الاثنين، 16 يناير 2017

باروخ سبينوزا يعارض ديكارت دون أن يتنكر له

مقال ينشر لأول مرة
الدار البيضاء: العلوي رشيد

1 – نقد الثنائية
تتمثل راهنية باروخ سبينوزا في حيوية التساؤلات التي طرحها حول قضايا عصره، فكتاباته معاصرة لنا في العمق من جهة التحليل والتفكيك. بحيث استطاع أن يعارض ديكارت دون أن يتنكر له، محافظا على التصور الديكارتي في العديد من القضايا: النفس، الجسم، الله... لأن نظام العلل ونظام الأشياء كنسقين منفصلين عند ديكارت سيصبحان متحدين مع سبينوزا لأن الله يوجد في الطبيعة وليس جوهرا مفارقا لها.

تعود صرامة سبينوزا الفكرية إلى صرامة منهجه الهندسي: فهو يكتب كتابة رياضية هندسية تبدأ بالتعريفات ثم القضايا والبراهين والحواشي... فلكل قضية من القضايا برهنة تستوجبها بالضرورة، وهو برهان يرتكز إما على البداهات التي تسبقه أو على التعريفات، وهذا ما سنتعرف عليه من خلال كتابه الأخلاق.
يعتبر كتاب "الأخلاق" أهم كتاب يلخص فيه سبينوزا مذهبه ويكمل فيه القضايا التي طرحتها كتبه الأخرى (رسالة في اللاهوت والسياسة – 1670، رسالة في مبادئ فلسفة ديكارت 1660، الرسالة الموجزة في الله والإسان وسعادته 1660، رسالة في إصلاح العقل). ويتكون كتاب الأخلاق من ستة فصول (- في الله، – في النفس طبيعتها وأصلها، – في الانفعالات أصلها وطبيعتها، – في عبودية الإنسان أو في قوة الانفعالات، – في قوة العقل أو في حرية الإنسان).
يعرض في القسم الأول من الكتاب لمشكلة الله والتي سيبلور من خلالها اطروحته في المحايثة، فالله في نظره "كائن لا متناهي إطلاقا، أي جوهر يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية لا متناهية" (éthique,  seuil, 1999 p15). ذلك أن الله مطابق لفكرته، والجوهر سابق على تجلياته وتعييناته والله لا يسبقه خلقه، إذن فهو قادر. والجوهر لا ينتجه جوهر آخر، ولا يمكن أن يوجد هناك جوهران، وهذا هو مرتكز سبينوزا على وحدة الوجود، التي تجاوز بها ثنائية ديكارت.
تعود الثنائية الديكارتية التي رفضها سبينوزا إلى مراحل مبكرة من تاريخ الفلسفة وهي التي جعلت ديكارت حبيس الخلفيات اللاهوتية التي كانت مُهيمنة على الفكر المدرسي (السكولائي). لذلك لم يعطي ديكارت بُعدًا حقيقيا للأونطولوجيَا، مادام الفكر الثنائي قائمًا في فلسفته. فالوجود ينقسم إلى فكر وامتداد، وينقسم مرة أخرى إلى وجود متعال، هو الله، ووجود حسي، هو الوجود الطبيعي. وهذه القسمة شبيهة بالقسمة المقولية التي أحدثها أرسطو، أي أنها قسمة غير قابلة للقلب. فلا وجود الجوهر يصبح وجود عرضٍ، ولا وجود الامتداد يصبح هو وجود الفكر. كل هذه الجوانب جعلت ديكارت المُعبر الحديث عن الفلسفة اللاهوتية، أو المُعبر الفلسفي عن الفكر الديني، وبالتالي لم تكن طاولة ديكارت ممسوحة من الفكر اللاهوتي بالشكل الذي كان يعتقد ويقول، بل كانت مليئة بالمخلفات المدرسية التي ظلت في البناء الفلسفي النهائي للديكارتية.
كل ذلك يجعلنا نقدر مدى أصالة سبينوزا في كتاب "الأخلاق". فبقدر ما كان ديكارت وفيًّا للفلسفة التقليدية القائمة على التعالي والثنائية وإبنًا بارًا لها، كان سبينوزا ثائرًا عليها، وابنًا عاقًّا لها. فعندما قال سبينوزا بوجود جوهر فرد لكل الصفات والأحوال، فإنه قد حقق قطيعة مع الفلسفة الديكارتية القائمة على الثنائية الوجودية. فالفكر والامتداد، شأنهما شأن الصفات اللامتناهية، ليسا تعبيرين عن جوهرين منفصلين، وإنما هما تعبيران عن جوهر واحد، هو الجوهر الفرد، أي الله. فهناك جوهر واحد فريد لا متناه كامل التحديد. ثم إن تصور سبينوزا للجوهر جعله يتمتع، على خلاف تصور ديكارت، بأحادية المعنى، أي أن هناك جوهرًا واحدًا هو الله أو الوجود. فالجوهر الفرد ينطوي على ما لا نهاية له من الصفات والأحوال دون أن يتغير معناه وحكمه·
وعلى هذا الاساس فالجوهر من طبيعته أن يوجد ويمكن أن يكون غير موجود، كما أن من طبيعته أن يكون محدودا، لذا فالله علة محايثة وليست متعالية لكل الاشياء، يسري في كل شيء إنه محايث حاضر في الطبيعة وفي الوجود عامة.
من الواضح إذن أن سبينوزا، عكس ديكارت، لا ينطلق من الأَنَا. إنه يتموقع أولا في الله، وهكذا يريد أن يثبت أن الفكر ذاته ليس هو فكر الإنسان، وإنما هو فكر الله. لم يعد هناك إذن انتقال من وجهة نظر الإنسان إلى وجهة نظر الله. والفكرة الصحيحة كما يرى سبينوزا لا بد وأن تكون مطابقة للموضوع الذي تمثله (ibid, axiome 6, p 17.) فالله والطبيعة شيء واحد، أي أن وحدة الوجود هنا أصبحت مطلبا ضروريا يقتضيها البرهان على تجاوز الثناية الديكارتية. والحال أنه كي تصبح فكرة مطابقة بالفعل، أي أن تُعبِّر عن موضوعها، لا بد لهذا الموضوع أن يكون مرتبطًا بالمطلق الذي يتوقف عليه. فليس هناك إذن من واجب أمام الفكر الإنساني سوى أن يتطابق مع فكر الله، ومتابعته أثناء بلورته، ولا يمكن لهذا أن يتم سوى انطلاقًا من فكرة الله ذاتها: تطابق الوجود - كل موجود وكل ما يمكنه أن يوجد في كل شيء من وجود ومن حقيقة- مع وحدة الجوهر، على أساس أن هذا التطابق هو شرط كل استدلال حقيقي. تلك هي البداهة السامية. يتعلق الأمر بحقيقة معروفة بذاتها، تكون هي شرط كل الحقائق الأخرى.
فالله عنده يتصف بالأزلية، ففي القضية 11 يقول: "الله ـ أعني جوهرا يتألف من عدد لا محدود من الصفات تعبر كل واحدة منها عن ماهية أزلية ولا متناهية ـ واجب الوجود" (proposition 11, p 29)، ولكن هذه الأزلية ليست هي الامتداد اللانهائي في الزمان، بقدر ما هي أزلية الضرورة المنطقية، فالله يتصف بالامتداد مثلما يتصف بالفكر، اي أن المادة شأنها شأن الفكر منبثقة من الطبيعة الإلهية ومعبرة عنها.
·         نقد اللاهوت:
لقد جاء سبينوزا لنقد تصورات اللاهوتيين حول الله، والتي ترى أن الله هو شخص
وأنه على مقاس الناس يخاطبهم بما يرتدون ويعدهم بما يشتهون، وأن الإنسان قد اصطفاه الله من بين الكائنات الأخرى. وتشكل حجة سبينوزا دليلا على بهتان حجج اللاهوتيين:
*        الله علة محايثة لكل الأشياء وليس متعاليا.
*        الجوهر له صفات: الوجود والقدرة والمعرفة ( هنا ينبغي التمييز بين الماهيات والصفات والكيفيات).
*        الله هو جوهر وماهية وهذا الجوهر له صفات لا نهائية (الكمال، الوجود...) وهي صفات لا يمكن تحديدها إلا من خلال الكيفيات، أي أن له صفات أزلية، وما دام الله لا نهائيا فصفاته لا نهائية، إنه هو وصفاته شيء واحد.
*        الكيفيات ليست أقل من الماهيات ولا الماهيات أقل من الكيفيات، فإذا كانت الكيفيات لا نهائية وأزلية فلأن الماهيات كذلك.
*        الله هو العلة الفاعلة
*        الله وصفاته جوهر واحد إذن ليس هناك جوهران بتعبير ديكارت
*        للجوهر كيفيتان: الفكر والامتداد (الجسم في حركة، والجسم في سكون)، وهما كيفيتان لصفات الامتداد.  
تشكل الحاشية الأخيرة لكتاب "الأخلاق مثالا صارما على النقد الذي وجهه سبينوزا للاهوتيين من جهة أن الانسان ليس إمبراطورا في إمبراطوريته، ولا سلطة له ولا امتياز ولا حضوة.
·                فعل المجاوزة
مما لا شك فيه أن ديكارت قد أحدث ثورة في الفكر الفلسفي، ومما لا شك كذلك أن الفلسفة الديكارتية كانت ولا تزال محطةً أساسيةً في تاريخ الفلسفة الحديثة. إذ أنها تمردت على الفكر المدرسي المثقل بالخلفيات الدينية المعادية للتفكير الفلسفي، وحاولت ربط الصلة بين الفلسفة والفيزياء الكلاسيكية التي أخذت تتأسس في بداية القرن السابع عشر بحيث انفصلت عن الفيزياء الأرسطية، بل عن الميتافيزيقا الأرسطية برمتها، عندما رفضت تأسيس الطبيعة، لا وفق مقولتي الجنس والنوع، (حسب المفاهيم الكلية المتعالية)، وإنما حسب الخاصية اللازمة للشيء، أي وفق الصفة الأساسية للشيء. فأصبح الحدس هو سبيل العقل نحو معرفة الواقع الفعلي. الأمر الذي مَكَّنَ الفلسفة من بناء معرفة محايثة وواقعية للمواضيع الفيزيائية.
 لقد حقق سبينوزا ربطًا بين الوحدة والاختلاف، بحيث لم تعد الوحدة وحدة تطابق وإنما أصبحت وحدة اختلاف، مادام الجوهر يتحدد بل يتأسس بالصفات المختلفة. هنا نلاحظ بدقة حديث سبينوزا عن العلة والجوهر والله في نفس الوقت ففي التعريفات وفي المقدمات الأولى والبداهات ينطلق دوما من نفس المفهوم ليبرهن على صحة أطروحاته عن الله، هذا الجوهر وهذه العلة المطابقة لذاتها والتي لا يمكن أن تقع خارج موضوعاتها.


هناك تعليقان (2):

  1. تحياتي لكم الأستاذ رشيد العلوي على هذا المقال المستفز والذي لا يمكنه إلا أن يدفع الطالب للقراءة الدائمة والمستمرة للفلسفة الديكارتية والتي تعد في اعتقادي المحور الأساس لكل الفلسفات عامة سواء تلك التي سبقتها أو التي لاحقتها.
    في ما يخص البرهنة على وجود الله: هناك براهين طوما الأكويني، خمس براهين، لكن كلها تنطلق من العالم إلى الإله أي من الموجود العيني إلى الموجود المعقول، أظن أن هذا الأمر لم يدخل فيه ديكارت لأن في بحثه الفلسفي انطلق من البرهنة على وجود الله قبل وجود العالم، بمعني أن ديكارت هنا لازال في الفكر، وبالتالي لا يمكنه أن يأخد بالبراهين القديمة، وحسب ديكارت لا يمكننا الإنتقال من الإمتداد إلى الفكر، إذ الأمتداد امتداد والفكر فكر لا وجود لعلاقة بينهما. لذلك هو يرفض برهان أرسطو، إذ هو احتمال وليس برهان. فكل ما سبق يجعلنا نفهم أن ديكارت، في ما يخص مشكلة الإنسان لا ينطلق منها بل ينتهي إليها وذلك من خلال التمييز بين النفس والجسد، حيث النفس من طبيعتها طبائع ليست جسدية، بمعني ليس من طبيعتها الموت إنها خالدة فكر حالص إذ لعل هذا ما كان يشيد به ديكارت في مراسلات له مع إليزابيت: "إن مسألة خلود النفس هي ليست إشكالية إي هي محلولة بذاتها"

    ردحذف