرانهم لكل صدور وحدوث ذاتي.
ويعالج العلم الطبيعي المادة والصورة والعلاقة بينهما،
فالمادة كما يقول في «رسالة السماع الطبيعي»، هي «الموضوع الأقصى لجميع الكائنات الفاسدات،
ليس فيه شيء من الفعل أصلا، ولا له صورة تخصه». إنها مبدأ هيولاني لا وجود له بذاته،
بل بالصور التي تتعاقب عليه. ومن المادة تتكون الموجودات الأولى: النار والماء والهواء
والتراب، التي تتصف بأحد الطباع: الحار والبارد والرطب واليابس. وبهذا فالعلم الطبيعي
يدرس ويبحث في مبادئ الموجودات الطبيعية التي تتركب من هيولى، وصورة، أي يبحث في الأجسام
الطبيعية وفي الأعراض المتغيرة، أي في الموجودات التي وجودها بإرادة الإنسان، وفي الأجسام
المحسوسة المؤلفة من الصور والمواد ولواحقها.
وبالجملة، فابن رشد يسعى - في اعتقادنا - وراء الاهتمام
بالعلم الطبيعي، إلى بناء نظرية متكاملة تعبر أيّما تعبير عن رؤيته للعالم كحاجة ماسّة
للوقوف أمام الرؤية الفقهية التي تنبذ كل اشتغال بالعلم لصالح عقل أصولي همه الأول
والأخير هو جعل التأويل الثيولوجي سابقا على التأويل الوجودي. فالإقرار بأحقيّة العلم
الطبيعي في البرهنة على مبادئه لا يعني غير قلب المعادلة التي يرسمها العقل الكلامي
للعلاقة بين العالم والله، لصالح علاقة جديدة يكون فيها العالم منطلقا نحو الجوهر المفارق،
حيث يعلن في السماع الطبيعي: «على صاحب العلم الطبيعي أن يبرهن أن الطبيعة موجودة،
كما ليس على صاحب علم من العلوم ذلك، بل يضعها وضعا سواء كانت بينة بنفسها أو لم تكن».
يمثل هذا التقرير الصريح بداية موت التفسير الغيبي الكلامي الذي يلغي الفاعليّة السببيّة،
وبداية هجوم شرس أعلنه عن ابن سينا والإسكندر وعلي الفارابي وكل من يرى أن العلم الإلهي
هو الذي يبرهن ويضع مبادئ العلوم الجزئية ومنها العلم الطبيعي.
إن ما حرك ابن رشد في تركيزه على رأي أرسطو بدلا من القدماء
هو أن هناك «كثيرا من الناس يتعاطون الرّد على مذهب أرسطو من غير أن يقفوا على حقيقة
مذهبه، فيكون ذلك سببا لخفاء الوقوف على ماضيها من حق أو ضده». أي أن ابن رشد يهدف
من وراء هذا النقد إلى تحقيق غايتين اثنتين:
تتمثل الأولى في بيان بطلان حجة البعض الذي يفتري على
أرسطو، من دون أن يفهم ما يقوله الحكيم، وهذا حال أبو حامد الغزالي مثلا. فالغزالي
في حقيقة الأمر لم يطلع على ما قاله الفلاسفة، وإنما أسس نقده على ما نسبه ابن سينا
للفلاسفة، وهذا ما دفع بأبي الوليد إلى الرد على الغزالي لدحض افتراءاته على الفلاسفة.
لأن نقد الغزالي لا يستقيم إلا بنقد الجذر الذي ينحدر منه هذا الفكر الذي أريد له أن
يكون ضد أرسطو. وبهذا فهو لا يخص الغزالي وحده، بل يخص المنظومة المشرقيّة كما نجدها
لدى ابن سينا والفارابي. هكذا إذن تصبح الغاية بيّنة من أمرها، فالطبيعيّات التي أعاد
فيها ابن رشد النظر ونقحها وخلّصها من الأقاويل الجدليّة، إنما هي طبيعيّات أرسطيّة
خالصة، تصلح لأن تكون منطلقا لقراءة جديدة ولتأويل جديد خالٍ من أي شبهة أو من تحريف
أو تشويه.
وتتمثل الثانية في إفادة «أهل» زمانه بما يملكه من منفعة
علمية، ويرشدهم إلى ضرورة النظر في صناعة المنطق في كتب الفارابي أو في مختصره الصغير،
معتبرا أن هذا النظر يقتضي حذف الأقاويل العلميّة البرهانيّة من الأقاويل الجدليّة،
وتمييز المنهج البرهاني عن باقي المناهج: الجدليّة والخطابيّة.
إن العمل الذي أسّسه ودشّنه ابن رشد بصدد الطبيعيّات
هو الأول من نوعه في زمانه، إذا استحضرنا الحظر الذي مارسته الكنيسة الأوروبية على
العلوم الأرسطيّة، حيث احتفظت بالمنطق وحده كعلم مسموح به في المدارس الكنسيّة، بالنظر
إلى أنه لا يشكل أي خطر عليها. أما الطبيعيّات، وما شابه، فلم يكن مسموحا به إلا بعد
ازدهار الأعمال الرشديّة اللاتينية في مدرسة باريس ومدرسة بادو. ولقد ازدهرت الرشديّة
بالأساس في عصر النهضة حيث الحاجة إلى العقل والعقلانيّة كأداة لتقويض العقل اللاهوتي
القروسطوي، لصالح عقل حديث أصبحت الحاجة إليه ملحة يوما بعد يوم. فميتافيزيقا ديكارت،
ومن بعده ليبنتز وسبينوزا، لم تكن ممكنة إلا بفضل التطورات العلميّة التي دشنتها العلوم
بعد تجاوز تأثير المنطق الأرسطي عليها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السؤال الكانطي: كيف
يمكن أن تصير الميتافيزيقا علما؟ قد دشن نقاشا جديدا في تاريخ الفلسفة من خلال طرح
بحث إمكانيّة الملاءمة بين الميتافيزيقا والعلم.
ونسجل هنا عمق تفكير ابن رشد المتسلح برؤية نقدية ترسم
له مهامه كمثقف بلا منازع، شن الهجوم على ممثلي الآيديولوجية الرسميّة، وتحمل تبعات
اجتهاداته الفلسفيّة والعلميّة في الآن ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق