الأحد، 22 يناير 2017

هابرماس والحاجة إلى مجتمع ما بعد العلمانية

يؤمن هابرماس بأن مسار العَلمنة الذي اتخذته أوروبا في العصر الحديث، والذي ترافق بسيرورة التحديث وفلسفة التنوير، هو مسار واعٍ ولا مجال للنقاش حول تداول فكرة التراجع عنه، غير أنه قد انبنى على أسس لم تعد صالحة اليوم أمام التغيرات التي يعيشها العالم، مما يستوجب إعادة النظر في مقومات العلمنة الحديثة، ويأخذ على سبيل المثال: التسامح. ذلك أن المضمون الاجتماعي والسياسي للتسامح لم يعد صالحًا لواقعنا المعاصر، لأن سياق الحروب الدينية التي مزقت أوروبا والغرب عامة، لم تعد شروطها قائمة، بفضل التغيرات الحاصلة في عمق الدين في حد ذاته. لذلك يتوجب إعطاء مضمون جديد للتسامح، يستجيب للمتطلبات المعاصرة. والشيء نفسه يقال عن دور الدين في الحياة السياسية، لأن المبادئ السياسية التي قامت عليها نظرية العدالة المعاصرة، بحاجة إلى الأخذ بعين الاعتبار تلك الشروط السياقية التي تتدخل بوعي في تحديد الاختيارات السياسية الكبرى.

يصرّ هابرماس على أن مجتمع ما بعد العلمانية، هو مرحلة جديدة تقتضيها العودة الراهنة للفعل الديني إلى الفضاء العمومي، حيث يقول: «لا يقر تعبير (ما بعد العلمانية) للجماعات الدينية بالاعتراف العلني بها لمساهمتها الوظيفية في إنتاج الدوافع والتصورات»، وإنما احترامًا لصوتها وتصورها، بحيث يتوجب على هذه الجماعات قبول الدستور العلماني، وقبول التعددية الثقافية وواقع الممارسة السياسية التي فرضتها الليبرالية الدستورية في الدولة الديمقراطية الدستورية. ولأن الدستور باعتباره أسمى القوانين لا يمكنه أن ينتصر لجماعة ضد أخرى، ليضمن بذلك حيادية الدولة اتجاه تصورات العالم السائدة.
إذا كان هابرماس لا يرى أن هذا الشرط أساسيًا ومناسبًا للجماعات الدينية، فإن المواطن العلماني بدوره لا يحق له، «طالما يقدم نفسه في دوره كمواطن، ألا ينكر الصحة الممكنة للتصورات الدينية حول العالم، ولا حرمان المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينية، وطرح مواضيع للمناقشة عمومية. ويمكن للثقافة العلمانية الليبرالية أن تنتظر من المواطن العلماني أن يجتهد من أجل ترجمة الدراسات الدينية المهمة إلى لغة عمومية واضحة بالنسبة للجميع». وما يفيد في هذا السياق، أن مقارعة الحجج في الفضاء العمومي، هي أساس قيام تواصل غير مشوه بين المتدينين وغير المتدينين، لأن معضلة العالم المعاصر هي معضلة التواصل المشوه.
- المنظور المغاير للتسامح الديني
لم يدخل مصطلح التسامح إلى اللغة اللاتينية والفرنسية إلا في القرن السادس عشر، مع اندلاع الحروب الأهلية، وأريد به آنذاك، التسامح بين الديانات (بين الطوائف الدينية المتصارعة). وفي القرن 16 و17، اتخذ التسامح الديني دلالة حقوقية، حين أجبرت الحكومات في أوروبا الموظفين على ضرورة التسامح مع الأقليات الدينية، وتحديدا مع اللوثريين والمسيحيين الفرنسيين والبابويين، حيث وقع هنري الرابع سنة 1598، مرسومًا يدعو فيه إلى احترام الأشخاص الذين ينتمون إلى ديانات مختلفة ويمارسون اعتقادات خاصة بهم، أو الذين ينتمون إلى جماعات دينية مضطهدة. وبشكل واضح، يقول هابرماس: يميز الألمان والإنجليز بين مصطلح Tolerance، الذي يعني الفضيلة أو التصرف السلوكي (la disposition conceptuel) وبين Tolération الذي يفيد الفعل القانوني. ويذهب هابرماس، إلى أن «تعددية رؤى العالم والنضال من أجل التسامح الديني، لا يعززان فقط ولادة الدولة الدستورية الديمقراطية، وإنما يعطيان، اليوم أيضًا، نبضًا تجاه الكمال، حيث قدم أول الأمر تعريفًا لمفهوم التسامح، مناقشًا ماذا يعني الدور الرائد للتسامح الديني من أجل فهم أدق للتعددية الثقافية، ومن أجل التعايش في ظل حقوق متساوية بين أشكال مختلفة للحياة الثقافية، داخل إطار الدولة الديمقراطية نفسها (الدستورية). ويميز هابرماس بين دلالتين لمفهوم التسامح:
دلالة حصرية، أو ضيقة، حيث يفيد التسامح اتجاه الأديان الأخرى، بالمعنى الذي كان سائدًا أيام الحروب الدينية. ودلالة قانونية، ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حيث أصدرت الحكومات مراسيم التسامح التي تجبر بموجبها الدولة موظفيها وكل المواطنين المؤمنين، لأن يكونوا متسامحين تجاه الأقليات الدينية الأخرى، مثل اللوثريين أو البروتستانت الفرنسيين les Huguenots (وهم بروتستانيون أجبروا على مغادرة فرنسا سنة 1685 بسبب الحروب الدينية، ويقدر عدد المغادرين، آنذاك، بنحو 300 ألف)، والبابويين (الذين يسندون إلى البابا السلطة المطلقة) Les Papistes.
لا تقتصر هذه المراسيم على إقرار احترام الأقليات الدينية، بل أيضًا للأفراد المغايرين الذين يمارسون تعبدات دينية أخرى. ولهذا يؤكد أن الأصل السياسي لكلمة التسامح، باعتبارها نوعًا من «الفضيلة السياسية»، يسمح بمعاملة المواطنين لغيرهم ممن يخالفونهم في التعبد معاملة حسنة. ويعود هذا المعنى السامي للتسامح إلى مكيافيلي، وكل الفلاسفة الذي شددوا على الحق في التعبير عن الانتماء الديني، ولو كان مخالفًا: لوك، وسبينوزا وغيرهما.
يشدد هابرماس على ضرورة إقرار البينذاتية (علاقة التفاعل بين ذاتين) في العلاقات الاجتماعية، وهو الأمر الذي جعله ينظر إلى التسامح كفضيلة سياسية، أي كتسامح من نوع آخر. ويقصد بالأساس، تسامح العلمانيين من المؤمنين، مما يجعله يتجاوز منطق النظرة الأحادية. فإذا كان التسامح الديني في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، يشدد على ضرورة احترام المتدينين والمؤمنين لعقائد وأفكار العلمانيين وغير المؤمنين، فإننا بأمس الحاجة اليوم إلى تسامح معكوس؛ أي تسامح العلمانيين وغير المؤمنين مع المؤمنين، في مجال التعبير عن القناعات الدينية في الفضاء العمومي، شريطة استبعاد الجماعات الدينية والكنائس والمؤمنين للعنف، والكف عن شحن الأنصار والأتباع والمريدين وشحنهم بشعارات التطرف، على الرغم من أن الشرط السياسي الأخير، الذي يفرض على الجماعات الدينية حصر دعواتها في المجال الديني الفردي، والكف عن توجيه اهتمام أتباعها نحو الفعل السياسي الذي يمكن أن يلعب دورًا نقديًا وممانعًا، يطرح جملة إشكالات، منها أساسًا: ألا يعتبر هذا الموقف نكوصيًا بالمقارنة مع الوظيفة النقدية التي يلعبها الفضاء العمومي اتجاه السلطة السياسية وأجهزة الدولة؟ هل يعبر هذا الموقف عن تنازل هابرماس عن مبادئ المدرسة النقدية؟ ألا يخرج هابرماس بموجب هذا الموقف عن الفلسفة الاجتماعية؟
يفهم شرط هابرماس هذا في ضوء قناعته الأساسية، المتمثلة في أن عملية العلمنة ستبقى مستمرة ومتواصلة حتى في مجتمع ما بعد العلمانية؛ مما يعني أن مجتمع ما بعد العلمانية، هو بالضرورة، مجتمع علماني، وبذلك يقطع الطريق أمام ما يمكن أن نسميه بـ«مجتمعات ما قبل العلمانية» لتشخيص وضعنا الراهن في المجتمعات الشرقية. لذلك فالمؤمن والجماعة الدينية، ككل، يستمر وجودها في مجتمع تؤطره قواعد العلمانية، وهو ما يتفق فيه بالجملة مع جون راولز في اشتراطه أن يكون ذوو المناصب العليا في تدبير الدولة الدستورية أشخاصًا علمانيين بالمطلق، وذلك لضمان سير ما يسمونه معًا «حيادية الدولة».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق