يعبر كتاب
"فصل المقال" عن نزعةٍ عقلانيَّةٍ ترجمها المنهج البُرهاني في التفكير
والتأليف، كما ترجمها الرَّبط المنهجِي والموضوعِي بين القضايا التي طرحتها
الفلسفة اليونانيَّة مع أرسطو، وبين القضايا المطروحة في السَّاحة الفِكريَّة زمن
ابن رشد، ولعل خيرُ نموذجٍ لهذا السِّجال ما أثارته مقالة اللام من نقاش أكَّده
اهتمام العرب بها على وجه الخصوص. وتشكلُ هذه المسألة الدلِّيل على أصالة الفكر
الرشدي، ذلك أنه لم يكتفي بالإدلاء بدلوه في القضايا التي تقضُ مضجع المسلمين
كمسألة: المُحرك الذي لا يتحرك، وصلة الله بالعالم أو ما شابه، بل وضع تلك القضايا
في سيَّاقها التاريخي مدشِّناً بذلك تحليلاً نوعيّاً بالمقارنة مع السابقين.
من المهم جداً
التأكيد أن عمل ابن رشد اتجه صوب الفصل بين ما لأرسطو وما لابن سينا وما لمحمد أبي
نصر الفارابي... وذلك لعزل الافتراءات التي تعرض لها القول الفلسفي على يد العقل
الأصولي، وللتأكيد على أن الموضوعات الفلسفيَّة الأرسطيَّة بيِّنةُ بذاتِها
فلتعملوا على دحضها. وهذا هو الأمر الذي دشنه في "فصل المقال"، الذي
يعتبر بحق مشروع بيان من أجل الحداثة، بيانٌ تأسيسي لحداثة رشديَّة تعبر عن نُزوع
نحو رؤيَّة نقديَّة عقلانيَّة غير مسبوقة في تاريخ الأندلس ومراكش، رغم وجود بوادر
واتجاهات تنويريَّة في التفسير والاجتهاد والتأليف الفلسفي والاشتغال على العلوم
عموماً. وهذا ما تبيَّن في القول الصريح لابن رشد: "وإذا تقرر أن الشّرع قد
أوجب النّظر بالعقل في الموجودات واعتبارها... فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات
بالقياس العقلي. وبيِّنٌ أن هذا النحو من النَّظر الذي دعا إليه الشّرع وحث عليه
هو أتم أنواع النّظر بأنواع القياس وهو المسمى برهاناً"، وبالتالي اتضح أن
التفلسف واجِبٌ وفريضة على كل شخص أن يمارسه على الطريقة البرهانيَّة[1].
ما لم يتم
الانتباه إليه في هذا السيَّاق هو أن العقل المشرقي لم يستطع الخروج عن الثوابت
التي رسمها العقل الفِقهي وعزَّزتها السُّلطة السيَّاسيَّة المركزيَّة، التي وضعت
يدها من حديد على السُّلطة الدِّينيَّة مخافةً من أي تمردٍ محتمل ضد مصالحها. وهذا
ما جسّده ثالوث: "الغنِيمة والقبِيلة والعقِيدة": أي مجموع الثوابت التي
لا يمكن عزل بعضها عن بعض. والتي شكلت شعار مرحلة تاريخيَّة ليست بيسيرة، إن لم
نقل: إنه الشعار الأهم لفهم ما يجري اليوم في بلدانِنا، بحيث لا تزال العناصر
الثلاثة متحكِمةً في شأنِنا العمومي، السيَّاسي والاقتصادي والثقافي...
قد يعترِضُ
مُعترِضُ، فيقول: إن هذا الكلام مبالغ فيه بدعوى أن الحداثة كما عرفناها في أوروبا
لا ترتبط بالفكر وحده بل هي منظومة متكاملة شملت مختلف المجالات، وهذا صحيح، لأن
مشروع الحداثة الأوروبيَّة كان مشروعاً ضخماً بدأ بفصل الدِّين عن الدولة وامتد
إلى تحديث مجمل مجالات الحياة الاجتماعيَّة، وبرز فكر فلسفي وعقل علمي دافع عنه
بقوة، والحال أن وضعنا لا يزال كما هو منذ قرون خلت. غير أن الحداثة في النموذج
الأوروبي ليست وحدها النموذج الأمثل، بحيث ظهرت حداثات أخرى في بلدان أسيويَّة
وأمريكية توَّجت مسارها في ظرف وجيز وتمكنت من الدخول إلى حلبة الصراع الدولي من
موقع القوة، وهو الأمر الذي لم يستسغه الغرب ولا حتى استطاع الاعتراف بهذا التنوير
القادِم من الشرق.
لذلك فالحداثة
لا تقبل أُنموذجاً واحداً وإلا صارت نمطيَّة: فهل قدر الشعوب كلها واحد ومتماثل؟
هل ينبغي أن تمُر المجتمعات كلها من مسارٍ تاريخي متشابِه أو متماثِل؟ هل القطيعة
مع الماضي يمكن أن تكون على شاكِلة واحدة؟
تستوجب الحداثة
في نظرنا ثورةً عميقة تشملُ مختلف المجالات:
- ثورة
سيَّاسيَّة واجتماعيَّة، للفصل بين الدولة والدين وإعلان ميلاد الديمقراطيَّة
الحقيقيَّة.
- ثورة
اقتصاديَّة، لضمان ازدهار حقيقي وإنتاج فعلي للثروة، وتقسيم عادلٍ لها.
- ثورة
ثقافيَّة وعلميَّة: للقضاء على آفة الجهل والتقاليد البائِدة وتطهير الخرافات من
العقول، والرقي بوضع الناس نحو الأمثل بدل الاستسلام لسُلطة التقليد، وتبوأ مكانة
في المجتمع العلمي عبر تعليم عمومي قوي ومجاني للجميع، وتربية حديثة مبنيَّة على
أخلاق منفصلة عن الدِّين.
- ثورة
حقوقيَّة، تعزيز المواطنة والسُلوك المدني القائِم على الواجب والحق واحترام
القانون.
إننا بحاجة إلى
ثورة شاملة بإمكانها أن تدفع بعجلة التاريخ إلى الأمام، وما اسهام ابن رشد إلا
لبنة من لبنات نموذج المنهج والفكر العقلاني الذي ينبغي أن يسُود بدل سيادة العقل
الفِقهي المُتزمت، مع العلم أن مقتضيات العقل المُعاصر قد تجاوزت القوالب العامَّة
التي وضعها أرسطو. فأين نحن من كل هذا؟
لا يزال وضعنا
بصفة عامة كما كان عليه الأمر عصر ابن رشد، رغم بعض التغيرات الشكليَّة التي مسَّت
بعض مظاهر الحياة، ولكن، الحقيقة أننا، لا نزال، خاضِعين لنفس الضوابط والأُطر
العامة التي رسمتها السُّلطة السيَّاسيَّة منذ زمان.
بيان ابن رشد،
بيان تاريخي لا أحد يستطيع الشك في ذلك، ولكنه يحتاج إلى إعادة تنقيحه وفق مستجدات
العصر، فتنويرنا وتقدُمنا يجب أن نصنعه نحن بأنفسنا، لكن كيف السبيل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق