تطرح العلاقة
بين الفلسفة اليونانية ومحيطها العديد من التساؤلات الجوهرية والتي من خلالها يتشعب
البحث إلى بحوث، فالروافد متعددة وبقدر تعددها تتعدد المقاربات، مما يجعلنا أمام ضرورة
تعيين شكل الانطلاقة، فمن أين ننطلق؟ أننطلق من الميثولوجيا، من الدين، من إرث الحضارات
الشرقية، أم من كل هاته التداخلات الممكنة بين الفلسفة والحقول المعرفية الأخرى؟
إن سؤال العلاقة
بين الفلسفة ومحيطها، ليس بالبساطة التي يمكن أن نتصورها أول الأمر، فالبحث عن الروابط
ومحاولة التأصيل للأسس والدوافع، لم يكن بحثا معاصرا، ذلك أنه بحث ارتبط أول ما ارتبط
به بتاريخ الفلسفة، وبهذا يصح أن نعتبر مع هيجل HEGEL أن الفلسفة هي العلم الوحيد الذي لا يستطيع أن ينفصل
عن تاريخه، فتاريخ الفلسفة هو الفلسفة بعينها، بالقدر الذي يكون موضوع الفلسفة هو موضوع
الدين هو الله عينه. وإن كان هيجل يبحث عن شكل تطور "الفكرة العقلية" في
تاريخ الفلسفة، فإنه لا يقتصر على ذلك التاريخ الخاص، بل يجعل التاريخ الكوني كله خاضعا
لفكرة العقل ومحركا له.
إن جهود هيجل
في قراءاته وبحثه لتاريخ الفلسفة جعلته يقف عند نقطة بداية؛ تلك النقطة التي لطالما
أثارت جدلا في صفوف الفلاسفة، فمن أين نبدأ؟
أولا: من
أين نبدأ؟
يتساءل هيجل:
أين يجب أن يبدأ تاريخ الفلسفة؟، ويعتبر أن هذا التاريخ يبدأ حيثما "يبلغ الفكر
في حريته مرتبة الوجود، عندما يتحرر من الطبيعة التي كان منغمسا فيها فيخرج من وحدته
معها، عندئذ يتكون الفكر لذاته، ويعود إلى ذاته فيمكث بالقرب من ذاته"[1]،
إذا كان هيجل
يعود إلى الحضارات الشرقية للكشف عن تطور العقل والأصل الأول لبروز العقل، فإنه بذلك
قد اختار سبيلا لاشكالية البدء والأصل. ذلك الأصل الذي يطرح دوما الإشكال على مر تاريخ
الفلسفة. لقد اختار هيجل البدء من الحضارات الشرقية ـ القديمة: الهند، الصين، مصر،
الفرس... على الرغم من أنه يركز اهتمامه أكثر على حضارة الصينيين والهنود حيث أن الديانة
الفارسية لا يمكن أن نصفها بأنها فلسفة دقيقة، ولا ترتدي شكلا فلسفيا، أما المصرية
فيقر على أنه لا يعرف عنها شيئا. إن البحث في الفلسفة الشرقية يقتضي حسب هيجل العودة
إلى الوراء ثلاثة وثلاثون قرنا قبل ميلاد المسيح. وهو ما ليس سهلا.
إن هذا الاختيار
هو اختيار واع بذاته، ولكنه موجه بخلفية أن ذلك المنبع الأول "الفكر الشرقي"
لا يكون منبعا أصيلا ولا عقليا بل هو منبع روحي، ديني، هكذا نقرأ في محاضراته في تاريخ
الفلسفة: "إن الفلسفة الأولى التي نصادفها إذا انتقلنا إلى تاريخ الفلسفة هي الفلسفة
الشرقية"[2]. ففي المدرسة الاسكندرية جرى الاحتكاك بين الفلسفة اليونانية والفلسفة
الشرقية. و"التاريخ يقر بذلك منذ القدم". إن الفلسفة الشرقية، فلسفة دينية،
في حين أن الفلسفة اليونانية فلسفة بمعناها الدقيق، حيث يقول: "إن مضمون الفكر
الشرقي هو بالحري ذو قوام ديني ـ مضطرب وملتبس"، ويلح على أن الفلسفات الشرقية
القديمة لم يتم التعرف عليها إلا في الأزمنة الحديثة، "من الوجهة الفلسفية، علينا
أن نلح قليلا على شعبين: الصيني والهندوسي"، و"حينما نتحدث عن الفلسفة الشرقية،
يجب علينا التكلم في النهاية عن الفلسفة ذاتها، ومن هذه الوجهة، من المفيد أن نلاحظ
على الفور أن ما نسميه في الشرق فلسفة هو بوجه عام وبالحري التصور الديني لهذا الشرق
ـ تصور ديني للعالم نكاد نعتبره من الفلسفة"، إن "الفلسفة الشرقية فلسفة
دينية، تمثل ديني بوجه عام، ولا بد من تبيان السبب الذي جعلنا، ننجر بسهولة إلى اعتبار
هذا التمثل من الفلسفة"، وأن "الديانة الشرقية تذكرنا بالفلسفة على نحو مباشر
أكثر فهي تقترب كثيرا من التمثل الفلسفي. وسبب هذه المفارقة هو أن مبدأ الحرية والفردية
يتجلى بشكل أكثر في كل الديانات الأخرى، لا سيما في المبدأ الإغريقي، ويتجلى بشكل أكبر
أيضا في المبدأ الجرماني، والخلاصة أن التمثلات الدينية سرعان ما ترتدي فيها رداء أشد
فردية، فيزداد ظهوره في صورة الأشخاص، أما في الديانة الشرقية فإن طابع الذاتية، الحرية
الذاتية لم يتبلور بعد تبلورا كافيا...".
و"الحقيقة
أن التمثلات الهندية ترتدي شكلا فرديا مثل البراهما BRAHMA، الفيشو VICHNOU، الشيفا ÇIVA، ولكن الفردية فيها بالغة السطحية، بحيث أننا
عندما نظن أننا أمام أشخاص معينين وأننا نرغب في الاحاطة بهم، نرى أن هؤلاء الأفراد
يتلاشون فجأة، ويمتدون إلى أن يصبحوا واسعين، بلا قياس".
"إننا لنجد أنفسنا عند الهنديين أمام كائنات عامة،
آلهة طبيعية، قوى تتوافق تقريبا مع صور العقيدة الكونية الإغريقية، صور أورانوس، كرونوس".
"
إذن العلاقة
الرئيسية في الشرق هي التالية: إن الجوهر كجوهر هو الحق وأن الفرد بذاته هو بدون قيمة
وليس عليه أن يكتسب شيئا طالما أنه يتمسك بوضعه مقابل ما هو بذاته ولذاته... هذه هي
الرابطة الأساسية في الأديان الشرقية" (229-230).
لا تشكل هذه
المقتطفات سوى حجة على ما يصبو إليه هيجل في انطلاقته من الشرق. فإذا كان اختياره وتقريبه
لمسألة الأصل والبدء مجرد محاولة، وإن حاول أن يرسم نسقية لفكره، لطمس البحث وللحد
"لربما" من كل محاولة قادمة، باعتبار نسقه هو الحقيقة المطلقة، فإن هذا لا
يعني أن مسألة البدء علقت ولم تطرح من جديد، بل على العكس من ذلك (استطاع هيجل أن يضمن
لفكرته استمرارية) لم تتوانى الفلسفة بعد هيجل أن تقدم هي الأخرى أجوبة تقريبية، وأن
تقف على نقاط بدء أخرى لا تقل أهمية عن بدء هيجل. وفي هذا الإطار يعتبر هايدجر[3] أنه
بالسؤال: ما هي الفلسفة؟ نتناول موضوعا واسعا جدا، موضوعا مترامي الأطراف، وعلى الرغم
من ذلك ينبغي ألا يبقى هذا الموضوع بدون تحديد، بل ينبغي أن نوجه الحديث وجهة محددة،
وأن نسير تبعا لذلك على طريق واحد، على الرغم من وجهات النظر الأكثر اختلافا حول معالجة
الموضوع. إن هايدجر يسعى إلى الوقوف في وجه هيجل، كيف لا؟ وهو يقول: "ليس من الحكمة
أن نعد الفلسفة ـ مسبقا ـ أمرا من أمور العقل" كما لا يصح أن نعتبرها تنتمي إلى
مجال "اللامعقول"، فمن أين البدء؟
مع نيتشه
يختلف الأمر كليا، فالفلسفة إغريقية الأصل، ومع الإغريق كانت البداية، معهم يصح الحديث
عن البداية الفعلية حيث يقول: إن الإغريق (...) قد عرفوا أن يبدأوا في الوقت المناسب"[4].
إن نيتشه
يعي جيدا ما يقول، وهو يتعمد أن يجعل البدء مع الإغريق وأن يرسم في الوقت نفسه بداية
للفلسفة الإغريقية، وهو بذلك يضرب بعرض الحائط بدء هيجل، يجعل من كل محاولة إرجاع نشوء
البداية مع الحضارة الشرقية (المصرية والفارسية اساسا)، محاولة غير مجدية. إلا أنه
يستحضر في الآن ذاته فهم الإغريق للحضارات الأخرى، بل "للثقافات الحية لشعوب أخرى"،
لذلك يقول: " من العبث أن ننسب للإغريق ثقافة أصيلة: إنهم، بالعكس، هضموا الثقافة
الحية لشعوب أخرى. وإذا ما استطاعوا أن يوغلوا في البعد إلى هذا الحد فذلك نظرا لأنهم
عرفوا أن يلتقطوا الرمح من حيث تركه شعب آخر، لكي يلقوا به إلى أبعد. إنهم لجديرون
بالإعجاب من حيث فنهم في التعلم بشكل مفيد، وعلينا أن نحذوا حذوهم في التعلم من جيراننا
واضعين المعرفة المكتسبة كدعامة في خدمة الحياة" (40).
ومع ذلك يسعى
إلى أن يدقق قوله ما أمكن وهذا ما جعله يرد على من ينساق بدل الفلسفة الإغريقية وراء
الفلسفات المصرية والفارسية، حيث يقول: "إن من يفضل الانسياق، بدل الفلسفة الإغريقية
وراء الفلسفات المصرية والفارسية بحجة أنها "أكثر أصالة" و أكثر قدما، إنما
ينهج بطريقة لا تقل تسرعا عن أولئك الذين يردون الميثولوجيا الإغريقية ذات البهاء والعمق،
إلى تفاهات الفيزياء إلى الشمس والصاعقة، والاعصار والضباب والتي ينظر إليها على أنها
تشكل أصل الميثولوجيا الأول"(40).
إن اليونان
لم يبتكروا الأنساق الكبرى للفكر الفلسفي فقط، بل إنهم لم يتركوا لمجمل الأجيال اللاحقة
أن تبتكر شيئا جوهريا يمكن أن يضاف إليها. فالفلاسفة الإغريق تفلسفوا بكونهم رجال حضاريين
ومن أجل الحضارة، كيف لا؟ وهو ليس موجودا بالصدفة، وبقدر سعي الفليسوف وراء الحضارة،
فإن تلك الحضارة منحتهم المكانة التي استحقوها، فالحضارة الإغريقية "هي وحدها
القادرة على أن تمنح الفلسفة بشكل عام شرعيتها"، بهذا يجعل نيتشه الفلاسفة الإغريق
رجالا عظام، كرمتهم حضارتهم واعترفت بهم، ولهذا فإن لدى "الشعب الإغريقي حكماء،
في حين أن لدى الشعوب الأخرى قديسين"، وهنا نقف وقفة تأمل: أليس هذا تأكيدا لفكرة
هيجل؟ ألا يتفق هنا نيتشه مع موقف هيجل بصدد التمايز بين الشرق والغرب؟
نقرأ عند
هيجل: "حين نرغب في تعيين الفكر نجدنا أولا أمام الشرق لكن في الحقيقة لا يمكن
للبدايات الفلسفية أن تكون فيه إلا فقيرة ومجردة تماما" (322).
"إن مضمون الفكر الشرقي هو بالحري ذو قوام ديني مضطرب
وملتبس" (226).
كما نقرأ
"الفلسفة الحقيقية في نظرنا تبدأ في اليونان (...) في الغرب تجدنا في مضمار الفلسفة
بالذات"(203).
إن مسألة
البدء لوحدها تستحق بحثا مفصلا، ولكن لضرورات عدة، يمكن أن نقف وراء فكرة كون الحضارة
الإغريقية منها يتم البدء، فالفلسفة ليست حدثا عارضا، ولا معجزة، بل هي نتاج معرفي
نتملك منه ما تركه التاريخ على الرغم من كون هذا "الأثر المكتوب" يطرح العديد
من التساؤلات، إلا أننا نسعى إلى الوقوف على البعض منها، الوقوف على النشأة وعلى المحيط
العام الذي ساهم في "الظهور العظيم" للفلسفة.
ثانيا: الفلسفة
اليونانية ومحيطها
إننا نجد
في تأريخية راسل عناصر هامة جدا لفهم العلاقة بين الفلسفة اليونانية ومحيطها[5].
يعتبر راسل
أن الحضارة الإغريقية شكلت مقياسا عاما للحضارة الإغريقية، وهو ما يؤكده أغلب الفلاسفة
الغربين ف "في فترة قصيرة لا تزيد عن قرنين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين
الفن والأدب والفلسفة سيل لا ينقطع من الروائع التي اصبحت منذ ذلك الحين مقياسا للحضارة
الغربية"[6]، فالحضارة اليونانية حضارة بدأت متأخرة بالقياس إلى حضارات العالم
الأخرى إذ سبقتها حضارة ما بين النهرين، بعدة ألوف من السنين (...) ولقد توصلت مصر
القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن أي منهما
من الوصول إلى علم أو فلسفة"[7]. والكلام هنا لراسل وهو لا يختلف في شيء عن موقف
هيجل، إن لم نقل أنه قول هيجيلي بامتياز، فهل تواطئ الغرب على الشرق؟ إذا كان تاريخ
الفلسفة يبدأ مع هيجل، أي تاريخ الفلسفة من حيث هو موضوع الفلسفة ذاتها، فإن نظرة وتأطير
هيجل للعلاقة شرق ـ غرب بصدد ميلاد الفلسفة ربما ينطوي على قدر من الاجحاف في حق المعرفة
الشرقية التي قد تتضمن شيئا مميزا غير الدين، فمن الصعوبة بما كان أن نختزل أفكار شعب
بل شعوب وثقافات كبرى كالثقافات الشرقية في مجرد آراء دينية.
فوظيفة الدين
في نظر راسل "لم تكن تساعد على ممارسة المغامرة العقلية" في الحضارات الشرقية،
وهذا يعني أن سبب تأخر الحضارات الأخرى وتخلفها عن ممارسة التفكير الفلسفي، هو كون
وظيفة هذا الدين عائق أمام ولوج عالم الفلسفة.
لقد نمت تاريخيا[8]
مجتمعات تجارية قبل الألف الثالث ما قبل الميلاد، وكان أهم هذه المجتمعات جزيرة
"كريت"، و"الأرجح أن سكان كريت جاءوا من الأراضي الساحلية لآسيا الصغرى،
وأصبحت لهم الغلبة بسرعة على جميع جزر بحر إيجه".
وفي أواسط
الألف الثالث ق.م أدت موجة جديدة من المهاجرين إلى نمو غير عادي للثقافة الكريتية فشيدت
قصور فخمة في كنوسوس [9]cnossus
وفايستوس Φαιστός / Phaistós ، وأخذت
السفن الكريتية تجوب البحر المتوسط من أقصاه إلى أقصاه.
لقد ساهمت
العديد من العوامل منذ 1700 ق.م (سلسلة متكررة من الزلازل والبراكين) إلى إطلاق موجة
هجرة من كريت إلى المناطق المجاورة في اليونان وآسيا الصغرى، كما يؤكد موقع ميسناي Mycènes Μυκῆναι / Mykễnai في الأرجوليد
arogolid (وهو الموطن
الأصلي لأجامنون
Agamemnon Ἀγαμέμνων / Agamémnôn أحد محاربي حرب طروادة) على هذا التأثير، فراسل
يستعين ـ وفق ما يعلنه ـ على علم الآثار، الذي خطى خطوات عملاقة في بداية القرن الماضي.
كما يذهب إلى أن ما يرويه هوميروس من ذكريات يتعلق بالعصر الكريتي.
في حوالي
1400 ق.م ضرب زلزال منطقة كريت ووضع حدا لسيطرة الكريتيين. الذين ينتمون في أغلب الحالات
إلى الآخيين
Achéens Ἀχαιοί / Akhaioí (شعب أوروبي هندي) الذين دخلوا اليونان حوالي
1700 ق.م.
وقبلهم دخل
الأيونيين سنة 2000 ق.م الذين قدموا من جهة الشمال واندمجوا مع السكان الأصليين. ونفس
المعطيات نجدها عن جون بيير فرنان[10].
لقد لعب الكريتيون
دورا هاما في البحر الابيض المتوسط، حيث قامت علاقات تجارية بينهم وبين المصريين الذين
هددهم الدوريين حوالي 1200 ق.م، وبينهم وبين حضارات ما بين النهرين، وعلى الرغم من
كارثة 1400 فإن هذه الروابط لم تنقطع، ويسميهم المصريين بيلست Philistins Philistin – pelištīm (أي الفلسطينيين).
وحوالي 1100 ق.م حدثت غزوات الدوريين.
إن البلاد
الإغريقية تتميز بمظهرها وبمناخها الخشن، حيث توجد سلاسل جبلية قاحلة تقسم الأرض، مما
يجعل الانتقال من واد إلى آخر، أمرا عسيرا، وهذا ما يفسر في نظر راسل ظهور مجتمعات
محلية منفصلة وتناثرت المدن اليونانية على سواحل صقيلة وجنوب إيطاليا والبحر الأسود
منذ أواسط القرن الثامن ق.م حتى أواسط القرن السادس ق.م. ومع نشوء المستوطنات ازدهرت
التجارة وعادت الروابط بالشرق.
وإذا كان
هكذا الأمر بالنسبة لتشكيلة المجتمع اليوناني بتعدده القبلي والاجتماعي والثقافي أيضا
نظرا لاختلاط انحدرات عدة وتمازج الثقافات واللغات أيضا، ففي هذا التنوع تتشكل الحضارة
ويبنى صرح الأمة، لأن التعدد يكون أساسا للدفع بالوحدة أو إلى التفرقة وجعل كل قوم
على حاله متقوقع، إلا أن التراكم التاريخي سيظهر الضرورة إلى الامتزاج وتبادل الخبرات.
ومن الناحية
السياسية فقد مرت اليونان مع غزو الدوريين (1100 ق.م) بسلسلة من التغيرات:
لقد كانت
اليونان مسرحا لتغيرات وتقلبات سياسية عدة، وكغيرها من الحضارة الأخرى فإن الاستقرار
السياسي لم يكن ممكنا إلا بوجود نظام قوي، يستند على ترسنة قانونية لتوطيد أركان الحكم،
فالتعاقب بين الأنظمة السياسية التي فصلها أفلاطون في كتابه "الجمهورية"،
والتي نجدها لدى معظم الكتاب المهتمين بالشأن السياسي، هو تعاقب يعكس التعدد السياسي
والثقافي الذي كانت تزخر به الامم القديمة والحضارات المختلفة، فاليونان لم تلد يوما
الديمقراطية كشكل من أشكال الحكم إلا بعد مخاض عسير، هكذا يمكن أن نعتبر حسب المؤرخين
أن أهم الانظمة السياسية التي تداولت الحكم في المجتمع اليوناني تتمثل في:
* النظام الملكي؛
* الأرستوقراطية؛
* حكم الطغاة؛
* الديمقراطية.
فنظام الحكم
الملكي ساد لوقت طويل، ثم انتقلت السلطة تدريجيا إلى أيدي الأرستقراطية، التي أعقبتها
فترة من حكم الملوك غير الوراثيين أو الطغاة، وفي النهاية انتقلت السلطة إلى المواطنين
(الديمقراطية)، ومنذ ذلك الوقت بدأ التناوب على الديمقراطية وحكم الطغاة.
إذا كان تعاقب
الأنظمة لا شك فيه، فإن هذا التعاقب أرسى أسس وقواعد لممارسة السياسة، فظهور النظام
الديمقراطي ودولة ـ المدينة تميزا باعطاء طابع عمومي للشأن السياسي حيث شؤون الدولة
المدينة لم تعد من اختصاص محتكري السلطة، بل من اختصاص المواطنين الأحرار الذي يمتلكون
حرية التعبير وحرية المشاركة في اتخاذ القرارات المناسبة في الساحة العمومية (الأغوراء agora )، وكان مكسب حضور الساحة العمومية وسيادة النظام
الديمقراطي، أساسا لانتشار النقاشات العمومية وتوسيعها وسط المواطنين وبالتالي مشاركة
الكل، فالدولة المدينة على ما يذهب جون جاك شوفالييه "النظام السياسي الأول في
التاريخ الذي أرسى بنيات الدولة"، وهذا ما يتفق عليه أغلب المشتغلين بالفكر السياسي،
فالدولة المدينة هي الشكل الأول لكل نظرية في الدولة.
ثالثا: الميثولوجيا
اليونانية (دور الأسطورة)
يقصد بالميثولوجية
الإغريقية، روايات مدهشة وأساطير متنوعة وقعت في القرن 7 و 8 ق.م حسب أشعار هوميروس،
المكتوبة في القرن 3 أو 4 بعد الميلاد.
الأسطورة
اليونانية تتخذ لون التاريخ وتحمل طابع النبل في المدن أو السلالات وتساهم في دعم أو
تفسير المعتقدات الدينية.
وكلمة
"أسطورة" في اليونانية بالمعنى الحرفي تنطبق على كل كتابة تروى (سواء كانت
متعلقة بالتراجيديا أو الكوميديا أو الخرافة) وهي تقابل اللوغوس.
الأسطورة
لا غاية لها إلا في ذاتها، نصدقها فقط بإيماننا وليس بالعقل إذا وجدناها واقعية أو
جميلة، وتمثل الجانب اللامعقول في الفكر الإنساني.
أقدم ملحمتين
لدى اليونان هما الإليادة والأوديسة حيث نجد التلاحم بين البشري والفوق بشري لأن أبطال
الإليادة أسلافهم وأهلهم من الآلهة وسلالاتهم من العائلات التاريخية العريقة: أشيل
هو إبن الهة البحر وقدره محتوم بوحي إلهي منذ الأزل إلى الأبد.
هيلين رهان
حرب طروادة، هي إبنة زوس وتشاء إرادة أفروديت، أن تدفعها إلى ترك زوجها وابنتها حين
جاء باريس الطرواديين يلقاها في سبارطة, وكذلك الامر في الأوديسة.
الملحمة اليونانية
في جوهرها تمجيد صراعات البشر وتعظيمهم من خلال الأسطورة إلى مستوى الكون. وتمتد الشخصيات
الأسطورية ذات البعد الإلهي إلى التدخل في الشؤون البشرية حيث تمنح العطاءات وتهدئة
النفوس وإرضاء الخواطر.
إن الأساطير
لعبت دورا في الفكر الإنساني، فهي سارت موضع اهتمام كل أنواع الفكر، الشعر، الأدب،
الفن، الفلسفة... وتستمر هذه العلاقة حتى في العلم المعاصر (دور الخيال) والفلسفة والتحليل
النفسي... (فرويد وعقدة أوديب، تحويل الأعمال الدرامية الأسطورية إلى صوت وصورة في
السينما، حضور الأسطورة في الشعر والأدب عامة...). وهكذا أصبحت الأسطورة مجالا للبحث
والدراسة، بفضل ما تكتنزه من إمكانيات لفهم تطور الفكر الإنساني، فهي تعبر عن تنوع
مدهش وتفكك في الآن ذاته. إنها تحتمل تأويلات عدة ولعل الأدباء القدامى الذين استخدموا
المعطيات الأسطورية لا ينكرون ذلك. فثمة لولادة زوس كبير الآلهة روايات مختلفة. وكذلك
الشأن بالمسبة لكل الشخصيات ذات الطابع الأسطوري.
إن الأسطورة
نمت في أزمنة وحالات اجتماعية وتاريخية مختلفة وهذا يزيد تعقيدا لكل دراسة حولها. كما
أن الأسطورة تتضمن تناقضات حين نكشف عن الأحداث التاريخية والحضارات المختلفة يصبح
هذا التناقض جليا وبارزا. لذا فالأسطورة ليست واقعا مستقلا بل تتطور مع مختلف الظروف
التاريخية والحضارية ولكنها في الآن ذاته بالرغم من التنوع والتناقض فهي "وسيلة
تقص ثمينة" كما أنها "تحافظ على شهادات غير متوقعة حول حالات منسية ودول
زائلة" [11]، فأقدم وأعظم أثر أدبي للعالم اليوناني هو أعمال هوميروس: "الإليادة
والأوديسة"، والتي كتبت حوالي 800 ق.م، وحرب طروادة التي تحكي عنها وقعت حوالي
1200، ق.م، فالملحمتان تقدمان وصفا بعد الغزو الدوري لحدث وقع قبل هذا الغزو، ويعتبر
راسل أكثر من ذلك أن الصيغة الحالية ـ الراهنة للملحمتان تم تعديلها في عصر بيزسترانوس Peisistratusالطاغية الأثيني في القرن السادس قبل الميلاد، وتعكسان
موقفا عقليا لطبقة حاكمة متحررة.
إن البحث
في الملحمتان لا زال موضع نقاش في أوساط المهتمين ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة
نهائية أو حتى صيغة متفق عليها نظرا لما يطرحه التأريخ وحجية القرائن والدلائل التاريخية،
فهكذا هو حال كل الأرشيف المؤرخ له، لا أحد يمكن أن يقول أن هذا البحث قد وضع حدا نهائيا
لهاته المسألة، فالأبحاث العلمية المتقدمة والمتطورة جدا لازالت تضع المحكي والمروي
والشفوي والمؤرخ له في غير وقته موضع سؤال.
إن الروح
اليونانية يتنازعها عنصران، أحدهما عقلي منظم، والآخر غريزي أهوج. من الأول جاءت الفلسفة
والفن والعلم، ومن الثاني العقيدة الأكثر بدائية، المرتبطة بطقوس الخصوبة، وفي العصور
اللاحقة تجدد الاتصال بالشرق حيث يبرز العنصر الغريزي والأهوج سائدا ويرتبط "بعبادة
ديونيزوس أو باخوس الذي يعتبر واحدا من آلهة تراقية".
إلا أن مجيء
أرفيوس الشخصية الاسطورية هدأ من هذه العبادة الوحشية، وقد قتلته كما يروى جماعة من
سكارى عبادة باخوس.
فالتعاليم
الأورفية تتجه إلى الزهد وتؤكد الثورة العقلية، وهي تتجه نحو معرفة صوفية، وهذه التعاليم
لها تأثير عميق في الفلسفة اليونانية. إن هذان العنصران هامان جدا فبالنسبة لنيتشه
يشكل حضور ثنائي: أبولون و ديونيزوس، أعظم شكل أضفى على الحضارة اليونانية نوعيتها،
هو ما نتملسه أيضا في قول راسل: "إن ما أعطى الإغريق القدماء مكانتهم الفريدة
في التاريخ هو ميلهم إلى حب الاستطلاع الذي لا يرتوي، والذي يدفع المرء إلى القيام
ببحث مشبوب بالانفعال، يكون مع ذلك موضوعيا نزيها" (28-29).
إن الهام
جدا في حضور الاسطورة هو استمراريتها على الرغم من التقابل المعتاد: لوغوس ـ ميثوس،
والذي لا يمكن للمتعلم أن ينساه خلال لقاءه الأول بدرس الفلسفة.
إن الأسطورة
عامة تحاول أن تضفي على العالم جمالية خيالية تعكس روح المتلقي، وتلعب على الذوق وتتجه
نحو الروح والاغراء اللغوي وتصنع الحدث حسب نظام معين من التفكير، وبصفة أعم فالأسطورة
هي تعبير عن درجة من الوعي الذي بلغه شعب من الشعوب في حقبة تاريخية معينة. إنها بهذا
المعنى الوعي الأول، أو لحظة وعي أولى مشخص في صيغة وهم، فالأسطورة حسب كلود ليفي ستروس:
"تعطي الإنسان وهم القدرة على فهم الكون وأنه فعلا يفهم الكون، وهذا بالغ الأهمية،
لكنه مجرد وهم"، وصحيح أن التفكير الأسطوري تفكير واه، تفكير يمتزج فيه العالم
المادي بالروحي، الإنسان والآلهة، العقل واللاعقل... إلا أن الأسطورة مع ذلك شكلت أساسا
للتفكير، بل إن التفكير الأسطوري له أدواته وحجاجه وقد استعملت في الفلسفة كما أشرنا
أعلاه وفي الأدب وفي العلم والسينما...[12]
إن ما يسري
عبر تاريخ الفلسفة ـ راسل ـ اليونانية بأسرها هو مفهوم اللوغوس logos الذي يجمع بين الفلسفة والعلم "فالفلسفة والعلم
اختراعان يونانيان". وهذا التماثل بين الفلسفة والعلم يشبه إلى حد ما التماثل
بين العلم والسحر، لأنه قبل الفلسفة والعلم هناك سيادة وسيطرة السحر الذي يظل في نظر
راسل، محكوما بفكرة عامة هي نفسها فكرة العلم ويتعلق الأمر بفكرة: العلاقة بين السبب
والنتيجة.
فالسحر هو
محاولة للحصول على نتائج خاصة على أساس طقوس محددة بدقة وهو مبني على الاعتراف بمبدأ
السببية أي المبدأ القائل، أنه إذا توافرت نفس الشروط ترتبت عليها نفس النتائج، لذلك
فالسحر هو شكل أولي للعلم، أما الدين فينبثق من مصدر آخر حيث يمارس نطاقه في المعجزات
التي تنطوي ضمنيا على إلغاء السببية.
إذا كان السحر
اساس العلم، فإن اللغة أيضا أساس المنطق "إنها بداية المنطق". والفلسفة اليونانية
قائمة على الثنائيات: الصواب والخطأ، الحقيقة واللاحقيقة، الخير والشر، الإنسجام والتنافر،
العقل والمادة، الحرية والضرورة، الواحد والكثير، الفوضى والنظام، المحدود واللامحدود...
يعتبر راسل
أن منطق الثنائيات سليم ومن خلاله استطاع الفلاسفة اليونانيين أن يطوروا مذهبهم، فذاك
يقول بكذا والآخر بنقيضه، ويأتي ثالث ويسعى للتوفيق بينهم، ويعتبر أن "هيجل قد
توصل أول الأمر إلى فكرته عن الجدل (الديالكتيك) عن طريق ملاحظة معركة الأرجوحة هذه
بين المذاهب".
إذا كانت
الفلسفة قد واجهت كل أشكال التفكير الأخرى السائدة قبل ظهورها، فإننا نتساءل هنا: كيف
بدأ الفلاسفة اليونانيين (وأساسا الطبيعيون في المقام الأول)؟
رابعا: الفلسفة
ما قبل سقراط
أول ما يعترضنا
هنا أمام هذا العنوان هو التساؤل: بأي معنى يمكن اعتبار ما قبل سقراط فلسفة؟ وهل سقراط
موجود حقيقة وله فلسفة كي نقول: الفلسفة الماقبل سقراطية؟ كيف يمكننا التأكد مما قبل
سقراط؟ لماذا تعيين المرحلة الأولى في ما قبل سقراط؟
لقد شكل هذا
السؤال موضع اهتمام مؤرخي الفلسفة، ودون الحاجة إلى الخوض في نفس النقاش ولربما إعادة
صياغته بالطريقة التي صاغه بها المؤرخون للفلسفة فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن هذا التحقيب
يكاد يكون موضع "إجماع"، وإن كان هذا المصطلح يطرح مشكلة في حد ذاته، فالإجماع
هنا ليس هو "إجماع الأمة" ولا "إجماع أهل السلف الصالح"، ولا
"إجماع الأئمة والفقهاء وذوي الاختصاص"، بل نقصد بكل بساط أن أغلب المؤرخين
والدارسين وقراء تاريخ الفلسفة اعتبروا المرحلة الأولى من تطور الفلسفة الإغريقية تبدأ
بهذه المرحلة وسميت ب: "الفلسفة ما قبل سقراط".
يعتبر
"راسل" أن الفلسفة والعلم يبدآن بطاليس الميلطي في أوائل القرن السادس قبل
الميلاد، وهو ما يتفق عليه أغلب المؤرخين وقراء الفلسفة الإغريقية، فبالنسبة لنيتشه
أيضا البداية كانت مع طاليس، لذلك يقول: "يبدو أن الفلسفة اليونانية تبدأ بفكرة
غريبة: الموضوعة القائلة بأن الماء هو أصل كل الاشياء (...) إنها مسلمة أن "الكل
هو واحد""[13]، إن مسألة وحدة الوجود لدى طاليس أساسية بالنسبة لنيتشه، ذلك
أن تصور أصل الاشياء على أنه يعود إلى مبدأ طبيعي فهذا ليس ببسيط، أمام سيل من الفكر
الأسطوري الذي ساد في الحضارة اليونانية آنذاك، وهذا ما جعل طاليس متميزا[14].
إن معالجة
نيتشه للفلسفة الإغريقية يظل متميزا عن قراءة راسل، وعلى الرغم من أن هذا الحكم يبدو
سابقا لآوانه إلا أنه سيتبين مما سيأتي من العرض صدق هذا القول، ونحن على يقين أن كل
قراءة تظل متميزة ومختلفة عن قراءة أخرى، فما الذي يميز قراءة نيتشه؟
يقول نيتشه،
وهو في معرض توضيح منهجه في قراءة الفلسفة الاغريقية: "وأنا سأسعى إلى استخراج
ثلاث قصص من كل نسق فلسفي"[15]، فهو يعمل على توظيف ما يبدو له هاما للغاية لدى
كل فيلسوف، أي على استخراج من كل نسق فلسفي "النقطة التي تشكل جزءا من شخصية.
والتي تعود إلى ذلك الحيز الذي لا يمكن دحضه أو مناقشته والذي على التاريخ أن يحافظ
عليه (...) إن مهمتي تقوم على إبراز ما يجب أن نحب ونكرم دائما، وما لا تستطيع أية
معرفة لاحقة أن تنتزعه منا: الرجل العظيم". فالموضوعات التي يختارها نيتشه هي
"تلك التي تعبر بشكل أوضح عن شخصية الفيلسوف"، وهذا ما يجعل هذه القراءة
متميزة بأسلوبها وبوفائها لنهجها ولخطها الذي رسمته من البداية، إلا أنه لا ينبغي أن
نعتبر هذه القراءة "أعز ما يطلب" لأن ما يطلب هو قراءة الفلسفة الإغريقية
ليس بالعاطفة ولا بالأسلوب المنمق، لأنه في جميع الحالات أسلوب ومنهج لا يلزم إلا صاحبه
ومعجبيه ومحبيه، وإن كان أن مسألة المحبين مستحبة في الفكر الفلسفي لأنها أولا محبة
وتبحث عن المحبة وثانيا بدون هذا الحب لا يمكن أن تضمن استمراريتها. ألم يتحدى سقراط
القضاة والحاكمين الذي أصدروا في حقه الحكم بالإحالة على محبي فلسفته ومحبي الحكمة؟
إن لكل قراءة
ما يميزها، وما يميزها يمكن أن يثير انتباهنا، ولو لم يكن قادرا على إثارة انتباهنا
فهو ليس متميزا ولا مثيرا، وينبغي أخذه بعين الاعتبار، وهكذا نستطيع أن نبني قراءة
مثيرة ومتميزة.
الفلاسفة
الطبيعيون:
كيف بدأ الطبيعيون؟
ولماذا بدأوا في نقطة ما؟
حسب الفكرة
العامة التي ظلت تخترق تاريخ الفلسفة فإن الإسم يدل على الاتجاه وعلى الاهتمام، أي
قولهم وكتابتهم حول الطبيعة، وما قول أرسطو في الطبيعة إلا فحص لاقوال القدماء، الذي
يبين من خلاله النقاط التي ينبغي تطويرها والافكار الهامة لديهم.
وإذا سلمنا
مسبقا أن الطبيعة هي اهتمام هؤلاء القدماء، فكيف تصوروا الطبيعة؟ ما الذي أثار اهتمامهم؟
كيف فكروا فيها؟ ولما لم يفكروا في غيرها؟ وهل صحيح أنهم لم يفكروا في غيرها؟
حقا إنها
لفكرة غريبة (نيتشه) فكرة طاليس أن "الماء أصل كل الاشياء" ولكن تلك الفكرة
الغريبة ما هي إلا مقدمة للوصول إلى إثبات قضية منطقية نتلمسها في تأويل نيتشه:
"الكل مبدأ واحد"، فمن الفكرة الغريبة يبدأ كل شيء، وبغض النظر عن التعميم،
فإن اعتبار طاليس المبتدئ الأول، والبدء بفكرة غريبة غير متناقض، وهذا إن دل إنما يدل
على البداية الأولى كبداية غريبة، حقا إنها لبداية غريبة ولكنها بداية مهدت لما سيأتي،
ألم تفضي فكرة طاليس إلى قلب العالم اليوناني، إلى تغييره على نحو جذري. إن اعتبار
الماء أصل الأشياء سيؤدي إلى قلق معرفي لدى اللاحقين حيث يتم افتراض أشكال أخرى للبدء.
ولذا فهم أرسطو أن العلم اليقين (الطبيعيات) لا يتحقق إلا بتحديد الأسباب والعلل الأولى:
علل الأشياء وجواهرها. وهذا تسليم لاعتبار أن النشأة تعود إلى أصل إلى مبدأ يسود ويحكم
على الأشياء. فكيف تصور الطبيعيون هذا المبدأ / العلة؟
يعتبر برتراند
راسل أن "أي عرض لتاريخ الفلسفة يمكن أن يسير على احدى طريقتين: فإما أن يتبع
طريقة السرد البحت، مبينا ما قاله هذا الفيلسوف والعوامل التي أثرت في ذاك، وإما أن
يجمع بين السرد وقدر معين من الحكم النقدي، لكي يبين كيف تسير المناقشة الفلسفية"[16]،
ويعتبر الاختيار الثاني (الطريقة الثانية) أساس بحث راسل في تاريخ الفلسفة، ونحن سنعرض
هنا أغلب الأفكار الفلسفية التي ناقشها راسل حول الفلسفة اليونانية ما قبل السقراطية،
مع محاولة العودة إلى قراءة نيتشه في الآن ذاته. على الرغم من أن البحث يجد صعوبات
جمة في محاولة الدمج بين مختلف القراءات التي يحفل بها تاريخ الفلسفة، فكل قراءة تتميز
بكونها مرتبطة بتصور صاحبها وخاضعة لمنهج من مناهج البحث التي يراها ضرورية، ولكن الأهم
في كل هذا هو أن الطريقة المتبعة في هذا العرض هو أن ما هو موضع اتفاق لدى مختلف الدراسات
لا نقاش فيه وسيتم تدوينه كملخص وكأفكار تستمد شرعيتها من شرعية التاريخ أولا ومن الفيلسوف
ثانيا، ونحن على وعي تام بأن هذا البحث ليس بحثا لاستقصاء التاريخ، بل مجرد عرض لما
قيل وما نوقش حول الفلسفة الإغريقية، مع تضمينه بعض الأفكار التي تبدو في غاية الأهمية.
1 –
طاليس:
ظهرت أول
مدرسة للفلاسفة ـ العلماء في مليطة
Milet Μίλητος / Mílêtos. وهي مدينة تقع على ساحل أيونية وتمثل مركزا نشيطا
للتجارة والتبادل في جنوبها الشرقي توجد قبرص وفنيقيا ومصر. وفي شمالها بحر إيجه والبحر
الأسود وإلى الغرب عبر بحر إيجه توجد أرض اليونان الأصلية وجزيرة كريت. وقد كانت تتصل
اتصالا وثيقا في الشرق بإقليم ليديا وعن طريقه بإمبراطوريات ما بين النهرين. ومن ليديا
تعلم اليونان صك النقود من الذهب. وميناء ميلطة يزخر بأشرعة من بلاد متعددة ومخازنه
مليئة بالسلع من مخنلف أرجاء العالم.
على اي نحو
بدأ العلم والفلسفة في ميلطة؟
من خلال السؤال
عن أصل الأشياء لذلك نسب إلى طاليس قوله: "أن الأشياء جميعا جاءت من الماء".
يعتبر طاليس
واحدا من الحكماء السبع وحسب هيرودوت تنبأ طاليس بكسوف الشمس وقد حدث حسب الفلكيين
في عام 585 ق . م.
تعتبر فكرة
التعميم فكرة يونانية أصيلة حيث أن طاليس استفاد من المصريين القدماء في قياس ارتفاع
الهرم لكي يهتدي إلى المسافة التي تبعد بها السفن في البحر ةهكذا جاءت منه فكرة إمكان
تطبيق قواعد الهندسة.
نسبت إليه
فكرة أن للمغناطيس نفس لأنه يحرك الحديد. ومن أهم أقواله "الماء أصل العالم".
2 -
انكسيمندر:
عالم شأنه
شأن طاليس، أول رسام للخرائط، وزعيم مستوطنة في ميلطة على ساحل البحر الأسود. انتقد
نظرية طاليس الكونية كما انتقد الماء كأصل للاشياء لأن المادة التي صنعت منها الأشياء
لا يمكن أن تكون واحدة من صورها بل شيئا أسبق منها، ولأن أشكال المادة المختلفة تتنازع
فيما بينها بلا انقطاع: الحار ضد البارد، الرطب ضد الجاف.
إن المادة
الأصلية هي اللامحدود "إنها تجمع لانهائي للمادة يمتد في كل الاتجاهات ومن هذا
الأصل ينشأ العالم، وإليه سيعود آخر الأمر" (ب، راسل: ص 35).
الأرض في
رأيه اسطوانة تطفو بلا قيود نوجد نحن على وجه أحد طرفيها. وعالمنا محاط بعدد لا نهاية
له من العوالم الأخرى، وتتحكم في الوظيفة الداخلية لكل عالم حركة محورية تجذب الأرض
نحو المركز، أما الأجرام السماوية فهي حلقات من نار يحجبها الهواء إلا في نقطة واحدة،
ويمكننا تشبيهها بإطار العجلة الذي لا يظهر منه إلا الصمام.
أصل الإنسان
لديه "يرجع إلى أسماك البحر وأيد ذلك بملاحظات عن حفريات باقية، كما أيد بملاحظة
الطريقة التي تطعم بها أسماك القرش صغارها" (راسل ص 36).
يعتبره نيتشه
أول من كتب لدى القدامى، وقد كتب "كما سيكتب بالتحديد الفيلسوف الحقيقي"
(نيتشه 50). ويمكن أن نجمل ما أثار انتباه نيتشه عند انكسيمندريس فيما يلي:
ما تتولد
عنه الأشياء، إنما يجب أن تتوجه نحوه أيضا لكي تبلغ نهاياتها بالضرورة. ويتساءل نيتشه
كيف يمكننا أن نفسر هذه الفكرة؟ ويقول: "كيف سنفسرك أيتها العبارة اللغزية التي
نطقها متشائم أصيل؟"، "إنها صيغة إلهية (أصيلة) محفورة في فجر الفلسفة الإغريقية".
وهي عبارة
شبيهة بالنسبة لنيتشه بعبارة شوبنهاور "الأخلاقي الجدي الوحيد في عصرنا"،
المتمثلة في: "إن المقياس المناسب للحكم على كل رجل، هو أنه كائن كان يجب ألا
يوجد، ولكنه يكفر عن وجوده بكل أنواع الآلام وبالموت: فماذا نستطيع أن ننتظر من هكذا
كائن؟ ألسنا في الواقع جميعا على خطأ، محكوم علينا بالموت؟ إننا نكفر عن ولادتنا مرة
أولى بحياتنا ومرة ثانية بموتنا" (51).
إن الأصل
حسب عبارة أنكسيمندر هو اللامحدود وهو أصل لا يتحدد إلا بالسلب وبهذا يجوز المقارنة
حسب نيتشه "اللامحدود" بعبارة كانط "الشيء في ذاته". فمن يعتبر
نفسه قادرا على مساجلة الآخرين على الطبيعة الأصلية لهذا العنصر الأولي، متساءلا حول
ما إذا كان عنصرا وسطا بين الهواء والماء ولربما بين الهواء والنار، إن من يفعل ذلك
لا يكون قد فهم فيلسوفنا على الإطلاق. فمن أين يتأتى هذا النمو وهذه الصيرورة المستمران؟
حسب نيتشه فانكسيمندر يتخطى طاليس بقفزة واحدة: كيف يمكن للتعدد أن يكون ممكنا؟ وإذا
كانت هناك وحدة أبدية للوجود فكيف يزول التعدد.
إن الصيرورة
لا يمكن أن تحد أصلا إلا في موجود أبدي.
3 -
اناكسيمنس Anaximène Ἀναξιμήνης / Anaximếnês
لا نعرف أي
شيء عن الزمن الذي عاش فيه، سوى أنه آخر الفلاسفة الميلطين، تعد نظريته تراجعية بالقياس
إلى أناكسيمندر ذلك أن المادة في نظره محددة في الهواء، وأشكالها التي نراها حولنا
تنشأ عن الهواء عن طريق عمليتي التكاثف والتخلخل.
فالهواء قوام
النفس ويحفظ للعالم حياته مثلما يحفظ لنا حياتنا.
إن المدرسة
الملطية لم تكن مقيدة بأية حركة دينية، بل إن من السمات الملفتة للنظر في الفلاسفة
السابقين لسقراط أنهم كانوا جميعا على خلاف مع التراث الديني السائد. وهذا يصدق حتى
على مدارس كالفيثاغورية، التي لم تكن في ذاتها معارضة للدين"(رسل38).
4 -
هيراقليطس
ينتمي إلى
مدينة أفسوس
Éphèse Ἔφεσος التي ازدهرت في نهاية القرن السادس قبل الميلاد.
حياته ظلت
مجهولة وكل ما تبقى من الشذرات لا تذكر إلا القليل من حياته، كانتمائه إلى أسرة ارستقراطية.
يورد راسل العديد من شذراته أهمها:
– "إن الزمن
طفل يلعب بالنرد، والقوة الملكية إنما يتحكم فيها طفل"؛
– "ما أشبه الحمقى،
حين يسمعون، بالصم وعليهم يصدق المثل القائل انهم غائبون في حضورهم"؛
– "الأعين والاذان
شهود مضللون للناس ان كانت لهم نفوس لا تفهم لغتها"؛
– "من يبحثون
عن الذهب يحضرون من التراب الكثير، ولا يجدون إلا القليل"؛
– "لقد كان هوميروس
على خطأ حين قال: ليث الصراع يختفي من بين الآلهة والناس! إذ أنه لم يدرك أنه كان يدعو
بذلك بدمار العالم. فلو استجيب لدعائه هذا لفنيت جميع الاشياء" (45).
ترتكز نظريته
على أن قوام العالم الحقيقي هو التآلف المتوازن بين الاضداد فمن وراء صراع الأضداد،
وفقا لمقادير محسوبة يكمن الأنسجام ففي التناغم يكمن جوهر العالم، وعلى هذا يورد راسل
قول هيراقليطس "إن الناس لا يعرفون كيف يتفق ما هو متباين مع ذاته. إنه تناغم
توثرات متضادة، كتناغم القوس والقيثارة" (46).
إن الاشياء
جميعا في نظر هيراقليطس من نار، و"الاشياء جميعا تتبادل مع النار، والنار مع جميع
الاشياء، كما تتبادل السلع مع الذهب والذهب مع السلع".
أهم أفكار
هيراقليطس هي أن "كل الأشياء في صيرورة"، لأنه "لا يمكن أن نسبح في
ماء النهر مرتين"، لأن مياهه تتدفق بلا انقطاع. والقول بأن الاشياء في صيرورة
وحركة على حد تعبير "راسل"، ليست جديدة حقا، لقد كان لأنكسيمندريس أراء مماثلة
تماما. والنار هي الجوهر الأزلي "هذا العالم الذي هو واحد بالنسبة للجميع، لم
يصنعه واحد من الآلهة أو البشر، وإنما كان منذ الأزل، وهو الآن، وسيكون دائما نارا
لا يخبو أبدا، تشتعل بمقدار وتنطفئ بمقدار" (49).
وإذا كان
هذا تفسير راسل لفلسفة هيراقليطس، فإننا نجد نيتشه يذهب في طريق آخر خلال قراءته لهيراقليطس
حيث بدأ هراقليطس ـ حسب نيتشه[17] ـ بنفي ازدواجية العالمين المختلفين (اللذين قبلا
بهما انكسيمندريس)، وتخلى عن التمييز بين العالم الفيزيائي والعالم الميتافيزيقي، بين
مجال للصفات المحددة ومجال الصفات اللامحددة، غير القابل للتحديد، فهيراقليطس لا يرى
غير الصيرورة "كل شيء يحوي نقيضه في ذاته وفي كل الاوقات" وإعلانه واضح وجلي
"إنني لا أرى سوى الصيرورة"، وذهب نيتشه إلى أن هيراقليطس "موهوب بقدرة
فائقة على التمثل الحدسي"، وهذا التمثل يتضمن شيئين مختلفين: أولا العالم الحاضر،
الملون والتغير. وثانيا الشروط المسبقة لامكانية قيام أية تجربة في العالم، الزمان
والمكان. فالزمان والمكان يمكن إدراكهما دون أية تجربة. وبصفة مباشرة يمكن إدراكهما
بالحدس كشيئين صافيين، ويعمل نيتشه على مماثلة الطريقة التي تصور بها هيراقليطس والطريقة
التي تصور بها شوبنهاورArthur
Schopenhauer [18] الزمان والمكان
حيث اعتبر أن ما ينطبق على الزمان ينطبق في نفس الوقت على المكان كما ينطبق على كل
ما يوجد في الزمان والمكان، والصيرورة ترتبط بالحركة بصراع الأضداد، وهي صيرورة وحيدة
أبدية كصراع "قوة مقسومة إلى نشاطين متميزين نوعيا ومتعارضين، يتجهان نحو الالتقاء"
فالصراع هنا يشكل "السيادة الأبدية لعدالة متماسكة وقاسية مرتبطة بقوانين أبدية"،
ويعتبر أن هذا التصور للعالم لم يكن عند هيراقليطس مستوحى مما يعيشه اليوناني من صراعه
الدائم في المدينة حين يقول: "إن أصل هذا التصور يرجع إلى مؤسسات وملاعاب الرياضة
البدنية، إلى المجالات الفنية وإلى صراعات الأحزاب السياسية، والمدن". إنه تصور
شبيه بتصور شوبنهاور الذي يجعل الطبيعة لا توجد إلا عبر هذا الصراع، الصراع في مجمل
الطبيعة، والمادة في ديمومتها عليها أن تغير شكلها باستمرار. إنه صراع يدور حول المادة،
التي تسعى القوى الطبيعية كل واحدة من جهتها إلى انتزاعها، حول المكان والزمان اللذين
يتوحدان في المادة بفعل السببية.
يقف نيتشه
على عبارة "الواحد هو المتعدد"، ويتساءل: ما هي كل الصفات المتعددة للواحد؟
أهي آلهة خالدة؟ أهي ماهيات منفصلة تفعل لذاتها منذ البداية وبدون نهاية؟ ويجيب أن
هذه الصفات المحسوسة المتعددة للواحد، ليست بماهيات ولا أوهام لحواسنا، كما أنها ليست
صفات للاموجود ثابت ومسيطر لوحده، إن العالم هو لعبة "زوس" أو بعبارة فيزيائية
لعبة النار مع نفسها، وبهذا المعنى فقط يكون الواحد هو ـ في نفس الوقت ـ المتعدد. فكيف
نفهم هذا حسب نيتشه؟
إن إدخال
النار كقوة مكونة للعالم يستدعي الرجوع إلى طاليس وأنكسيمندريس، حيث الماء أصل الاشياء،
ويقول: "إن هيراقليطس الذي كان كفيزيائي يخضع لسلطة أنكسيمندريس، يفسر من جهته
نظرية الحرارة هذه ليجعل منها النفس، الحار، الأبخرة، الجافة، وباختصار العنصر الناري"،
ويضيف "وسيقول عن النار ما سبق لانكسيمندر وطاليس أن قالاه عن الماء: أنه تعبر
طرق الصيرورة بعد أشكال متغيرة: الحار والرطب والجامد". فالماء يتحول جزئيا إلى
تراب وعند هيراقليطس لا يرتفع من البحر إلا الأبخرة التي تستعمل غذاء لنار النجوم السماوية
ومن التراب لاترتفع إلا الابخرة القائمة والسديمية التي تتغذى منها الرطوبة. إن الأبخرة
الصافية تمثل الحالة الوسيطة بين البحر والنار، وغير الصافية تنتقل من التراب إلى الماء.
إن استدعاء
أنكسيمندريس وطاليس لا يعني المماثلة المطلقة، ولكن بغرض منهجي: تفسير ما يقوله هيراقليطس
عن العلاقة بين الواحد والمتعدد، وهذا لا يلغي أناكسيماندريس بل على العكس يرى نيتشه
أن "هيراقليطس مستقل وهو يعارض أستاذه حين يستبعد البرودة عن العملية الطبيعية"،
وهذا الاستبعاد كان ضروريا وهذا هو جوهر النقد الذي يوجهه هيراقليطس إلى أستاذه، حيث
يؤمن بتكرار دورس لنهاية العالم، وبانبثاق متجدد أبدا لعالم آخر يولد من الاحتراق الكوني
بعد أن يكون هذا الاحتراق قد أغنى كل شيء.
6 -
بارمنيدس
من مواطني
إيليا
Élée في جنوب إيطاليا،
وهو مؤسس المدرسة الإيلية. وفترة نضجه هو النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد
وحسب رواية زينون وأفلاطون فإنه زار أثينا حيث قابل مع زينون، سقراط حوالي 450 ق.م
فقصيدته الأساسية
سميت "في الطبيعة" وتنقسم إلى قسمين: طريق الحق ويتضمن نظريته في المنطق.
و"طريق الظن" الذي يعرض فيه مذهبه في الكون.
ويواجهنا
أول الأمر لدى بارمنيدس نقده لسابقيه حول تصورهم للمادة. ويبدأ نقده من نقطة ضعف كانت
تشترك فيها النظريات السابقة كلها. ويتعلق الأمر بالتعارض بين القول: "أن الاشياء
جميعا قوامها مادة اساسية ما"، وبين القول "بوجود مكان فارغ"، فأغلب
الفلاسفة عالجوا "غير الوجود" (اللاوجود) وكأنه موجود، وهيراقليطس يعتبر
أن الوجود يوجد ولا يوجد في آن معا. ولكن بالنسبة لبارمنيدس "موجود" لأن
ما لا يوجد لا يمكن حتى التفكير فيه، لأن التفكير لا يمكن في "اللاشيء"،
وما لا يمكن التفكير فيه لا يمكن أن يوجد، وعلى العكس، فما يمكن التفكير فيه فهو موجود؛
وإذا كان هذا ممكنا حسب راسل؛ فإن هذا ما نجده مثبتا في المقتطفات التي عرضها نيتشه
كملحق لكتابه السالف الذكر. ونقرأ في مقتطفات راسل: "من الضروري أن نقول ونفكر
أن الوجود هو موجود، لأنه موجود، أما بالنسبة للاوجود، فإنه ليس شيئا، إنه لتأكيد أدعوك
لأن تزنه جيدا" ويضيف: "أن فعل الفكر وموضوعها يختلطان بدون الوجود الذي
يتلفظ بالفكر من داخله، لا يمكن أن نجد فعل الفكر، إذ لا يوجد ولن يوجد أبدا شيء خارج
الوجود" وفي تأويله هذا يعتبر راسل أن من النتائج المستخلصة من حجة بارمنيدس على
نقده للسابقين نجد ما يلي:
1 –
عبارة
"إنه موجود" تعني أن العالم مليء في كل مكان بالمادة، أما المكان الفارغ
فهو ببساطة غير موجود، لا داخل العالم ولا خارجه.
2 –
الوجود يوجد
من المادة في مكان ما بقدر ما يوجد في مكان آخر، وإلا، لتوجب أن نقول عن مكان ذي كثافة
أقل إنه ليس موجودا بمعنى ما. وهذا محال.
3 –
الوجود ينبغي
أن يكون حاضرا بالتساوي في جميع الاتجاهات ويستحيل أن يمتد إلى ما لانهاية.
4 –
الوجود أزلي
وغير مخلوق لأن من المحال أن ينشأ من لاشيء ويرتد إليه بعد فنائه. أو أن ينشأ من شيء
ما، ما دام لا يوجد إلى جانبه شيء. وهكذا حتى نصل إلى أن صورة العالم كرة مادية متناهية
ومتجانسة، بلا زمان ولا مكان ولا تغير.
ويرى نيتشه
أن من أهم الحجج ضد بارمنيدس، حجتين تتمثل في:
الحجة الأولى:
إذا كان الفكر الذي يفكر بمفاهيم حقيقيا، يجب أيضا أن يكون للتعددية وللحركة واقع،
ذلك أن الفكر العقلي متحرك، وحركته تنتقل من مفهوم إلى آخر، أي داخل تعددية الوقائع،
وإزاء ذلك لا يوجد أي مفر من المستحيل أن نحدد الفكر كديمومة جامدة وكوحدة جامدة، أبدا
تفكر في ذاتها.
الحجة الثانية:
إذا كانت الحواس لا تولد إلا الأوهام والخداع ، وإذا كان لا يوجد فعلا إلا التماثل
بين الوجود والفكر، فما هي إذا الحواس نفسها، إنها ليست في أي حال سوى ظاهرا، لأنها
لا تتطابق مع الفكر، ولأن نتاجها ـ العالم المحسوس ـ لا يتطابق مع الوجود. ولكن إذا
كانت الحواس نفسها ظاهرا، فبنظر من هي ظاهر؟ وإذا كانت غير حقيقية، فكيف يكون إذا بإمكانها
أن تخدع إذ يستحيل على الوجود حتى أن يخدع. وبذلك يبقى مصدر الوهم والظاهر لغزا وحتى
تناقضا. (نيتشه ص 79).
7 –
انباذوقليس:
لقد قام بنقد
أفكار بارمنيدس، وهو من مدينة أكراجاس
acragas، لا
نعرف إلا القليل عن حياته، بلغ مرحلة النضج في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد،
وروي عنه أنه كان زعيما ديمقراطيا ولديه عنصر صوفي، ومما لا شك فيه أنه وقع تحت التأثير
الاورفي الفيثاغوري. وقد كان مفتونا بالتعاليم الفيثاغورية وانشق عنها فيما بعد كما
فعل بارمنيدس.
وقد ظلت حوله
اساطير محفوظة إلى الآن ـ حسب راسل ـ ، فهو حسب هذه الأساطير قادر على التدخل في الطقس
والتأثير فيه، وأنه نجح في مكافحة وباء الملاريا التي انتشرت في مدينة سيلينوس وخلدت
هذه الذكرى في نقود صكت في هذه المدينة. هكذا يمكن أن نقول أن تعدد المقاربات لا يعبر
إلا على تأكيدات في محلها. فالعمل الأركيولوجي له دور في بناء المعرفة، ولعل هذا أساس
الدعوة إلى أركيولوجيا معرفية وليس فقط أثرية.
وكان حسب
روايات عدة يعتبر نفسه إلها، لهذا ساد الاعتقاد أنه رفع إلى السماء أو أنه سقط في بركان
أثينا.
حاول انبادوقليس
التوفيق بين المذهب الإيلي وشهادة الحواس المعتادة وكان هذا أساس نظرية العناصر الأربعة.
والتي سيطرة على علم الكيمياء طوال ما يقرب ألفي عام حسب راسل. كما اعتبر مبدأي
"المحبة والنزاع" أساسي تلك العناصر لأن وظيفتهما تتمثل في الجمع والتفرقة.
إذا كان انكسيمنس نظر إلى الهواء على أنه مادي دون أن نعرف سبب اعتباره الهواء كذلك،
فإن أنبادوقليس أقام تجارب تؤكد أن الهواء مادة وخاصة التجارب على الساعات المائية.
إن تأثير
الإيليين على أنبادوقليس واضح، حيث احتفظ بالعديد من أفكارهم واعتبر المادة أزلية لا
متغيرة. ويعتبر راسل أن تأثير المدرسة الإيلية واضح حيث يقول: "وهكذا فإن ما يوجد،
موجود، كما كان الأمر من قبل، ولا يمكن أن ينشأ شيء مما لا يوجد أو يتحول شيء موجود
إلى شيء غير موجود وهذا كله ينتمي إلى المادية الإيلية بوضوح وصراحة" (59).
لقد عرف انبادوقليس
ان الضوء يتفرق وقت الإنتقال، وان ضوء القمرغيرمباشر، ومذهبه في الكون مبني على سلسلة
من الدورات التى يبدأ بها مسار العالم. فالنزاع قائم في الخارج، اما المحبة فموطنها
الداخل، وبذلك تكون العناصر الأربعة (الماء، الهواء، التراب، النار)، متماسكة بفضل
المحبة، وبعد ذلك يعمل النزاع على طرد المحبة لتتعرف العناصر وتصبح المحبة خارج العالم،
وبعدها يحدث العكس، وهكذا على دورات وتوالي، في النزاع بين هاتين القوتين نصل إلى البدء،
والحياة لديه مرتبطة بهذه الدورة وفي المرحلة الأخيرة لها (الدورة) عندما تتغلغل المحبة
في الكون الكروي تتكون أجزاء الحيوانات المختلفة، متفرقة...
إن اهتمام
أنبادوقليس بالطب وعلم وظائف الأعضاء الذي استخلصه من تعاليم الطبيب ألكمايون الكروتوني
(من أبتاع فيثاغور) والذي استخلص من نظريته التي تعتبر أن الصحة توازن سليم بين المكونات
المتضادة، والمرض يحدث أثناء حدوث خلل أو تغلب إحدى المتضادات. كما أخذ بنظرية المسام
التي يتنفس منها الجسم، كما نظرية الأبصار.
وبصدد آراءه
الدينية فإنها تسير وفق التراث الأورفي والتي لم يتأثر بنظريتها حول الكون، بل تعارضتا
إلى أبعد حد.
8 –
اناكساغوراس:
هو أمل الفلاسفة
الذين عاشوا في أثينا، والذي ظل حوالي ثلاثة عقود منذ نهاية الحروب الفارسية حتى أواسط
القرن الخامس، ومن حيث المولد هو أيوني من مدينة كلازوميناي، وكان من حيث اهتماماته
وريثا للمدرسة الأيونية في مليطة وقعت بلدته في قبضة الفرس ويعتقد أنه جاء إلى أثينا
مع الجيش الفارسي وهناك من يذهب إلى أنه صديق لبريكليس. من أهم الموضوعات التي شغلت
باله: الموضوعات العلمية والبحث في الكونيات، والدليل الواحد على أنه كان ملاحظا دقيقا،
هو أنه في 468 – 467 ق.م سقطت كتلة كبيرة من صخور الشهب في نهر إيجوس، وكان هذا الحدث
سببا في جعله يعتقد أن النجوم تتكون من صخور ساخنة متوقدة. كان متعاطفا في شبابه مع
الفرس وقد حوكم بتهمتي الضلال والانحياز للفرس ولا نملك أي شيء عن العقوبة ولا عن فراره
من السجن ولكن يرجح أنه إذا كان صديقا لبركليس فهذا هو الذي انقذه من السجن.
عاش فيما
بعد في لامباكوس، حيث اشتغل بالتدريس إلى حين وفاته، وهذه المدينة كانت تنظر إلى أعماله
أكثر استنارة وربما هو الفيلسوف الوحيد في التاريخ الذي كانت المدارس تعطل في الاحتفال
بالذكرى السنوية لوفاته.
يقال أن آراءه
معروضة في كتاب بقيت منه بعض الشذرات وأن سقراط حينما حكم بنفس التهمة، قال للقضاة
أن الآراء غير المألوفة التي اتهم بها هي آراء أنكساغوراس. كانت نظرية هذا الأخير نظرية
للتصدي للنقد الذي وجهه بارمنيدس، وبهذا تشبه نظرية أنبادوقليس، وإذا كان هذا الأخير
نظر إلى كل طرف من أطراف زوجي الأضداد الحار والبارد، والجاف والرطب، على أنه مادة
أساسية، نجد أنكساغوراس على العكس من ذلك يعتقد أن كلا من هذه متضمن بنسبة متفاوتة
في كل قطعة ضئيلة من المادة، مهما صغر حجمها، ولإثبات ذلك قال فكرة قابلية المادة للانقسام
إلى ما لا نهاية. ويذهب راسل إلى أن هذه الفكرة كانت نقطة بدء أمكن انطلاقا منها تطوير
فكرة المكان الفارغ عند الذريين فيما بعد.
الاختلاف
بين الأشياء ترجع إلى تغلب أحد الضدين على الآخر، فالثلج وإن كان أبيضا فإنه يتضمن
الأسود ولكن البياض هو السائد. وإن دل ذلك إنما يدل على أن الأضداد تتلاقى وعلى هذا
يقول أنكساغوراس:
"أن الأشياء الموجودة في العالم لا تنقسم ولا يقتطع
بعضها من بعض بضربة فأس".
"في كل شيء يوجد قدر من كل شيء، إلا العقل Noûs ، بل إن هناك أشياء يوجد فيها العقل بدوره".
إن فكرة تلاقي
الأضداد يعود إليها أرسطو في كتابه "الفيزياء"، فانكساغوراس يجعل مجرى الطبيعة
متحركا في اتجاه واحد بدون تكرار ولا رجوع كما افترض عددا لا متناهيا من الأجسام المتمايزة
في الوقت الذي اكتفى أنباذوقليس بالعناصر (الجواهر) الأربعة. يظهر أن أنكساغوراس اتبع
رأي جميع الفيزيائيين: فمن المحال أن يتكون شيء من لاشيء. والمبدأ الآخر لأنكساغوراس
يتمثل في أن: المتضادات يتكون بعضها من بعض وهذا يعني بالنسبة له أن كل واحد منها موجود
من قبل في موجود آخر، ولا شيء يتكون من لاشيء.
لقد سلم وأصحابه
إلى أن: أجزاء كل شيء يجب أن تكون ممتزجة في كل شيء، فأجسام الطبيعة باختلاف أنواعها
يتولد بعضها عن بعض "فتوهموا أن هذه الأشياء إنما كانت متغايرة فأطلق عليها أسماء
متباينة تبعا للعناصر السائدة الأغلب من جهة الكم حين اختلاط الأجزاء غير المتناهية
بالعدد. أما في الحقيقة الخالصة (رأي أرسطو) فنحن لا نجد شيئا كله محض أبيض وأسود ولا
حلو ولا لحم ولا عظم، بل إنما ينسب الشيء إلى ما غلب عليه من عنصر سائد فيه مأخوذ على
أنه طبيعته" (الفيزياء ص22).
إذا كان كل
موجود يستخلص من موجود آخر، فهذا غير ممكن بالنسبة لأرسطو لأن الجزء المستخلص من الجزء
الآخر يؤدي إلى انفصال الواحد عن الآخر، "إذا انتزعنا من مقدار معين من الماء
جزءا معينا من اللحم ثم رجعنا جزء آخر من اللحم من ذلك الماء المتبقي، فإنه وإن كان
ذلك الجزء المستخلص على التوالي ينقص كمه باستمرار فإنه لا يتجاوز مقدار حد ما من الصغر
ولا أن ينقص عن أصغر جزء فيه" (الفيزياء، ص23). وما يعني ذلك من أنه "لا
يصدق أن يكون كل شيء موجودا في كل شيء"، وأنه "من المحال أن يكون كل واحد
من الأشياء موجودا في كل واحد منها". ولما كان كل جسم متى انتزع منه جزء معين
نقص بالضرورة، وصار لا محالة أصغر، وكانت كمية اللحم محدودة من جهة المقدار والصغر،
تبين أنه من جزء ممكن من اللحم لا يمكن أن نستخلص جسما على الإطلاق، إذ أنه يصبح أقل
حد ممكن أدنى.
تحدث أيضا
أنكساغوراس عن فكرة صحيحة دون أن يعرف أسبابها وهي أن "الأشياء لا تتميز كاملا"
وأن "الإنفصال لا يتم أبدا".
والعقل في
قول انكساغوراس هو المبدأ الفعال الذي يحل محل "مبدأ المحبة والنزاع" عند
أنبادوقليس ويحتل هذا العقل مكانا هاما في تصوره لأصل العالم والاشياء، فالنوس يطلق
حركة دوامة في مكان ما وحين تكتسب هذه الحركة مزيدا من القوة تفصل الاشياء المختلفة
تبعا لمقدار كتلتها، بحيث أن القطع الثقيلة في الصخور التي يقذفها دوران الأرض تبتعد
أكثر من غيرها، ونظرا لأنها تتحرك بسرعة كبيرة فإنها تبدأ في التوهج وهذا يفسر طبيعة
النجوم.
إن أنكساغوراس
يؤمن كاليونانيين بتعدد وكثرة العوامل، فنظريته حول قابلية الأشياء للقسمة إلى ما لانهاية،
كانت أساسية. فمن الخطأ يقول راسل تصور أن أنكساغوراس كان ملحدا ، لكن تصوره للإله
كان فلسفيا ولا يتماشى مع ديانة الدولة في أثينا وآراءه لا تساير الدين الشائع، وهذا
ما جلب له العقوبة والتهمة بالضلال. فالإله عنده يعادل النوس، أي المبدا الفعال الذي
هو اصل الحركة، وهذ القول يمس سلطة الدولة.
9- فيثاغور
على القرب
من ساحل أيونيا تقع جزيرة ساموس
Samos Σάμος وفيها نشأ فيثاغور.
يقال أن فترة
ازدهاره كانت حوالي 532 ق.م أيام حكم الطاغية بوليكراتيس Polycrate وساموس مدينة منافسة لميلطة وغيرها من المدن اليونانية
وبوليكراتس كان حليفا لوقت ما لأمازيس
Amasis ملك مصر،
وهذا ما يفسر سفر فيثاغور إلى مصر والتي استمد منها معارفه العلمية.
رحل لأنه
لا يتحمل حكم الطاغية بوليكراتيس على كروتون croton مدينة يونانية جنوب إيطاليا والتي أنشأ فيها جماعته.
وبقي في كروتون 20 سنة حتى 510 ق.م وانتقل نتيجة الثورة ضد مدرسته إلى ميتابونتيون metapontion[19] حيث عاش حتى وفاته.
إذا كانت
الفلسفة في ميلطة علمية، فمع الفيثاغورية يظهر التأثير الأورفي أكثر حيث ستصبح تأملا
منعزلا للعالم، ويتجلى التأثير الأورفي في نظرة فيثاغور للحياة. فالروح لدى هذه الجماعة
تمر عبر سلسلة متعاقبة من حالات التناسخ.
وقد أدت المدرسة
الفيثاغورية إلى "ظهور تراث علمي ورياضي على وجه الخصوص، إذ كان علماء الرياضة
هم الورثة الحقيقيون للفيثاغورية". إن راسل هنا يعي جيدا ما يقول كيف لا ومجهودات
فيثاغور في الرياضيات ظلت حاضرة حتى اليوم في علم الرياضة. ولقد كان اكتشاف فيثاغور
هاما في العلاقات العددية البسيطة التي تسمى الآن بالمسافات الموسيقية. وعلى هذا الاساس
افترض راسل (احتمالا) كون هذا الربط بين الأعداد والموسيقى أساس فكرة فيثاغور:
"إن الاشياء كلها أعداد" حيث يقول: "ومن المحتمل جدا أن الكشوف في ميدان
الموسيقى هي التي أدت إلى الفكرة القائلة إن الاشياء كلها أعداد، بحيث يتحتم علينا
من أجل فهم العالم المحيط بنا، أن نهتدي إلى العدد في الاشياء، وما أن ندرك البناء
العددي، حتى تتحقق لنا السيطرة على العالم، وتلك فكرة عظيمة الأهمية" (41-42).
ما هو تصور
فيثاعور للعالم؟
يذهب راسل
إلى اعتبار أن تصور فيثاغور للعالم أو "نظريته عن العالم" ترتكز على تعاليم
الفلاسفة الملطيين مباشرة، و"جمع بينها وبين نظرياته الخاصة في الأعداد"
(43). ففي رأي فيثاغور أن الهواء اللامحدود هو ما يحافظ على تميز الوحدات، والوحدات
هي التي تجعل اللامحدود قابلا للقياس، واللامحدود هو ذاته الظلمة، والحد هو النار،
وهو تصور نابع من رؤية السماء والنجوم، لذلك يقول: "وقد اعتقد فيثاغور، شأنه شأن
الملطيين، أن هناك عوامل كثيرة، (...) وذهب إلى أن الأرض كرة" (43).
لا نعرف السبب
الذي طرد فيثاغور ومدرسته من مدينة كروتون في 510 ق.م، ولكن نتذكر أن فيثاغورس خاض
سجالا سياسيا وواضح أن الفيلسوف عندما يدلي برأي نقدي يعكر المياه الآسنة للسياسة القائمة
ولا شك أن هذا ما جعل أهل كروتون يحرقون مدرسة فيثاغورس.
تشكل نظرية
الأعداد أهم نظرية لدى فيثاغور: حيث نظر إلى أن الأعداد تتألف من وحدات. والوحدات ذات
أبعاد مكانية، أي أن النقطة وحدة ذات أبعاد مكانية. وهذه النظرية صالحة للتعامل مع
الأعداد الجذرية فمن الممكن دائما أن نختار للتعبير عن الوحدة، عددا جذريا. بحيث يكون
أي عدد من الأعداد الجذرية عبارة عن حاصل ضرب للوحدة يمثل عددا صحيحا. إلا أن هذه النظرية
تجد صعوبة عندما نكون إزاء الأعداد الصماء. لأنها لا تقاس على نحو النظرية ولذلك اخترعوا
طريقة الاهتداء إلى الأعداد التي يستحيل الوصول إليها عن طريق سلسلة من التقريبات أي
إيجاد الكسور المتصلة.
الفكرة الرئيسية
في رياضيات فيثاغور هي نظرية المثل والتي تستند على أن رسم شكل دقيق لبيان أن مثلث
قائم الزاوية والمربعات المقامة على أضلاعه، ثم الانتقال إلى قياس مساحات المربعات
غير مجدي. فالشكل لا يصل إلى غاية الدقة التي نرومها، وذلك لأن الاشكال لا تقدم البرهان
وعلى هذا ينبغي تمثل وتخيل الأشكال بدلا من رسمها أو أي رسم فعلي ينبغي أن يكون نسخة
للصورة الذهنية تتفاوت في مدى مطابقتها لها. وهذا هو اساس نظرية المثل عند أفلاطون.
في ميدان
الفلك افترضوا أن مركز العالم ليس هو الأرض، بل "نار مركزية"، والأرض كوكب
يدور حولها والجانب الذي نعيش فيه بعيد عن تلك النار الغير المرئية وأن الشمس أيضا
كوكب يدور حول تلك النار.
في تكون الاشياء
تعترف الفيثاغورية بفكرة الفراغ الذي يستحيل بدونها تقديم تفسير معقول للحركة وقد حاول
أرسطو نقد هذه الفكرة من خلال اعتباره أن الطبيعة تبغض الفراغ والعدم معتبرا أن الشيء
لا يتشأ ولا يتكون من لاشيء.
إن المدرسة
الفيثاغورية حاولت أن ترى في تكون الاشياء اجتماع العناصر الأريعة لأن هذه العناصر
تتألف من الجزئيات التي لها شكل الاجسام الجامدة المنتظمة.
10
– لوقيوس Leucippe
يعتبر مؤسس
الفلسفة (من الذرة
atomas ) وقد ولد في
آسيا الصغرى في مدينة مليطة في القرن الخامس قبل الميلاد، لكنه تركها واتجه إلى مركز
الحضارة والعلم أي صقيلية، وتتلمذ على يد بارمنيدس، واستقى من تعاليمه أشياء أساسية
أعطاها صورة مادية طبيعية علمية، ولا نعرف عنه إلا أنه كان أستاذا لهيراقليطس.
ويذهب ولتر
ستيس إلى أنه كان معاصرا لأنبادوقليس وأنكساغوراس، وتجول كثيرا في مصر وبابل على الأرجح
(ولتر ستيس ص 65). عاش حوالي 90 سنة.و يتعبر أن مساهمته إلى هيراقليطس في الفلسفة الذرية
يوضع موضع شك.
ويرى أن المادة
إذا كان من الممكن أن تنقسم فإنها يجب أن تصل إلى وحدات لا تنقسم. وهذه الوحدات التي
لا تنقسم تسمى بالذرات، ولهذا فإن الذرات هي المكونات النهائية للمادة. إنها لا متناهية
في العدد وهي من الصغر بحيث يصعب إدراكها بالحواس.
11
- ديموقريطس
فيلسوف يوناني
ولد بأبدير
Abdère سنة 460 ق.م
وتوفي سنة 370 ق.م، صنف ضمن الفلاسفة ما قبل السقراطيين.
وكان صغير
عن سقراط حيث عاش ثلاثون سنة بعده.
كما يعتبر
فيلسوفا ماديا نظرا لاعتقاده أن الكون نشأ من الذرات ومن الفراغ.
وحسب ديوجين
فإنه هو من أنشأ نظرية الذرات. وانتمى إلى مذهب لوقيبوس leucippe كان كثير السفر حيث تلقى علوما من شعوب أخرى كالهندسة
مثلا في مصر، وزار الهند وبابل...
12
- زينون
ينتمي إلى
بلد بارمنيدس ومن أتباعه حيث كانت تلميذا له، ولد حوالي سنة 490 ق.م واهتم بالشؤون
السياسية وقد عرفنا عنه حسب روايات أفلاطون أنه قابل هو وبارمنيدس سقراط في أثينا.
لقد حاول
زينون أن يبني المذهب المادي من خلال نقد الأفكار المعارضة، حيث يبين بالحجة الاستدلالية
بطلانها لتصبح حجج الإيليين صحيحة، وهذا النوع من الاستدلال شبيه بالبرهان بالخلف،
وعلى الرغم من الخلاف بينهما، فإن الأستدلال عند زينون يتمثل في: أنه من الممكن استخلاص
نتيجتين متناقضتين من افتراض معين، والنتيجتين ليستا باطلتين فحسب بل مستحيلتان، ويصبح
بذلك الافتراض المنطلق مستحيلا. إن هذه الحجج تسير دون أي مقارنة بين النتائج والمقدمات
أي أنه هو الجدل عينه، فزينون هو أول من استعمل الحجة الجدلية بطريقة منهجية وهذه الحجج
تعتبر بمثابة هجوم على الفيثاغورية خاصة فيما يتعلق بإمكان الحركة والفراغ.
نقد زينون
لفكرة الوحدة:
كل ما يوجد
في نظر زينون لا بد أن يكون له جحم وإلا لما وجد اصلا وإذا كان هذا صحيحا فإن كل جزء
يكون له بدوره حجم، وهكذا فإن الجزء ليس صغيرا، حيث أن الأشياء كثيرة وبالضرورة تكون
صغيرة أو كبيرة في آن معا، ويمكن أن تكون صغيرة إلى حد أنه لا يصبح أن يكون لها حجم،
وأن قابلية الاجسام إلى ما لا نهاية تثبت أن عدد الأجزاء لا متناهي، مما يقتضي وحدات
بلا حجم، والوحدة ينبغي أن يكون لها حجم، وهكذا فالأشياء كبيرة إلى حد لا متناه.
وهذا ما يدحض
نظرية فيثاغور في الوحدات، فإذا تأملنا الخط حسب فيثاغور فإنه عبارة عن وحدات، وإذا
سلمنا بقضية القسمة، جاز طرح وحدات فيثاغور.
نقد فكرة
الفراغ:
يرى زينون
إنه إذا كان المكان موجودا وجب أن يكون متضمنا في شيء ما وهذا الشيء لا يمكن إلا أن
يكون مكانا آخر، وهكذا إلى غير حد. وهذا يرفض التسلسل الذي لا يتوقف ويستنتج أنه ليس
ثمة مكان، لذا لا ينبغي أن نميز بين المكان والجسم الذي يشغله، فإذا كان العالم كرة
متناهية حسب بارمنيدس فإنها تشغل حيزا مكانيا وأن أشهر حجج زينون تتمثل في مفارقات
الحركات الأربع:
1 –
حكاية أخيل
والسلحفاة: لو تسابق أخيل والسلحفاة في سباق تتابع فمن المستحيل أن يلحق أخيل بمنافسته،
فلو افترضنا أن السلحفاة بدأت تسير مسافة ما في المضمار، فإنه في الوقت الذي يجري فيه
أخيل حتى يصل فيه إلى النقطة التي بدأت منها السلحفاة، تكون هذه الأخيرة قد تحركت مسافة
ما إلى الأمام. وحين يجري أخيل إلى هذا الموقع الجديد تكون السلحفاة قد انتقلت إلى
نقطة أبعد قليلا. وهكذا ففي كل مرة يصل فيها أخيل إلى موقع السلحفاة السابق تكون قد
تحركت بعيدا.
2 –
حلبة السباق:
إن المرء لا يستطيع أن يعبر حلبة السباق من أحد طرفيه إلى الآخر، لأن هذا يعني أن عليه
عبور عدد لا نهائي من النقط في زمان متناه، أو بعبارة أدق فقبل الوصول إلى النقطة لا
بد أن يعبر نفس المسافة الموصلة إليها ثم نصف النصف وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذا فليس
في وسع المرء أن يبدأ الحركة على الاطلاق وأنها حجة مقرونة بأخيل وبالسلحفاة.
والحجتان
الأخريتان: الخطوط الثلاث المتوازية وحجة السهم.
13
- السوفسطائيون:
يشكل السوفسطائيون
بداية المرحلة الثانية من الفلسفة اليونانية. ولقد طرح السوفسطائيون مشكلة وضع الإنسان
في الكون لهذا كانت آرائهم إنسانية بالدرجة الأولى على عكس الآراء الكونية عند الطبيعيين.
من هم السوفسطائيون؟
السوفسطائيون
ليسوا مدرسة للفلاسفة، لهذا لا يمكن مقارنتهم بالفيثاغوريين أو الإيليين، وليس لديهم
مذهب فلسفي يشتركون فيه ولا نجد لدى أحدهم أي مذهب، وحتى العلاقات بينهم لم تكن موجودة
(حسب تأريخ ولتر ستيس ص 78 - 79). إنهم فئة متناثرة في جميع أنحاء اليونان وهم أساتذة
ومحترفين ومربين. وجاء ظهورهم إلى الطلب المتزايد على التعليم الشعبي، علما أن التعليم
كان مفتاح النجاح الدنيوي والسياسي. فالوظائف السياسية مفتوحة في وجه الجميع شرط أن
التعليم هو الذي يؤدي إليها. ولشغل منصب سياسي لا بد من التعليم.
جاء السوفسطائيون
لتلبية حاجة الجماهير إلى التعليم لشغل مناصب سياسية في الدولة. لهذا طافوا اليونان
كلها يلقون المحاضرات ودخلوا في مجادلات مع تلاميذهم. وفي مقابل هذه الخدمة يتلقون
أموالا باهضة. إنهم أول من تلقى أجرا على الحكمة في اليونان.
لم يكن السوفسطائيون
فلاسفة ولم يتخصصوا في مشكلة ما، لذلك فبروتاجوراس لقن تلاميذه مبادئ النجاح كسياسي
أو كمواطن خاص، وجورجياس علم البلاغة والسياسة وبرويتوس علم النحو والاشتقاق اللغوي.
كما أن هيبياس علم التاريخ والرياضة والفيزياء.
إن هذا الاتجاه
العملي للسوفسطائيين لا نسمع أية محاولة منهم وبينهم لحل مشكلة أصل الطبيعة أو طابع
الحقيقة المطلقة.
لقد وصفوا
على أنهم معلموا فضيلة: قدرة الشخص على أن يؤدي بنجاح وظائفه في الدولة. إن فضيلة السوفسطائيين
هي فضيلة تعليم المواطنين المهارات والصناعات وتدريب الناس على الفضيلة لجعلهم صالحين
وناجحين في أداء مهامهم، ويعتبرون مؤسسي علم الخطابة.
يعتبر بروتاغوراس
(480-410 ق.م) أقدم السوفسطائيين، جاء إلى اليونان واستقر بعض الوقت في أثينا واتهم
فيها بالتحلل والإلحاد، ويستند هذا الاتهام إلى كتاب ألفه عن موضوع الآلهة بدأه بهذه
الكلمات: "أما بالنسبة للآلهة فإنني عاجز عن القول ما إذا كانت موجودة أم لا".
والكتاب أحرق علنا. ولهذا فر من أثينا إلى صقلية، وقد غرق وهو في الطريق عام 410 ق.م.وقال
أيضا: "الإنسان مقياس كل الاشياء، معيار ما هو موجود فيكون موجودا، ومعيار ما
ليس بموجود فلا يكون موجودا".
خامسا: الفلسفة
السقراطية
لا يسعنا
أن نقف صراحة على مجمل الانتاجات الفلسفية السائدة في فترة سقراط نظرا لأن المجتمع
اليوناني آنذاك يزخر بمختلف التيارات والاتجاهات والأسماء المعروفة منها وغير المعروفة
14
– سقراط
Je ne suis ni Athénien, ni Grec, mais un
citoyen du monde. [Socrate]
لقد أثار
سقراط جدلا واسعا في صفوف المؤرخين والمهتمين بالفلسفة فعن أي سقراط نتحدث؟ أنتحدث
عن سقراط الأفلاطوني، كشخصية محورية في محاوراته؟ أم عن سقراط زينوفون Xénophon؟ أم عن سقراط أرسطوفان؟
إن حياة سقراط
وأفكاره المنسوبة إليه لم نتملك منها إلا ما جاء في المحكيات / المحاورات، أي ما قدمه
فلاسفة غير سقراط. ولذا فإن هذا الجدل حول هذه الشخصية هام للغاية وأساسي وعليه سنأخذ
أولا بتوجيهات فرانسيس ولف [20]Francis
Wollf في كتابه
سقراط
Socrate ونتساءل معه:
هل سقراط مثير للإهتمام؟ ومن الممكن أن يثير الاهتمام، بل هو يثير الاهتمام ولكن أي
سقراط؟ سقراط الحي كشخصية في المحاورات. إذن هذا يقتضي في نظر ولف عرض ملاحظات فهرسية
ويعتبر أن اتباع محاورات أفلاطون يجعلنا ننتقل من سقراط إلى فلسفة أفلاطون وهو انتقال
تم أيضا عبر زينوفون ومديحه لسقراط، إن ما يجعل حقا في نظره أمام "وثائق سقراطية"
هو أرسطوفان "التي وصلتنا من شهود عيان هكذا تصبح معرفة سقراط أساسية من خلال
مؤلفات الثلاثي أفلاطون وزينوفون، وأرسطوفان، ويعرض في توجيهاته العديد من الدراسات
الهامة والضرورية في العودة إلى سقراط.
لا نستطيع
أن نتبث أي شيء حقيقي عن سقراط عدا ما ذكر الثلاثي المذكور أعلاه.
سادسا: الفلسفة
ما بعد سقراط
15
- افلاطون[21]
ولد حوالي
428 ق م وتوفٌي حوالي 347 ق م إلتقى في شبابه بسقراط واستمع إليه وتأثٌر بتعاليمه وكان
لهذا الفيلسوف الأثر الكبير على فلسفته. كتب أفلاطون العديد من الكتب أغلبها في شكل
محاورات يأخذ فيها سقراط دور الشٌخصيٌة الرٌئيسيٌة. أشهر هذه المحاورات: محاورة الفيدون
وبروتاغوراس، وتعتبر من مؤلٌفاته الأولى ثمٌ كتب محاورات أخرى أهمّها محاورة الجمهوريٌة
ومحاورة تياتيتوس محاورة السٌفسطائي ومحاورة بارمينيدس ومحاورة السٌياسي.
وفلسفة أفلاطون
هيٌ فلسفة مثاليٌة تقوم على التٌمييز في الوجود بين العالم المحسوس والعالم المعقول
والذي سمٌاه أيضا بعالم "المثل" أي عالم الأفكار المجرٌدة الثٌابتة والأزليٌة.
إذ يعتبر أفلاطون أنٌ الأفكار لا توجد في ذهن الإنسان فقط وإنٌما وجودها الحقيقي هو
وجود موضوعي مفارق، في عالمها الخاصٌ بها. وقد كان بهذه النٌظريٌة يسعى إلى تأسيس العلم
أو المعرفة الحقيقيٌة وتجاوز آراء السٌفسطائيٌين التي كانت تحول دون القول بإمكان التوصٌل
إلى معرفة موضوعيٌة ثابتة. وبالفعل فقد كان هيرقليطس يعتبر أنه لا يمكن الوصول إلى
معرفة ثابتة بالعالم المحسوس باعتبار أنٌ هذا العالم هو في تغيٌر مستمرٌ أو بعبارته
هوٌ "في سيلان أبدي"، في حين كان بروتاغوراس يعتبر، بناء على مقولته
"الإنسان مقياس كلٌ شيء" وبناء على القول بأنٌ كلٌ معرفة تعتمد على الحواسٌ،
أنٌ كلٌ معرفة هيٌ بالضٌرورة ذاتيٌة. كان على أفلاطون إذن، تجاوز هذه الأفكار وكان
ذلك بتأسيس نظريٌة في الوجود وهي القسمة التي تعتبر أنٌ الوجود الحقيقي ليس الوجود
المحسوس المتغيٌر وإنٌما الوجود المعقول الثٌابت. ونظريٌة في المعرفة وتدورفي مجملها
حول اعتبار أنٌ المعرفة الحقيقيٌة ليست المعرفة الحسٌيٌة الذاتيٌة والنٌسبيٌة وإنٌما
المعرفة المعتمدة على العقل والقادرة على إدراك المعقولات، الأفكار المجرٌدة الثٌابتة
والأزليٌة أي المثل. ففيم تكمن هذه المثل؟
إذا نظرنا
إلى الأشياء المحسوسة حولنا وجدنا أنٌها تختلف في خواصٌها وصفاتها الحسٌيٌة لكنٌها
مع ذلك ليست مختلفة عن بعضها تمام الإختلاف فإذا كان زيد يختلف عن عمر فإنٌهما يشتركان
في أنٌ كلاهما إنسان وبالتٌالي فإنٌ "الإنسانيٌة" أي مايكون به الإنسان إنسانا
توجد في كليهما على حدٌ السٌواء وهذه الإنسانيٌة هيٌ شيء واحد وثابت وتمنح كلٌ إنسان
إنسانيٌته وهي مع ذلك ليست شيئا محسوسا إنٌها ماهيٌة الإنسان أو الإنسان في ذاته الذي
لايمكن إدراكه إلاٌ بالعقل وإذا كان كلٌ إنسان، من جهة وجوده المحسوس، فان ومآله الزٌوال
فإنٌ الإنسان في ذاته أو "مثال الإنسان" ثابت أزليٌ لا يتغيٌر ولا يندثر.
ويمكن على هذه الشٌاكلة أن نعرف أنٌ لكلٌ شيء في العالم المحسوس مثاله في العالم المعقول
وبالتٌالي فإنٌ الأشياء الجميلة تشترك كلٌها في الجمال وهي تكتتسب "جماليٌتها"
من الجمال في ذاته أي "مثال" الجمال، وكذا الأمر بالنٌسبة للفضيلة والخير
والحقٌ...إلخ.
وبناء على
نظريٌته في المثل يبني أفلاطون نظريٌته في المعرفة إذ، وباعتبار أنٌ الوجود الحقيقي
هو وجود المثل وأنٌ الوجود المحسوس هو وجود مزيٌف أو هو لا وجود مقارنة بوجود المثل،
تكون المعرفة الحقيقيٌة هي المعرفة التي تدرك المعقولات وبالتٌالي فإنٌ الأداة المعرفيٌة
الوحيدة التي يمكن الإعتماد عليها للوصول إلى العلم(أي المعرفة اليقينيٌة والموضوعيٌة
الثٌابتة) هيٌ العقل أمٌا الحواس فلا تصل بنا إلاٌ إلى الوهم والزٌيف إذ لا تتعلٌق
إلاٌ بالمحسوسات المتغيٌرة والزٌائلة والتٌجربة بدورها لا تمكٌننا إلاٌ من مجرٌد الظٌنٌ
( الدٌوكسا) أي المعرفة التي لا ترقى إلى المعرفة الحقيقيٌة. وحده إذن العقل هو الذي
يرقى إلى هذه المعرفة ووحده الفيلسوف يستطيع التٌوصٌل إلى هذه المعرفة.
إن الشّرط
الذي يجب أن يتوفّر كي يكون العلم ممكنا هو حسب أفلاطون الإقرار بوجود المثل، إنّ هذه
الأفكار الثّابتة الأزليّة، كما بيّن في محاورة الكراطيل، هيّ الموضوع الثّابت الذي
يمكن للإنسان معرفته عوضا عن المحسوس المتغيّر وبما أنّ الأنطولوجيا عنده تفترض أنّ
العالم المعقول مفارق للعالم المحسوس وبما أنّ الإنسان يعيش في العالم المحسوس فكيف
السّبيل إذن إلى المعرفة والعلم الحقيقيّ؟ إذ لايمكن للإنسان بلوغهما إذا إقتصر وجوده
على الوجود في هذا العالم. ولا يمكنه ذلك إلاّ إذا كان قد خالط المثل وعاشرها. لذلك
يعتبر أفلاطون أنّ للإنسان حياة سابقة أو أنّ نفسه المجرّدة كانت تعيش في عالم المثل
قبل أن "تنزل" إلى العالم المحسوس. في هذه الحياة السّابقة كانت النّفس قادرة
على تأمّل المثل ومعرفتها. يجب إذن على الإنسان أن يسعى إلى تذكّر ما عرفه "إنّ
المعرفة تذكّر والجهل نسيان".
إنّ هذه النّظريّة
في المعرفة تفترض إذن أنتروبولوجيا أي نظريّة حول الإنسان والنّفس بوجه خاصّ. فقبل
أن تلتتحق بالجسد كان للنّفس وجود مستقلّ، مفارق ومجرّد ومنزّه عن المحسوس أي عن الجسم.
إنّ إلتحاقها بالجسد المادّي هو إنحطاط وسبب في الشّرور (الرّذيلة : إتّباع غرائز الجسد
وأهواؤه) وسبب في الأخطاء (الوهم والظّنّ : إتّباع الحواسّ). إنٌ ماهيٌة الإنسان تكمن
في النٌفس المجرٌدة وهذه النٌفس كانت تعيش في عالم المثل قبل أن تنزل إلى العالم المحسوس
وتلتحق بالجسد. فليس الجسد عندئذ سوى "قبر للنٌفس" وعائق يعوقها على الوصول
إلى المعرفة بما يتضمٌنه من حواس مصدر الأوهام ويعوقها على تحقيق الفضيلة بما فيه من
غرائز ورغبات تكبٌل النٌفس وتغريها بفعل الشٌرٌ.
ويعتبر أفلاطون
أنّ النّفس رغم بساطة جوهرها تحتوي على تراتبيّة فهي نفس غريزيّة ونفس غضبيّة ونفس
عاقلة. ومن هذا المنطلق ستتحدّد الأخلاق والفضيلة. فالفاضل هو الإنسان الذي يستطيع
أن ينشأ تناغما بين مختلف مستويات النّفس. بحيث يعطي لكلّ منها وظيفته : العقل للتّسيير
والمعرفة العاطفة للدّفاع والغاذية للمعاش.
أمٌا فيما
يتعلٌق بالأخلاق فيعتبر أفلاطون أنٌ الفضيلة مرتبطة بالمعرفة أو هي تتمثٌل في المعرفة
فليس هنالك فرق بين معرفة الخير في ذاته والعمل وفق هذا الخير إذ في الحقيقة ذاك الذي
يفعل الشٌرٌ إنٌما يفعله عن جهل. وبما أنّ الإنسان لا يفعل الخير إلاّ بالإعتماد على
معرفته وبما أنّ المعرفة لا يمكن أن تتمّ إلاّ بالعقل وحده فإنّ التّأمّل المجرّد الذي
يهمل الجسد ويستبعده هو الكفيل ببلوغ الحقيقة وتحقيق الخير معا.
لكنّ الخير
والسّعادة ليسا شأنا شخصيّا بقدر ما هما قضيّتان تتعلّقان بالمدينة ككلّ وبالتّالي
لا يمكن تحقيق الكمال إلاّ في مدينة محكمة التّنظيم. فتتمثٌل السٌعادة بالنٌسبة للأفلاطون
عندئذ في سعادة المدينة ككلٌ والتي تتحقٌق بالإنسجام بين جميع أطرافها وشرائحها، فكما
يجب أن يوجد انسجام في الفرد بين النٌفس العاقلة والنٌفس الغضبيٌة والنٌفس الغاذية.
فإنٌ المدينة كذلك يجب أن تنقسم إلى حرٌاس يسيٌرون شؤونها العامٌة وجنود يسهرون على
الأمن ورعيٌة تقوم بالأعمال الأخرى الضٌروريٌة مثل الفلاحة والصٌناعة....إلخ.
وبناء على
نظريٌته في المثل أيضا يحدٌد أفلاطون موقفه من الفنٌ ويعتبر أنٌ الفنٌ، باعتباره محاكاة
لما يوجد في الطٌبيعة إبتعاد عن الحقيقة، إذ هو محاكاة للعالم المحسوس الذي هو بدوره
محاكاة للعالم المعقول وبالتٌالي ف"الفنٌ محاكاة للمحاكاة".
لقد كان لأفلاطون
تأثير كبير على تاريخ الفلسفة إذ أنٌ التٌيار المثالي بقي دائما يستلهم منه أسسه. وتعني
المثاليٌة ذاك التٌوجٌه في الفلسفة الذي يعتبر أنٌ الفكر أو الأفكار هيٌ الوجود الأصلي
والوجود المبدئي الذي يسبق كلٌ وجود آخر بعكس المادٌيٌة التي تقول بأسبقيٌة المادٌة
على الفكر وتنكر وجود الفكر وجودا قائما بذاته وإنٌما هو دائما إفراز من إفرازات المادٌة.
16
- أرسطو Aristote 384-322 ق.م
كل ما يمكن
أن نقوله في حق أرسطو "المعلم الأول" فهو ناقص، نظرا لما يمثله من مكانة
في تاريخ الفلسفة، فليس هناك مجال لم يتحدث عنه في عصره، لذلك تجده مساهما في مختلف
المجالات المعرفية، تجده في الطبيعيات وفي الفيزياء والكيمياء وفي المنطق والفلسفة
والادب... إنه "أعظم مفكر في العصور القديمة".
وُلد في ستاجيرا
في تراقيه، وتربى في أثينا بمدرسة أفلاطون، ورد على الفلاسفة الطبيعيين حيث يظهر إلماما
واسعا بفلسفته والتي انتقدها لبناء فلسفة بديلة، وحاجج بما وسعه من الحجج، وساجل أستاذه
أفلاطون، بل وانتقد نظريته الخاصة بالصور المفارقة (المثل)، وقد أسس مدرسته الخاصة
في أثينا عام 335 قبل الميلاد. وميز في الفلسفة بين:
- الجانب النظري الذي يتناول الوجود ومكوناته وعلله
وأصوله.
- والجانب العملي الذي يتناول النشاط الانساني.
- والجانب الشعري الذي يتناول الابداع.
وموضوع العلم
عنده هو العام، الذي يمكن التوصل إليه عن طريق العقل. ومع ذلك فإن العام لا يوجد إلا
في الجزئي الذي يُدرك بطريقة حسية ولا يُعرف إلا عن طريق الجزئي، وشرط المعرفة بالعام
هو التعميم الاستقرائي الذي يكون مستحيلا بدون الادراك الحسي.
إسهامه في
المنطق:
إن أسهام
أرسطو في المنطق كان اللبنة الأولى للمنطق المعاصر والتقليدي الصوري، ولا أحد ينكر
ذلك.
من الصعوبة
الإلمام بالمنطق الأرسطي في كل حيثياته ولذلك نكتفي بعرض الخطوط العامة للأورغانون
ومحتوياته.
يشتمل كتاب
الأورغانون (ككتاب جامع لمنطق أرسطو)[22]، على:
* مقدمة من وضع بورفوريوس.
* رسالة المقولات (قاطيغورياس) يبحث فيه المقولات
العشر (وأساسا الأربعة الأولى)، أي الطرق العشر التي بمقتضاها يمكن لمحمول أن يكون
مسبوقا بموضوع.
* رسالة التأويل التي تتضمن نظرية تعارض المقدمات،
مع مناقشة للحالة التي تكون فيها المقدمات محمولة على احتمالات مستقبلية، وبحث عن تعارض
وتتابع المقدمات الجهوية.
* التحليلات (الأنالوطيقا): وتتضمن تحليلات أولى:
في جزئين، تعرض نظرية القياس، منظورا إليه من زاوية صلاحه الشكلي، وتحليلات ثانية في
جزئين أيضا تتناول البرهان أي القياس القائم على المقدمات الضرورية والمقدم بالتالي
بوصفه أداة للعلم.
* الحجج (الطوبيقا)، في ثمانية أجزاء مخصصة للمجادلة،
أي للقياس القائم على المقدمات الاحتمالية فقط مثل المقدمات التي تصدر عن الأمور المشتركة.
* رسالة السفسطة التي تختم الأورغانون، وهي في الواقع
من كتاب الحجج الذي يشكل الجزء التاسع من الأورغانون، مع خاتمته العامة المستندة إلى
مجمل الحجج.
لقد ظل المنطق
الأرسطي سائدا طوال قرون، ترجمه العرب (ترجمة إسحاق ابن حنين تحت عنوان الأورغانون)،
كما كان موضع شروحات عدة أهمها شروحات ابن رشد. وحتى في الفلسفة الحديثة يمكن اعتبار
البداهة والوضوح والتميز عند ديكارت استبطانا للمنطق الأرسطي، فإذا كان منهج ديكارت
في اليقين يقوم على: البداهة، التحليل، التركيب، المراجعة، فإن هذا لا يعني غير العودة
إلى أرسطو ففي كتابه :الفيزياء والسماع الطبيعي، نقرأ: "العلم اليقين إنما يحصل
حينما نعرف الأسباب والمبادئ"، والتي تقوم على: "الانتقال من البسيط نحو
المعقد، ضرورة التحليل والقسمة، الانتقال من الكلي نحو الجزئي..." .
وعلى الرغم
من إسهامه في إرساء قواعد التحليل وتمييزه عن الجبر، فإن اليقين الديكارتي ما هو إلا
اليقين العقلي المنبني على الوضوح والتميز العقليين (البداهة)، كما هو الشأن في يقين
أرسطو.
في الطبيعة:
واعتبر أرسطو
الطبيعة كلها تحولات متتابعة من "المادة" إلى "الصورة" وبالعكس.
ولكن أرسطو لم ير في المادة إلا مبدأ الانفعال، ونسب كل فعل إلى الصورة التي أرجع إليها
بداية الحركة وغايتها. والمصدر الأول لكل حركة هو الله، « المحرك الأول الذي لا يتحرك
». ومع هذا فإن نظرية أرسطو المثالية في "الصورة" هي – في نواح عدة – « أكثر
موضوعية من مثالية أفلاطون، وأبعد منها مدى وأكثر منها يقينا».
ويرتبط المنطق
الصوري عند أرسطو ارتباطا وثيقا بنظرية الوجود ونظرية المعرفة ونظرية الحق، لأن أرسطو
رأى في الأشكال المنطقية أشكالا للوجود في الوقت نفسه. وفي نظرية المعرفة ميز أرسطو
بين اليقين الواضح والمحتمل، الذي يدخل في باب "الظن"، ومع ذلك فهو يربط
بين هذين الشكلين من المعرفة عن طريق اللغة. وليست التجربة عند أرسطو المرحلة الأخيرة
في عملية التحقق من "الظن"، بل إن المصادرات العليا للعلم تتأكد حقيقتها
مباشرة عن طريق العقل لا عن طريق الحواس. ومع ذلك فإن البديهيات العليا المتاحة للمعرفة
عن طريق التأمل ليست كامنة في عقولنا بل تفترض النشاط: جمع الوقائع، توجيه الفكر نحو
الوقائع، الخ. وغاية العلم القصوى هي تعريف الموضوع، وشرط هذا هو الجمع بين الاستنباط،
والاستقراء.ولما كان لا يوجد أي تصور يمكن أن تضاف إليه جميع التصورات الأخرى وبالتالي
لا يمكن تعميم التصورات المختلفة في فئة مشتركة واحدة فإن أرسطو قد بيّن لنا المقولات،
أي الفئات العليا التي تنتسب إليها جميع الفئات الأخرى للأشياء الموجودة وجودا حقيقيا.
وفي الكوزمولوجيا رفض أرسطو نظرية الفيثاغوريين ونادى بمذهب مركزية الأرض للكون، وهو
المذهب الذي استحوذ على جميع العقول حتى أيام كوبرنيك صاحب نظرية مركزية الشمس للكون.
وفي مجال فلسفة الأخلاق اعتبر أرسطو التأمل أعلى صورة للنشاط العقلي. ويرجع هذا إلى
فصل العمل الجسماني الذي يقوم به العبيد، عن وقت الفراغ الذهني، الذي هو امتياز للإنسان
الحر، وهو الفصل الذي كان ميزة للدولة اليونانية القائمة على نظام ملكية العبيد. والمثال
الأعلى للأخلاق كما يراه أرسطو هو الله أكمل الفلاسفة باعتباره عقل يعقل ذاته. وأوضح
أرسطو في نظريته عن المجتمع أن جذور العبودية قائمة في الطبيعة، وأعلى أشكال سلطة الدولة
هي الأشكال التي تحرم الاستخدام الأناني للقوة، وتلك الأشكال التي في ظلها تخدم السلطات
المجتمه ككل.
في الميتافيزيقا:
على حد تعبير
ولتر ستيس فإن أرسطو طور نظريته في الميتافيزيقا من خلال نقده لنظرية أفلاطون في المثل
والتي يجملها فيما يلي:
أفكار أفلاطون
لا تشرح وجود الأشياء، بل يسلم بوجودها ولا يبرهن على هذا الوجود.
لم يشرح أفلاطون
علاقة المثل بالأشياء، فالأشياء هي نسخ من المثل وتشارك فيها. وفي هذا الاطار اعتبر
أرسطو أن أفلاطون لا يقول غير التشبيهات الشعرية.
ربط وجود
الاشياء بالمثل، يتضمن أيضا نوعا من السكونية (الثبات)، فكيف يتحرك ذلك المثل؟ وكيف
تتحرك الاشياء، وهي مرتبطة بالمثل؟ إن الاشياء متغيرة في جوهرها وتتضمن الحركة. ونفي
الحركة عن المثل معناه أن الكون سيكون ثابتا ساكنا لا نتحرك، وهو عكس ما يذهب إليه
أرسطو.
العالم يتكون
من كثرة من الأشياء، ومهمة الفلسفة شرح سبب وجود الاشياء، وأفلاطون يقر بوجود الاشياء
دون أن يفسر سر وجودها والسبب الكامن وراءها.
من المفروض
في المثل أنها لا حسية، لكنها في الحقيقة حسية. لقد أضفى طابعا لا حسيا على أشياء حسية،
وشبه الحصان بالحصان. إن المثل لدى أرسطو ليس سوى موضوعات للحس أي أنها بمثابة
"آلهة مشخصة" في الديانة الشعبية.
المثل مجرد
افتراض لشرح ما هو عام مشترك لعدة أشياء.
نظرية أفلاطون
تفترض المثل على أنه ما هية الأشياء (أصل الوجود)، وهنا يضع أفلاطون المثل خارج الأشياء
ذاتها، فكيف تكون خارج الشيء؟ فماهية الشيء يجب أن تكون فيه لا خارجه. والكلي في نظر
أفلاطون هو الحقيقي والجزئي لا حقيقي. في حين أنه بالنسبة لأرسطو الكلي هو حقيقة الشيء
ولا وجود للكلي دون الجزئي، لأن هذا الأخير متضمن في الأول.
وميز أرسطو
بين العلل الأربعة: العلة المادية، الفاعلة، الغائية، الصورية، كما ميز بين الجواهر
والأعراض...
سابعا: مستقبل
الفلسفة
لما الحديث
عن مستقبل الفلسفة؟ وأية فلسفة؟ المعاصرة، أم اليونانية؟
إذا تعلق
الأمر بمستقبل الفلسفة اليونانية فهل يصح الحديث عن مستقبل الفلسفة اليونانية وقد تحدد
قبل اليوم، وأصبح في عداد الماضي؟ ما دام موضوعنا حول الفلسفة اليونانية فإنه لا يصح
الحديث عن مستقبلها وقد تحدد، اللهم أن اكتفينا بجملة تساؤلات أساسية التي تفتح الموضوع
على تاريخ الفلسفة في مساره بعد اللحظة الإغريقية، وهنا يصبح الحديث أكثر عن الاتجاه،
أي الاتجاه والمسار الذي اتخذته الفلسفة بعد اليونان، ونحن لا نستطيع الجزم إن كان
مسارا مستقلا عنها ويفرض عليها من الخارج كقدر، ويضع السكة الذي ينبغي أن تسير عليه
الفلسفة.
بالنسبة لهيجل
الأمر في غاية الوضوح حسب منطقه الخاص، الذي ينظر منه إلى تاريخ الفلسفة وتاريخ الفكر
والعالم بصفة عامة. إن مسار العقل عند هيجل مسار لا تحدده الفلسفة، ولا هو مسار ذاتي،
بل العقل خاضع لمقتضيات الحضارة في تعارض أحيانا مع "الرغبة والغريزة"، أو
ـ إن صح التعبير ـ مع النزوات الفردية وحتى الجماعية، مما يجعلنا أمام تصور يحكم على
نفسه بالانسداد في أفق ضيق. إن مسار الفلسفة في تاريخها هو مسار العقل ذاته. فليس الشعوب
من يختار مستقبلها، لأن هذا المستقبل يظل تحت سيطرة "الفكرة العقلية / المطلقة".
أما نيتشه
فإن صح الحديث عن مسار الفلسفة أو عن الفلسفة "ما بعد الأصل"، "ما بعد
الينبوع"، "ما بعد البدء العظيم"، فليس ثمة هناك فلسفة. فالأصل لا يعاود
نفسه، لا يوجد نفسه مرة أخرى، وهذا يجعلنا نقبل مع نيتشه فكرة "العود الابدي"،
لأن الأصل هو أصل عظيم، والعقل عقل بلغ اكتماله في لحظة ما، ولحظة اكتماله هي لحظة
نشوئه مع الإغريق. "إن الحضارة الإغريقية هي وحدها القادرة على الرد على مسألة
معرفة مهمة الفيلسوف، إن هكذا حضارة هي وحدها القادرة على أن تمنح الفلسفة بشكل عام
شرعيتها (...) إن هناك قانونا صارما يشد الفيلسوف إلى حضارة أصيلة (...) إن الإغريق
يمنحون وجود الفيلسوف شرعيته، لأنهم الوحيدون الذين لا يكون الفيلسوف في نظرهم مذنبا"[23].
فالحضارة الإغريقية، حضارة تقدر شعبها، وتقدر الفيلسوف لأنه يعرف جيدا ماذا تعني الحضارة
التي تمنح له شرعيته، وعمله عمل من أجل الحضارة وليس من أجل غايات نفعية، فلو كان سقراط
يسعى وراء "النزوة" أو وراء غايات نفعية وشخصية، ما كان لقي حتفه، ولو لزم
الصمت كما لزمه غيره من الأثينيين لما كانت هناك بداية سقراطية.
إن مستقبل
الفلسفة اليونانية حدد في المسار الذي اتخذته الفلسفة ما بعد اليونان، ونحن لا يهمنا
هنا تحليل وتفكيك ذلك المسار لأنه يقتضي عملا خاصا ولربما جهدا خاصا لا يحده غير الضرورة،
ضرورة وضع الأدوات وتحديد الموضوعات، فهو ليس مسارا سهلا ولا تاريخا بسيطا يمكن قراءته
بسهولة تامة، فالحضارة ليست على الدوام دافعا لوجود الفلسفة، فيمكن أن توجد هناك حضارة
راقية ورفيعة جدا ولكنها غير قادرة على أن توجد الفلسفة أو كما قال نيتشه: "لقد
عاش الرومان عصرهم الذهبي بدون فلسفة"، أما اليونان فهم على العكس من ذلك لقد
عاشوا عصرهم الذهبي بصحبة الفلسفة ومع الفلسفة وبها، إن لم نقل أن ما منح لحضارتهم
مجدها هو الفلسفة. وبهذا المعنى يصح اعتبار الفلسفة ما يضع حدا للوحشية، ولتوحش الحضارة.
ومحاولة إقحام الفلسفة ضمن أشكال الحضارة[24]، سيجعل من الفلسفة حبة رمل grain de sableعلى شاطئ ممتد، في حين أن الفلسفة هي حبة رمل تعمل
على أن توقف آلية الهمجية والتوحش الأعمى. ألم يقل سقراط في قوله الأخير: "إنني
لا أشعر بأي حقد خاص على من حكموا علي، ولا على من اتهموني"، وقبله أعلن:
"إنني أعلن أمامكم، أنتم الذين أجروا قضاءهم علي: أن العقاب سينقض عليكم سريعا
بعد موتي. وسيزداد عدد الذين سيهبون في وجوهكم وقد مسكت بهم عن ذلك إلى اليوم. وسيكونون
أشد قسوة عليكم، وأعظم خطرا، كلما كانوا شبابا. فإن حسبتم أنكم بالإعدام تلجمون ما
ينغص حياتكم القذرة، فأنتم مخطئون". إن في قول سقراط الحكمة، وهو يواصل دفاعه:
"لو قضيتم علي بالموت فسيصيبكم من الضرر أكثر مما يصيبني"، ودفاعه هنا تحول
إلى هجوم غير ذاتي، هجوم الحكمة والعقل والعدالة ضد الجرم واللاعدل وضد عقلية العقاب.
وعودة إلى حبة رمل فإني أسوق هنا حكمة أخرى من حكم سقراط: "لأنكم إذا قضيتم علي
بالموت فلن تجدوا بيسر من يماثلني، وإن جاز أن أسوق إليكم هذا التشبيه المضحك، لقلت
إني ضرب من ذباب البقر الخبيث، أنزله الله على الأمة، وهي بمثابة جواد ثقيل الحركة
لابد له في حياته من حافز، وقد أرسلتني الآلهة إلى الأمة لتقويم اعوجاجها... ولا أتعب
البتة من الايقاظ والإقناع والتأنيب... ولكنكم أشبه بنائم أيقظه الذباب تغضبون وتضربونني...
ليعود بعدئذ إلى النوم طيلة حياتكم"[25]. إن الفلسفة حبة رمل تعمل جاهدة على وقف
همجية الحضارة التي لا تستطيع أن تكف عن وحشيتها، وبافتراض عدم وجود الفلسفة، فإن آلة
الحضارة الهمجية لن تعرف الوقوف ولن تقف، بل ستقضي على كل ما تتعطش إلى نهبه حتى تقضي
على وجودها بعد أن ينتهي كل ما تنهشه، وإن جاز مثال ماركس هنا "إن البورجوازية
حفارة قبرها"، نقول: إن الحضارة بدون فلسفة حفارة قبرها. فالفلسفة هي التي توقظ
الشعوب من سباته العميق، كما أيقظ سقراط الأمة اليونانية.
إن مسار الفلسفة
ما بعد اليونان، مسار متعدد ومتشعب، اتخذ طرقا عدة، منها ما أساء للفلسفة ذاتها، وقليل
منها من أنصفها. ولقد تعرضت لتشويهات لا حصر لها وبإسم الفلسفة، فجل الميادين الأخرى
لا تنكر صلتها بالفلسفة، وإن في ذلك اعتراف لها، ففيه أيضا قتل لها ووضع حد لها بما
لا يشبهها وراء السعي إلى التميز، وهنا نتكتفي بالتساؤل: هل مستقبل الفلسفة يوناني؟
وهذا السؤال
يتطلب العودة إلى سؤال الفلسفة، وإلى سؤال اللغة، وسؤال التاريخ، فهل يفترض هذا السؤال
اعتبار ماض الفلسفة غير يوناني؟ إننا نعود إلى التأكيد (مع دولوز وأفلاطون) على أنه
لم يحن بعد وقت طرح السؤال ما الفلسفة؟ ولا سؤال ما مستقبل الفلسفة؟ وأن كل هذا ما
هو إلا تجسيد للحق في السؤال، أما معالجة السؤال ومحاولة الإجابة عنه فتفترض طريقا
لم نحدد بعد طبيعته، وليس من السهل تحديد طبيعته، بل نسعى فقط إلى تملك الأدوات الضرورية
لإنارة الدرب، ولن يكون ذلك إلا بمصباح ديوجين الكلبي.
قائمة المراجع:
1. جون بيير فرنان: "أصول الفكر الإغريقي"،
ترجمة سليم حداد المنشورات الجامعية، للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى
1987.
2. برتراند راسل: "حكمة الغرب"، الجزء الأول،
ترجمة فؤاد زكرياء، عالم المعرفة، العدد 62، 1983. نيتشه: "الفلسفة اليونانية
في العصر المأساوي الإغريقي"
3. ولتر ستيس: "تاريخ الفلسفة اليونانية"،
ترجمة عبد المنعم مجاهد، المنشورات الجامعية للدراسات، الطبعة الثانية 2005.
4. نيتشه: "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"،
ترجمة سهيل القش، المنشورات الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة،
2005.
5. نجيب بلدي: "دروس في الفلسفة اليونانية"،
دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2004، الدار البيضاء.
6. ألفرد إدوارد تايلور: "أرسطو"، ترجمة
عزت قرني، دار الطليعة، الطبعة الاولى 1992.
7.
"الميثولوجيا
اليونانية"، بيار غريمال، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت 1982.
8. إميل برهييه: تاريح الفلسفة. دار الطليغة بيروت،
لبنان.
9. ك،ك، راثفين: "الأسطورة"، منشورات عويدات،
لبنان.
10.
أرسطو:
"الفيزياء أو السماع الطبيعي"، افريقيا الشرق، ترجمة عبد القادر فينيني،
1998.
11.
هيجل،
"محاضرات في تاريخ الفلسفة"، ترجمة خليل احمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات
والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2002.
12.
Heidegger : qu’est-ce que la philosophie ? (questions II).
13. friedirck neitzsche : la philosophie à
l’époque tragique des grecs, œuvres philosophiques complètes, écrits posthumes,
1870-1873.
14. Jean pierre Vernant : les origine de la
pensée grecque, puf,. Paris,
15. la philosophie antique, Jean-Paul Dumont,
que sais-je ? PUF, éditions DELTA, 1996.
فبراير
2009
[1]
- هيجل،
"محاضرات في تاريخ الفلسفة"، ترجمة خليل احمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات
والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2002، ص 192. ويرمي من وراء ذلك إلى أن الفكر يبلغ
مرتبة الوجود حينما تتطور الفكرة المطلقة تطورا عقليا حيث الفكرة المطلقة تكون أولا
في ذاتها وتخرج منها بفضل الصراع إلى الطبيعة، وتعود إلى ذاتها في الروح المطلق.
[2]
- هيجل،
"محاضرات في تاريخ الفلسفة"، ترجمة خليل احمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات
والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2002، ص 226 – 228. المقتطفات التي تليه حول هيجل
من نفس المرجع.
[3]
- Heidegger : qu’est-ce que la philosophie ? (questions II).
[4] -friedirck neitzsche : la philosophie à
l’époque tragique des grecs, œuvres philosophiques complètes, écrits posthumes,
1870-1873. وقد اعتمدنا
هنا أساسا على ترجمة سهيل القش، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة
الثالثة، 2005، بيروت..
[5]
- ولذلك سنعمل
على الوفاء لأفكاره في هذه النقطة، مع تضمينها بعض الملاحظات بين الفينة والأخرى وكلما
اقتضت الضرورة حسب ما توفره لنا المراجع المعتمدة.
[6]
- برتراند راسل:
"حكمة الغرب"، الجزء الأول، ترجمة فؤاد زكرياء، عالم المعرفة، العدد 62،
1983،ص 22.
[7]
- راسل: حكمة
الغرب، ص 22-23.
[8]
- العصور والحقب
التاريخية: المراحل الكبرى لتطور الحضارة اليونانية
* العصر الهلنستي من 300 سنة ق.م
* العصر الكلاسيكي: أزهى العصور في الحضارة اليونانية
وخاصة في عهد حكم بركليس الديمقراطي يمتد من 350 ق.ن إلى 500 ق.م
* العصر الآخي: حيث الطغاة والمستبدين
[9]
- Cnossos ou Knossos Κνωσός / Knôsós
[10] Jean pierre Vernant : les origine de la
pensée grecque, puf,. Paris, واعتمدنا بشكل كبير على ترجمة سليم حداد المنشورات الجامعية، للدراسات والنشر
والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1987.
[11]
- "الميثولوجيا
اليونانية"، بيار غريمال، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات، بيروت 1982. ص 13.
[12]
- تبقى مسألة
هامة، إذا كانت الفلسفة قامت على نقد (حتى لا نقول نقض، وتقويض) التفكير الميثي فما
هو مصير الأسطورة خلال ظهور الفلسفة؟ هل ظلت حاضرة أم أن التفكير الفلسفي استطاع القضاء
عليها؟ ألا يمكن أن نعتبر الفلسفة شأنا تخصصيا وأنها كتفكير غير متاحة للجميع؟ فكيف
استطاع اليوناني البسيط أن يفهم الفلسفة وأن ينفلت من سطوة الأسطورة؟
[13]
- نيتشه:
"الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، ترجمة سهيل القش، المنشورات الجامعية
للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 2005، ص 46.
[14]
- هيجل أيضا
يتعتبر أنه مع طاليس تبدأ الفلسفة اليونانية حيث يقول: "هكذا يتوجب علينا النظر
في ثلاث مراحل من تارخ الفلسفة: اولا الفلسفة اليونانية انطلاقا من طاليس، حوالي سنة
600 ق.م"، ص 214.
[15]
- نفس المرجع،
ص 38.
[16]
- برتراند راسل:
"حكمة الغرب"، الجزء الأول، ترجمة فؤاد زكرياء، عالم المعرفة، العدد 62،
1983، ص 16.
[17]
- نيتشه: مرجع
سابق، ص 54 – 61، بصدد كل أقوال نبيتشه حول هيراقليطس.
[18]
- Arthur Schopenhauer : né le 22 février 1788 à Dantzig en Prusse, mort le 21
septembre 1860 à Francfort-sur-le-Main.
[19] - Métaponte ou Metapontion ou
Metapontum, aujourd'hui Metaponto, port de l’Italie antique, sur le golfe de
Tarente.
[20] - فرانسيس وولف: "سقراط"، ترجمة منصور القاضي،
المؤسسة الجامعية للدراسات والشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 2002.
[21]
- مأخوذ من
موقع الفلسفة التونسي :
http://www.philo.edunet.tn/beja/Dic2/Pages/p3.htm
[22]
- روبير بلانشي:
"المنطق و تاريخه من أرسطو الى راسل"، ترجمة الدكتور خليل احمد خليل، ديوان
المطبوعات، الجامعية الجزائر والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ـ بيروت.
ص 38، ويعتبر هذا الكتاب أساسي للوقوف على منطق أرسطو.
[23]
- نيتشه،
" الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، تعريب الدكتور سهيل القش، المؤسسة
الجامعية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة، 2005.
[24]
- كما فعل ول
ديورانت في "قصة الحضارة".
[25]
- عن كارل ياسبرز:
فلاسفة إنسانيون: سقراط، بوذا كونفشيوس، يسوع"، ترجمة الدكتور عادل العوا، منشورات
عويدات، بيروت، الطبعة الأولى 1975، ص25 – 26.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق