الثلاثاء، 5 ديسمبر 2017

فسيفساء الخطاب الفلسفي المعاصر: أو في جدل الحداثة ومابعد الحداثة

الفلسفة المعاصرة من المنزع النقدي إلى التأسيس الإيديولوجي

نصر الدن شنوف - الجزائر
إن مقالنا هذا يقع بين تصورين أساسيين للفلسفة المعاصرة ولخطابها بالأساس، من حيث أننا نتناول قضية الحداثة وما بعدها على مستويين: المستوى المفهومي والمستوى التأويلي المتعلق باستنطاق بعض مواقف الفلسفة في هذا السياق إستنطاقاً مفاده التفكير مع بعض المواقف الفلسفية بخصوص جدل الحداثة ومابعدها ومن خلالهم. بما أن تاريخ الفلسفة تاريخ متحرك ومحب للحرب وليس نهراً طويلاً هادئاً، أو بكلمة، إنه حلبة على حد وصف " فرنسوا داغوني". 

ونستلهم هذين التصورين للفلسفة المعاصرة مما نقرأه في ماهية الفلسفة " لجيل دولوز" عندما ذهب إلى أن الفلسفة مثلها مثل الرواية تجعلنا دائما نتساءل عما سيقع وعما وقع مع فارق أساس وهو أن الشخصيات هنا عبارة عن مفاهيم، وتصور آخر نستلهمه من حفريات المعرفة لـ "ميشيل فوكو" من خلال تأكيده على أن الخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقال؟ وهذا الـ ما لا يقال هو باطن يلغم ومن الداخل كل ما يقال[1]، أي عدم التعامل مع الخطاب كعنصر شفاف أو محايد على ما يقرره فوكو نفسه في نظام الخطاب.
لا شك أن الحداثة مفهوم فلسفي من طبيعة هيولية متفردة عائمة ملغمة، فهو مفهوم يتجدد باستمرار مثلما ينفي ذاته ويعاود تأسيس كيانه من خلال ما يثيره من توتر هائل في أنفسنا بين ترددية القبول والرفض وما بين روحي الإرتكاس والإنبهار.
إن الحداثة منذ لحظة التأسيس الديكارتي إلى لحظة الذروة الهيغيلية على المستوى المفهومي قد تم التعامل معها كصيرورة وكتحول لا منقطع دائب دائم ضد كل تعيين، بما هي إنفتاح لا محدود وثورة لا مشروطة وشرخ مستمر للمرايا والأيقونات ومجاوزة نقدية شكية في المحددات والمنطلقات، أيِ كانت طبيعة هذه المحددات " إثيقية أو دينية أو لغوية أو فلسفية ". أو بلغة " غوستاف فلوبير" الأديب المولع بالشعر وصاحب المقولة الشهيرة " إن دقة الشعر تعادل دقة الهندسة " والذي وصف الحداثة بما هي تعصب للحظة والإني ضد كل ماهو خارج عن الحاضر، أو إذا استحضرنا وصف " جان بودريار" لها، فإن الحداثة ليست مفهوماً زمانياً ولا نفسانياً ولا إجتماعياً، بل هو مفهوم كلاني بما هو براديغم حضاري مخصوص له نواميسه الخاصة ومنطقه الذاتي[2].
إن هذا الكائن المفهومي الغريب " الحداثة " له تاريخه حتى وإن تماهينا مع وصف " بودريار" بأنه مفهوم لا تاريخي، إن تاريخ الحداثة من حيث مفهوميتها يأخذنا في مقاربة مستعجلة مع مفهوم التحديث Moderne، إذ يشير بعض الدارسين إلى حداثة مفهوم الحداثة مقارنة بمفهوم التحديث، فهذا الأخير كان دوماً يتمثل في إرادة التجديد البرومثيوسي على مختلف مستويات المعرفة، وتاريخياً يرجع إلى حدود القرن الخامس الميلادي عندما وظف توظيفاً عقائدياً في محاولة إبراز الحاضر المسيحي عن الماضي الروماني الوثني، في حين يرجع الكثير من الدارسون لتاريخ الفكر الغربي مفهوم الحداثة إلى " شارل بودلير" والذي كان يعني بها الوعي بروح العصر والإندماج فيه، ومما لا شك فيه هو أن الولادة الشرعية لمفهوم الحداثة ترجع إلى الكتابات الفنية والأدبية التي ظهرت في أفق القرن ال19م. [3]
إن المسح الجنيالوجي لمفهوم الحداثة يقف عند تباينات واختلافات عدة، فهناك من يعود بالمفهوم إلى عصر النهضة الأوروبية بما هو عصر الفن والآداب وبما هو أيضاً عصر الإصلاح والتجديد، وهناك من عاد به إلى حدود بلورة الوعي بالدولة الوطنية والذي تزامن مع بروز الفكر البرجوازي كطليعة ليبيرالية وكذلك بتأثير الكشوفات الجغرافية التي غيرت صورة العالم خصوصاً بعد اكتشاف أمريكا.
وعموماً، يمكن القول مع " جان بودريار" بأن الحداثة ليست وليدة هذه التغيرات الفكرية والسياسية والثقافية، بل إنها كانت دوماً تتأثر بالتحولات البنيوية في الجانب السوسسيولوجي والطقسي والثقافي. فالحداثة على هذا النحو تتمثل في كونها وعي جديد للعالم وصورة ماثلة وموقف أنطولوجي مغاير لما يحمله من قيم راديكالية على كل تفكير نمطي وعلى كل أسلوب حياة ماضوي. بما أنها رؤية إيستيطيقية وهرمينوطيقا مخصوصة في تمثلاتها. [4]
لقد عملت الحداثة، بما هي وعي على إفراغ الطابع السحري ومجاوزة النظرة الأسطورية للعالم، تلك النظرة المنحدرة إلى حدود الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، ومحاولة التأكيد على الطابع الموضوعاتي للظواهر الأنطولوجية، والسعي إلى تخطي المضامين الميثولوجية الدينية وإحلال المعقولية العلمية كأساسي فكري جديد.
إن الوعي الحداثوي هو وعي إنتاجي مؤسساتي بالدرجة الأولى، إنه وعي ذاتوي إنسانوي بما أن السيطرة على الطبيعة منذ " ديكارت " وقبله " بيكون " كان هدف الفلسفة الأمثل، باعتبار الفرد كقيمة في ذاته وكإنية مشخصنة حرة ومستقلة، وعلى هذا الأساس عمل الوعي الحداثوي من حيث هو وعي إيستيطيقي على مجاوزة قيم الأنظمة الأبوية البطركية والحفاظ على وجود الأقليات والتأسيس لمجتمع عولمي تمتد وشائجه إلى ما لا يقبل مقايسة أو محاددة. إنها بمثابة فتح جديد، فتح جاء ليحتفي بالعلمانية كقيمة أساسية وبالفضاء العمومي والديمقراطية والأنسنة كمحاور جوهرية لكل حياة المعاصرة.
تقوم الحداثة على مبادئ أساسية كالتقدم والعقلانية والتقنية والعلم والإنسية والحرية..الخ، إلا أن " كتافيو باث " يرجع كل هذه المبادئ إلى مبدأ واحد رئيسي هو النقد، إن النقد هو العلامة الفارقة للوعي الحداثوي، وما قيم الثورة والتطور والديمقراطية سوى أنها قيم وليدة العامل النقدي الذي ميز التفكير الحداثوي بما هو منطلقاً له ومحدداً من محدداته. وإذا كان العقل هو عقيدة الحداثة، فإن الذات هي فلسفتها بامتياز. [5]
لقد تعرضت فلسفة الحداثة إلى عدة إنتقادات خصوصاً من قبيل فلاسفة ما بعد الحداثة على غرار كل من فوكو ودريدا ولاكان وفاتيمو بودريار وغيرهم، هؤولاء الذين انخرطوا في الخط النيتشوي الهيدغيري لمجاوزة الميتافزيقا وتدمير بنيتها ومجاوزة كل تفكير داخل الفلسفة الميثالية ممثلة في فلسفة كل من فيتشه وشلينغ وهيغل وقبلهم فرويباخ وبعدهم ماركس وفرويد.
ينتقد بودريار الطابع الحركي للحداثة بوصفها صيرورة دائبة التجدد مما يجعل منها أسطورة مرجعية وقيمة متعالية، إن المقاربة الفلسفية لمنطق الحداثة يجعل منها بمثابة مرجعية معيارية ونظرة تقليدية من حيث أنها محاولة لركوب كل طارئ طريف، وفي السياق نفسه، يشير أدورنو في النظرية الجمالية إلى أن الحداثة أسطورة تنقلب ضد نفسها، إن طابعها اللازماني هذا يصبح كارثة اللحظة التي تدمر الإتصال الزماني. [6] وعلى الرغم من الطابع العقلاني للحداثة، فإن نظرة بسيطة إلى مسارها يؤكد نهايتها الفوضوية لتكون العدمية أخطر مفارقة أفرزتها الحداثة. ثم إن الحديث عن عودة المسيح والدجال مع " نيتشه " والشيطان مع " ارنست بلوخ " يفضي إلى موضوعية القول بفشل المشروع الحداثوي في مجاوزة التحليل الأسطوري والميتاعقلاني الذي كان هدف الفلسفة الحداثوية الأمثل. ويمكننا هنا استحضار فيلسوف الكينونة والزمان، " مارتن هيدغر" الذي إعتبر أن الحداثة ترتد إلى ميتافيزيقا الذاتية والإضفاء التعسفي للعقل على الموضوعات والسيطرة الكوكبية على الطبيعة والهيمنة الكلانية على العالم. ويتساوق حديث هيدغر هذا مع ما قاله شيخ البنيويين " ليفي ستراوس" بخصوص الحداثة في مقالته الشهيرة " موجات الحداثة الثلاث " أن الحداثة هي رفض للغائية ما دامت ترفض الأصول والثوابت. وليس مأزق الحداثة على حد إعتقاد "هانز كونغ" هو نسيان الكينونة مثلما ذهب هيدغر، وإنما في نسيان الدين خصوصاً في خطابات " فرويباخ" و" ماركس" و" نيتشه"، ولا مناص لنا حسبه إذا ما أردنا تجاوز الظلمة أو العتمة الجديدة بتعبير "جورج باطاي" سوى إعادة الإعتبار للدين الذي سلبته الحداثة في مقولات غياب الله وموت الإله...إلخ، وهذا المسلك الوحيد الذي يمكننا من ترميم ثقوب الحداثة على حد وصف الفيلسوف الرحالة "جيل دولوز".
إن ما بعد الحداثة كلحظة فلسفية جاءت لتعبر عن أفول عصر الحداثة، عن إنتهاء حقبة الحداثة بما هي عصر التظاهر كما يلقبها الفيلسوف "جان بودريار" في مقاله الشهير " نهاية الحداثة أو عصر التظاهر "، ويذهب بودريار بأن هذه الحداثة التي تتأسس على حركة جدلية والتي تقوم بارتياد كل ما هو جديد وطريف لم يعد لها وجود، وهذا الوضع لا يتعلق بأزمة عرضية أو إنعراج إيبستيمولوجي لفلسفة الحداثة، وإنما الأمر يتعلق بنهاية شكل من الوعي بأكمله، هو الوعي الحداثوي، إنها ملامح نهاية الحداثة والتي عبر عنها " جان فرانسوا ليوتار" بعهد نهاية السرديات الكبرى. أو فيما يسميه بالوضع الما بعد حداثي. إذ الحداثة عند ليوتار ليست إلا ذلك التشكك إزاء الميتاحكايات، هذا التشكك الذي هو بلا شك نتاج التقدم العلمي،[7] ليرتبط مفهوم ما بعد الحداثة بنهاية لجدل الأنوار ولـ أوديسا الجديد وليكن في مقايسة سالبة مع مفهوم الحداثة مما جعله يسقط في مجال الدوكسا.
ويشير عالم الألسنية المعاصرة " تودوروف " بأن الحداثة ما انفكت سيرورة توشك على الإكتمال، إنها بناء لم ينتهي بعد، ويتساوق كلامه هذا مع موقف هبرماس من الحداثة بما هي مشروع لم يكتمل. إن ما يسميه البعض في التداول الفلسفي المعاصر بما بعد الحداثة، ليس إلا حداثة متطرفة، إن ما بعد الحداثة هي في الأصل وعي حداثوي للعالم في مداه الأقصى، أي أن ما بعد الحداثة ليست إلا الرغبة في الإنعتاق من كينونة الوعي الحدثاوي السالب بما هو توتر وتدفق وتفاعل داخل المشروع الحداثوي، بخلاف ما يعتقده البعض بأنها نفي جدلي للحداثة، أو وقوفاً عند وصف الفيلسوف الفرنسي المعاصر " فانسان ديكومب " كون الحداثة وما بعد الحداثة كلاهما يتمثلان سيرورة التحديث [8] التي طبعت فعل التفكير الغربي منذ زمن ديكارت إلى اللحظة الديريدية الدولوزية على حد سواء، إن كلاهما يدور في فلك إيديولوجيا التمركز الغربي، هذا وإن كان البعض يؤكد على مشروطية الإنمحاء الحداثوي كتأسيس أولاني سبقي لما بعد البنيوية كمشروع لا ميتافزيقي. ولا يمكننا في هذا المقام إلا أن نلتفت إلى الفيلسوف "جورج بلانديه" الذي أفاض مفهوم الحداثة بتأكيده على أن ما بعد الحداثة ليست في الأصل إلا حداثة فائضة.
إن ما بعد البنيوية بما هي موجة مضادة للبنيوية جاءت لتفتح وتفكك كل نظام أو نسق فكراني مغلق بوصفها ميسم جوهراني لكل تأصيل ما بعد حداثي، وما الإنتقال من البنيوية إلى ما بعدها، أي من ستراوس وياكوبسون وبنفينست إلى نيتشه وماركس وهيدغر ما هو إلا إنتقال متوتر مرتكس من وضعية التماثل والإنتظام العام، إلى طوباوية منهجية فوضوية إرتكاسية عدمية في لحظة أضحى فيها فلاسفة الاختلاف بإحائية لغتهم وبلاغة مفهوماتهم وبشعرية أسلوبهم يستنكفون بأنفسهم أن يكونوا فلاسفة أو علماء، ونستحضر هنا أسماء عديدة أمثال فاتيمو وبودريار ودولوز وقبلهم فوكو ولاكان...
نأخذ هذا الموضوع بشيئ من التعمق والشمول ذلك أن الحداثة منذ اللحظة الهيغيلية قد شكلت حجر الأساس لكل خطاب فلسفي معاصر، حتى صارت هذه الحداثة هي قضية الفلسفة الأهم، إن خطاب الفلسفة المعاصرة هو خطاب الحداثة بشكل أو بآخر، وما مناقشة مواضيع الحرية والتمدن والتقنية سوى دليل على مركزية مقولة الحداثة في الفكر الفلسفي المعاصر، وتتأتى مخصوصية هذا القول عندما نرتفع بالخطاب الحداثوي من بعده الإيبستيمولوجي إلى المستوى الأنطولوجي، بحيث تصبح الحداثة ذات روح كينونية خصوصاً فيما بعد الفلسفة الهيغيلية على وجه الخصوص، باعتبارها ذلك التصور الجديد للرؤية إلى العالم ولتمثل أبعاد الموجود في هذا الوجود بما هو موجود. ويتساوق هذا الموقف مع ما ذهب إليه هبرماس في " القول الفلسفي للحداثة " عندما أكد بأن الفلسفة ما بعد الهيغيلية هي " أنطولوجيا " للحداثة. فإذا كانت الفلسفة حقل معرفي بدون موضوع على ما يقره الفيلسوف الفرنسي "جيل غاستون غرانجي"، بما أن وظيفتها الآن تكمن في إمكانيتها على رفع الظواهر المعيوشة إلى حدود المفهمة، أي إلى المستوى الكلي، وهذا هو حال موضوعة الحداثة، فالفلسفة تتعامل معها كظاهرة معاشة بمخصوصية حاذقة من حيث هي كائن مفهومي بالدرجة الأولى.
قائمة المصادر والمراجع:
1- ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، تر: سالم يافوت، ط3، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2005، ص25.
2- أنظر: جان بودريار، الحداثة، ترجمة: محمد سبيلا، صحيفة الحريات، http://www.hurriyatsudan.com
3- أنظر: مطاع صفدي، نقد العقل الغربي " الحداثة وما بعد الحداثة "، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص158.
4- محمد الشيكر، هايدغر وسؤال الحداثة، أفريقيا الشرق، المغرب، 2006، ص18.
5- أنظر: بيتر بروكر، الحداثة وما بعد الحداثة، تر: عبد الوهاب علوب، منشورات المجتمع الثقافي، 1995، ص89.
6-أنظر إلى: جياني فاتيمو، نهاية الحداثة. الفلسفات العدمية والتفسيرية في ثقافة ما بعد الحداثة، تر: فاطمة الجيوشي، وزارة الثقافة، دمشق، 1998، ص67.
7- أنظر إلى: فرانسوا ليوتار، الوضع ما بعد الحداثي، تر: أحمد حسان، دار شرقيات، 1994، ص52.
8- أنظر إلى: محمد الشيكر، هايدغر وسؤال الحداثة، المرجع نفسه، ص30.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق