يستوجب الحديث عن الخوف التمييز بين مستويات عدة من
التحليل: فالخوف كظاهرة بشرية تفرض النظر إليها من جهة التحليل الفينومينولوجي،
باعتباره وضعية مركبة يتداخل فيها ما هو اجتماعي، تاريخي، ثقافي، نفسي، سياسي…
ففي مستوى أول: يعتبر الخوف آلية للضبط وللخضوع
للسلطة الاجتماعية التي تفرزها العلاقات بين الناس. وتعتبر السلطة الأخلاقية أهم
الضوابط التي تكرس الخوف وتزرعه في الأفراد من خلال مجمل العلاقات المحيطة بهم،
حيث تتحول السلطة من الرمزي إلى المادي الملموس، وتتخذ أشكالا ثقافية وسياسية
فاقعة. فنمط السلطة الأبوية التي يكرسها نظام الحكم (نظام الزعيم، ورمز الأمة،
وحامي الملة والوطن…)، يعمل على إشاعة نظام الطاعة والخضوع لسلطة الأب (رجل
السلطة، المعلم، رب العمل، رب البيت…) وكل الأشكال تلك المتنوعة لهذا النظام تتجه
صوب إخضاع الأفراد لسلطة خارجية لا تنتعش إلا إذا اقترنت بالقوة والعنف كأداة لزرع
الخوف وتكريسه. ولا يكاد الفرد يستطيع الانفلات من قبضة أي من هذه الضوابط
الاجتماعية إلا بنزع الخوف. هكذا يصبح التمرد بنوعيه السلبي والإيجابي أول تمظهر
للانفلات من تلك القبضة، وعادة ما يقترن هذا التمظهر بمرحلة حاسمة في حياة الفرد،
أي مرحلة إبراز الذات والإحساس بالحاجة إلى الفعل ورد الفعل لإثبات الوجود.
وفي مستوى ثان: لا يمكن فهم ظاهرة الخوف إلا إذا
اقترنت بوصف لطبيعة الثقافة السائدة، باعتبار الثقافة أهم رافد من روافد الضبط
الاجتماعي. فالثقافة أي كان نوعها تعمل على هيمنة نمط معين من التفكير، وتحمل
بشكلي ضمني أو صريح أحيانا تصورا للعالم وللآخرين.
إن الحاجة إلى التعايش مع الغير، وإلى إثبات الذات
أمام العالم تعزز هيمنة الثقافة في كل مستويات تمظهرها: اللغة، الفكر، التقاليد
والعادات، الدين، الأسطورة… بحيث تتيح للفرد حصانة للذات أمام الغير والعالم.
ليست الثقافة السائدة وحدها ما يتيح آليات الضبط
الاجتماعي، فالثقافات الأخرى المكونة لهذه الوحدة الاجتماعية الزعومة التي تتجسد
في الثقافة السائدة، لها نصيبها. ففي كل مجتمع نجد أنواع مختلفة من الثقافات
تتداخل بهذا القدر أو ذاك وتتعايش وتتصارع في الآن ذاته. إلا أن ميكانيزم التمدن
والتطور الحضاري، وما يفرضه من الارتقاء الاجتماعي من قيود يجعلنا نتحدث عن
الثقافة الأم (أي ذلك النمط الثقافي الأول الذي يكبر الفرد في حضنه)، وبين الثقافة
التي يتم اختيارها عن قناعة ويجسدها الفرد بكل وعي، والثقافة السائدة التي قد تكون
إما خليطا بين أنماط ثقافية متعددة، أو نمطا واحدا ينسجم وطبيعة السلطة السياسية.
يكفي الاعتراف إذن بالطابع الثقافي للخوف. اعتراف من
شأنه أن يبرز لنا الاختلافات القائمة بين الأفراد والجماعات في مواجهتهم للخوف.
وفي مستوى ثالث: يشكل الخوف ظاهرة نفسية بامتياز
يصعب الإلمام بمستوياته جميعها. وهكذا ينتصر أصحاب التحليل النفسي للنزعة
الفردانية، ويصبح الخوف أمرا فرديا محضا. وفي نفس الوقت ينتصر التحليل النفسي
الاجتماعي لأطروحة الخوف الاجتماعي الذي يستبطنه الأفراد في تنشئتهم عن وعي أو غير
وعي.
وفي مستوى رابع: يرتبط الخوف بنمط السلطة السياسية
السائدة. فإذا كانت السلطة بمختلف انواعها (السياسية، الدينية، الأخلاقية،
الثقافية، الاجتماعية…) نابعة من الحاجة إلى الحفاظ على مصالح الأفراد والجماعات
معا، فإن تطورها التاريخي بالموازاة مع تطور المجتمعات ستفرز أنماطا متعددة من
آليات الضبط، وستتطور إلى حد لا يطاق. ففي كل تفاصيل وجود الفرد والجماعة معا تجد
السلطة حاضرة بقوة، تفرض نفسها كآليات رقابة لا حدود لها. وكلما تطورت الوسائل
التكنولوجية كلما تعززت الرقابة وتوسع معنى السلطة، على الرغم من أن بوادر التحرر
من الرقابة تولدها تلك الآليات ذاتها. وما الهوامش المتاحة للأفراد في المجتمعات
المعاصرة إلا طريق نحو التحرر.
هكذا يصبح الخوف في المجتمعات المعاصرة صناعة،
فإخضاع مؤسسات التنشئة الاجتماعية للضوابط القانونية والأخلاقية والدينية
والسياسية يعزز أكثر صناعة الخوف. إلا أن ما يثير الانتباه حقا في هذا الزواج بين
الخوف والسلطة هو مسألة العنف. فالعنف ركيزة مطلقة لزرع الخوف وتنمية نزوعات الخوف
حتى لدى المتحررين من أي سلطة خارجية.
إن تمظهر العنف المادي والمعنوي معا في مجتمعات
اليوم، وتطوره على نحو غير منظور يترافق بشكل مباشر بالمصالح المادية للطبقات
الحاكمة. فزرع الخوف يتيح من جهة التحكم المطلق في الأفراد والجماعات معا عبر
توجيه أمانيهم وطموحاتهم ورسم حدود لوجودهم، ويضمن من جهة أخرى استمرار نفس علاقات
الإنتاج السائدة. أي إدامة المصالح السياسية والاقتصادية للمستبدين.
وفي المجتمعات العربية حيث نمط السلطة السياسية
استبدادي مطلق يتخذ شرعيته من السلطة الدينية أو العسكرية أو الاقتصادية يتم زرع
الخوف وتكريسه وكأنه أمر لا مفر منه أو “قدر” منزل على “الشعوب المستضعفة”. ويمارس
الاستبداد قمعه وعنفه بكل الوسائل المتاحة، وكم نحن بحاجة اليوم إلى تحرر العقول
أولا من الاستبداد، فالمواطنة كسلوك تصبح حلما طوباويا في مجتمعات منغلقة
واستبدادية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق