الأحد، 12 نوفمبر 2017

التكرر لولبة الوجود


بقلم: محمد كريش (فنان من المغرب)

التكرر صنو الدائرة. يترحل حيث لا يبرح المكان. كعقرب الساعة على الحائط. ويراوح إقامته هكذا معلقا في ركد متجدد بين الظاهر منه والباطن فيه. الدائرة -من حيث دورانها- إطلاق تحير لولبة البدء في النهاية، ولولبة النهاية في البدء... التكرر أسطوانة  تتلولب في صعود هارب عبر نسق عمودي. تتوسل الآتي/ المستقبل. وخلفها تنفث "الما كان". 


التكرر لولبة للزمن والمكان. وهو مرتع التوق للنزف والحتف الممتنعين. حيث ما ثم لا فناء ولا بقاء. أما حظوة التكرر في الوجود؛ فهي ديمومته (أي التكرر) في نفي العد، والحد. إذ الدورة تعاود أبدا نفسها متلولبة على نفسها، ولذا سميت كذلك. مثلما دورة سيرورة التحول والتبدل. بل هي دورة اليرقة التي تصير فراشة. أما الشرنقة فهي "البين" بينهما، وهي مكمن الصيرورة والعبور من خلق إلى خلق... والتكرر وصد الباب دون رجعة، على نية التوقع والتكهن والترجيح. إذ هو فيه كل شيء هارب ممتنع عن المسك. التكرر "خلق يستعد" و"موت يحتضر"، مثخم  بالانبعاث إلى أعلا (سطح الانبجاس) والانكفاء إلى الجوف (طي الاندساس والاندفان). مخمور بالإقبال والإدبار. متوثب أبدا صوب إقامة بدء مستتب أو نهاية واقعة. إذ ذاك البدء وتلك النهاية هما بحكم المنعدم ما يزالا. حيث الدورة نفسها هي انبلاج من رحم "وشك انعدام"، وانعدام من رحم  "وشك انبلاج". عود على بدء دونما انقطاع.
التكرر لولبة للزمكانية. والزمن هو في سريان مسعور ينظر  فقط إلى مستقبله؛ لا حاضر ولا ماض معه. فـ"الحاضر"  إنما هو ماض بحكم تخلف الادراك  له، لحظة الوقوع.  فالإدراك يلي ذاك "الحاضر" بعد عبوره وانتفائه. الحديث عن الحاضر ضرب من المحال. هكذا هو هارب (أي الحاضر) على الدوام صوب الماضي. فهو بمتابة ماض طازج. وعليه فالحاضر زمن يجري نحو الماضي والمستقبل زمن يركد صوب الحاضر، ذاك الممتنع عن الادراك والمسك...   
الحرف حين تمام الكلمة؛ ممنوع من التكرر. ذاك بحكم طبيعته وقدَره. وقدَره من تقدير النقطة. الحرف له  سلطة صوغ معنى المنحصر أولا وأخيرا، أي المعين الفرد، ومعناه في ذاته لا يتعداها. وهو منحصر ممتنع عن طلق التأويل بالربط والتعالق. وليس ذلك سوى الكلمة مطلقة لا غير. والكلمة بعد الحرف؛  لها  قوة الأمر والنفوذ. والحرف -تحققا وتشكلا- معدنه النقطة. وهي أصل الكل من "الكل المطلق". والنقطة مركز البدء والنهاية مثلما ورد في الجيليات والأكبريات...  إنها معدن إطلاق الظهور وعدمه. هي ذاك الثقب الأسود للوجود. فوهة  الذاهب والآيب. النقطة  تكتنز سر الفهم وجوهره. والفهم جزء من كل، وهو على الإطلاق مبتور ملبوس باللغز وخلل المعنى. وليس ذلك سوى ذاك المستعصي عن حيز الفهم نفسه. الممتنع عن الإدراك والكلام والوصف. وليس ذلك  كله إلا لما يعتور طبيعة العقل من ضعف وغبش. أما الكلمة فبمتابة  الإبرة  الخائطة والمرتقة للكلام  ولرص المعنى. وهي مقتضى الوصل والفصل. إذ لا يكتمل المعنى في المخيط سوى بالكلمة والكلمة فقط. وذاك يُعتمل فيه بمعول التكرر المستقيم ونسج القول السديد...
البياض كالحرف في التصرف. نور الطمس والمنع. كما هو في نفس الوقت، نور الاستجلاء والكشف. والبياض/النور؛ في كبد العين مولد التحجب والعمى. والعمى سقوط الرؤية في ظلمة السواد، وإتلاف لقدرة التعرف والتعيين والربط. العمى انقطاع الموصول عن الواصل والواصل عن الموصول. أي انقطاع الذات عن إدراك الكيف... انقطاع عن المعلوم: أي عن كيفيات الوجود وأشيائه من حيث الصور والهيآت والتجليات.
البياض جوهر اللون ومجمعه. كما هو في الآن ذاته مبعث الظلمة؛ منطلق ذاك السواد المستبد... حين غيابه.
من غياب البياض يتفتق السواد وينسدل ويمنع التكشف. والبياض والسواد توأمان يتلازمان في كنف التخفي، حيث يتخاللان ويتولّجان امتزاجا الواحد في الآخر، في بزوغ واحتجاب. وتنسكب الذات في الذات. حضور السواد يكتنز في جوفه البياض، والبياض هو كذلك بالمثل؛ هذا في ذاك، وذاك في هذا. وهو تكور الليل على النهار و تكور النهار على الليل. والنهار نفي لليل والليل نفي للنهار. بيد أن مقام التكرر ههنا شرط  لذاك الحضور وذاك الاكتناز.  كما هو شرط  ضامن كذلك لديمومة إقامتهما هما الإثنين معا، ومراوحتهما  في حيز "بين البين": بين دفتي الحضور والغياب. وديمومة الإقامة إنما هي  تتويج  لوجود ثنائية الذات: ذات البياض وذات السواد. حضور وغياب في  الآن عينه. أي كون متوحد في كونين نقيضين: كون النور وكون الظلمة. والإقامة الثنائية تلك، هي لهما جمعا في وحدة  تامة، لكن بالتفرقة.
التكرر نسقية دوارة. تحتفي بأبدية وأزلية  حركيتها، في دوران لا يبدأ عند حد، ولا ينتهي في مد. والدوران هو ذاته هكذا وطبيعته. وإن توقف التكرر لم يعد  تكررا ولا استمرارا. حينئد يُلبس الزمن  وأشياءه  سحنة "الذي كان ولم يعد" أي "كانت الحركة ولم تعد"، "كان الكلام وانتهى"، وانتفى. وما ذاك سوى الفقْد. فقْد المعنى بفقْد تجليه... فما كان ليكون ما هناك لولا تلك  الإرادة الصابغة للوجود على "اللاموجود". وهي ليست سوى  افتعال الكلمة  وحركيتها إزاء  المعنى. معناها هي. وذلك بارتباط الدال بمدلوله. والكل  كان كائنا وما يزال بين ربطة الحرفين؛ وأصل  الحدث؛ كُمون في عدم ثم بزوغ في تعيين. ولهذا المعنى إشارات في المتن الفلسفي الصوفي. والحاصل إنما وجود خائض  في إقبال وإدبار.

 ليس في البدء سوى إرادة سلطان الكلمة، كلمة بتدفق سرياني لانهائي، لا تحصيها أعداد ولا تنهيها مدود، إذ هي بعدد تكررها في الوجود. والوجود حلقة دوارة في تلولب "خالق مفن/ مبيد محدث" محتده تعاقب سرمدي. وقوامه تكرر في تكرر. وهكذا؛ فإن المسميات اقتضت أسماء، كما الأسماء استوجبت مسميات. والإسم والمسمى أصل من  جوهر واحد: "ربطة الحرفين". والحرفين هما مبعث الوجود كما في القول الصوفي.
الحضور هو ذاك الاستغراق في امتداد النور(البياض)؛ مرآة  نفي الغياب. والغياب هو ذاك الاستغراق في امتداد الظلمة (السواد)؛ مرآة نفي الحضور. غير أن الغياب له حكم "حضور الغياب" بنفي "حضور الحضور". أما المرآة  فهي في ذاتها برزخ الحضور والغياب في الآن ذاته. برزخ "النفي ونفي النفي". وإن شئنا قلنا برزخ  تمازج؛ "وجود وعدم بالتوحد". وليس ذلك سوى فراغ  يملأ  فراغا وامتلاء يفرغ امتلاء. وههنا الغياب (الفراغ) والحضور (الامتلاء) أبدا  قائمان متفاعلان، ومتلازمان لا ينفصلان البتة. ولكنهما يتعاقبان في سريان  ذاتي  تلولبي دوار. وبالتالي، هكذا، هما  تحت سلطان التكرر وحركيته الخلاقة، وسريانها في ديمومة  وصيرورة الوجود. والتكرر يعاود قدح/ إشعال الحياة في الأشياء وفي نفسه هو بالضرورة. من خلال بعثها وصوغها من جديد... الخلق يعيد الخلق. والكلمة تعيد الكلمة. والنقطة مرد الكل... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق