الخميس، 26 يناير 2017

المشروع النقدي لابن رشد

نفتتح القول في هذا الباب ونذكر بمجمل القضايا التي جعلتنا نخصص للمسألة النقدية بابا خاصا. فلما كان افتراضنا قائما على أن ابن رشد اتبع استراتيجية نقدية يتوجه من خلالها إلى نقد التأويلات الخاطئة التي أدخلت على فلسفة المعلم الأول أشياء كثيرة لا تتصل بها ولا عبر عنها المتن الأرسطي. صار من اللازم علينا منهجيا بيان ذلك الأمر. فالنقد لدى ابن رشد ـ في اعتقادنا ـ استعمل كسلاح للهدم والبناء في نفس الوقت. استعمل كأداة لهدم الآراء الخاطئة التي تعج بها "فلسفة المشائين المسلمين المتأخرين"، وبيان نقط التقائهم مع علم الكلام، وفضح خلطهم للفلسفة بالكلام. ومن ثمة العمل على تنقيح ما اعتور فلسفة أرسطو من تحريفات وما علق بها من شوائب. ولهدم التأثير الأفلوطيني الجلي في فلسفة المشائين العرب، والذي تلمس فيه ابن رشد خلطا بين فلسفة الحكيم وفلسفة أستاذه أفلاطون. ومن نتائج ذلك التأثير القول بنظرية الفيض، وإضفاء الطابع الإطلاقي على مفهوم الواحد الذي يتدخل في كل شيء ولا يترك للسببية الطبيعية مجالا. نابذا دور الفيزيقا، وجاعلا إياها مجرد عالم قائم بإرادة المحرك الأول، ولا مكان فيه للتكون الذاتي. وقد عمل على ذلك من أجل تخليص فلسفة أرسطو من الأفكار الأفلوطينية التي ظلت عالقة بها. مما جعل الغزالي وأمثاله ينسبون للفلاسفة ولأرسطو تحديدا ما لم يتفوه به يوما ولا أخذ به مأخذا.

ولما كان بعض الدارسين قد خصصوا للمسألة النقدية عند ابن رشد بحوثا ودراسات مفصلة، فإننا لا نزعم أننا سوف نضيف شيئا جديدا. ولكننا نستبعد القول أن نقدية ابن رشد هي بمنزلة النقدية الكانطية، كما لا تذهب إلى حد إقامة التطابق بين ابن رشد وكانط بخصوص مسالة النقد، وإلا جعلنا من أبي الوليد كانطي سابق لزمانه. ونحن نشير إلى هذه المسألة حتى لا يفهم أن مسألة العلاقة بين العلم الطبيعي والميتافيزيقا قد طرحت خارج سياقها التاريخي.
سنركز في هذا الباب على قضيتين حاول من خلالها ابن رشد أن يؤسس لموقف جديد لم يكن سائدا في زمانه. إما إنصافا للمعلم الأول وانتصارا له، لتجاوز مواقف ابن سينا والفارابي وعلماء الكلام. وإما انتصارا لنزعته العقلانية لبناء موقف منسجم مع مقتضيات العقل والبرهان ومع متطلبات العصر. وتمثل هذه القضايا في نظرنا عصب المسألة النقدية. وإن كان أننا أغفلنا العديد من المسائل التي خصها ابن رشد بالنقد، لأن الإحاطة بكل القضايا التي تجسد الروح النقدية الرشدية ليس هذا مقامه.  وتتعلق الأولى بنظرية المثل الأفلاطونية، والتي سنركز فيها على مسألة الماهية والوجود ومسألة الجوهر والواحد والمحرك الأول حيث سنربط هذا النقد مع موضوعنا: العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة. أما القضية الثانية فهي الأهم في نظرنا بشكل كبير بالنظر إلى مكانتها في صياغة المحاججة ضد السينوية، وتتعلق بنقد ابن رشد لا بن سينا، والتي سنركز فيها على العديد من المسائل الفرعية: أولها تصور ابن سينا للعلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة، ثم التأثير الأفلوطيني والكلامي المتجسد في فلسفة الشيخ الرئيس. وأخيرا العلاقة بين الماهية والوجود باعتبارها قوام الفلسفة السينوية.
أولا: نقد ابن رشد لنظرية المثل
استأثر نقد ابن رشد لنظرية المثل باهتمام الباحثين، بالنظر إلى أهمية هذا النقد الذي يتوجه من خلاله لا إلى الفلسفة اليونانية، وإنما إلى علم الكلام، وإلى بعض الفلاسفة الذين اختلط لديهم أرسطو بأفلاطون. فلو كان الأمر يتعلق بالفلسفة اليونانية لاكتفى أبو الوليد بعرض أراء المعلم الأول، فهي أولى بالصدق وبالحقيقة من أقواله هو، هذا ناهيك عن أنه قد أدرك بطريقة أو بأخرى الآثار الأفلاطونية في مذهب الحكيم، وهذا بارز في سكوته عن بعض القضايا التي كانت مدار خلاف بين المشائين، وأحيانا أخرى نجده غير مبال باتخاذ موقف من القضايا التي أدرك أن المعلم الأول قد وقع فيها تحت تأثير معلمه أفلاطون. لهذا فإننا سنركز هنا على الاعتراضات التي قدمها ابن رشد على نظرية المثل، و على القضايا الخلافية التي أثارها علماء الكلام المسلمين، وبشكل خاص على مسألة العلاقة بين الماهية والوجود أولا (مجال الأنطولوجيا)، وعلى مسألة الجوهر والواحد والمحرك الأول ثانيا (مجال العلم الإلهي أو الثيولوجيا).
1 - الماهية والوجود:
أولى القضايا تلك التي تتعلق بالعلاقة بين الماهية والوجود، والتي يرى أنها علاقة اتصال. حيث أقر استحالة انفصال الماهية عن الموجودات. وهذا على خلاف الرأي الأفلاطوني الذي يزعم أن ماهية الموجودات توجد خارجة عنها ومنفصلة، أي متعالية. ومن أهم الأدلة التي يسوقها ابن رشد نذكر ثلاثة رئيسة:
أ - فصل الماهية عن الشيء، سيجعل منها شيئا قائما بذاته، في حين أن الماهية لا تقوم بغير الشيء. وبهذا تكون العلاقة بين الماهية والموجودات كعلاقة بين المادة والصورة، فالصورة لا وجود إلا في مادة، في حين أن المادة لا توجد بالفعل إلا بفضل الصورة. فإذا صارت الماهية شيئا فينبغي البحث لها عن ماهية، وهكذا دواليك، سنكون أمام زيادة لا متناهية.
ب - مفارقة الماهية للشيء يحول دون معرفة ذلك الشيء، لأن معرفة الشيء تتم بفضل ماهيته. وهذا يعارض انفصال الماهية عن الشيء.
ج - المثل لا يمكن أن تكون أسبابا وعلل مادية ولا فاعلة بالنسبة للجوهر أو للأعراض، لأن الكون يكون إما عن الطبيعة أو الاتفاق أو الصناعة، ووجود الأشياء هو وجود واحد سواء خارج النفس أو داخلها. وكل الأشياء تكون من مادة وبفعل فاعل[1].
إذا كانت المادة هي أصل التكون، فإن المثل لا يمكنها أن تغير المادة ولا أن تتدخل فيها وأن تقوم مقام الصورة، فالاتحاد كما سلف الذكر بين المادة والصورة هنا ضروري لبيان أصل الكون. فالإنسان لدى ابن رشد يتكون من الإنسان، وهذا ما يمكن أن ننعته بالدليل البيولوجي أو نظرية التكون الذاتي[2]. وبصدد هذه المسألة يقول الدكتور محمد المصباحي: "عملية الخلق البشري، ذات طبيعة بيولوجية في صميمها، أي أنها تتم بقوى وأعضاء وآليات معلومة في الكائن الحي يمكن وصفها والبرهنة عليها تجريبيا وعقليا. وبذلك يكون ابن رشد قد ابتعد، في ذات الوقت، عن التفسير الأفلاطوني، والتفسير السينيوي، والتفسير الكلامي، وتفسير أهل الكمون لعملية التولد البشري"[3].
وفي ارتباط مع نقد أفلاطون يذهب ابن رشد إلى أن مسألة التكون هي دليل على ارتباط الكلي بالجزئي، بل أكثر من ذلك دليل على أن الكليات ليس متقدمة على الجزئيات، بل إن السبيل لمعرفة الكليات هو الجزئيات، حيث يقول: "الكليات أمور غير موجودة خارج النفس، وغنما هي أمور تجتمع في الذهن من الجزئيات (...) وينبغي أن يكون معروفا لنا عند هذا النظر الذي نحن بسبيله أن هذه الأسباب لنا أن نقولها مع مسبباته على طريق الكلية ولنا أن نقولها على طريق الجزئية. مثال ذلك أن لنا أن نقول أن دم الطمث هو هيولى للإنسان وأن الإنسان هو مولد للإنسان. ولنا أن نقول أن زيدا هو مولد عمرا الذي هو ابنه وأن دم الطمث الذي لهذه المرأة هو هيولى هذا الشخص المشار إليه"[4]. فالكلي هنا لا يقال بمعزل عن الجزئي، ولا يقال الجزئي بمعزل عن الكلي. وهذا كله لبيان أن الجوهر ليس من الكليات. إذا فهمت الكليات بمعناها الأفلاطوني الذي يجعلها منعزلة عن أي العالم الطبيعي، منكرا بذلك أي صلة بين الجزئيات الحسية والكليات المجردة. وهو الأمر الذي من أجله ذهب ابن رشد إلى نقد نظرية المثل.
قلنا إنه لم يكن غرض ابن رشد من نقده لنظرية المثل، الرد على أفلاطون وبيان خطئه إنصافا للمعلم الأول، وإنما الرد على القائلين بنظرية "واهب الصور"، حيث وجه انتقادات لاذعة للفارابي ولابن سينا فيما يتصل بمفهوم العقل الفعال أو العقل المبدع الذي يعتبرانه لا يتدخل في عملية النشوء والتكون. وفي هذا يقول: "فتوهم اختراع الصور هو الذي صير من صير إلى القول بالصور، وإلى القول بواهب الصور، وإفراط هذا التوهم هو الذي صير المتكلمين من أهل الملل الثلاث الموجودة اليوم، على القول بأنه يمكن أن يحدث شيء من لا شيء، وذلك أنه إن جاز الاختراع على الصورة، جاز الاختراع على الكل"[5]. نفهم من هذا الكلام أن ابن رشد اتجه نحو نقد أراء الفارابي وابن سينا من جهة، ونقد أراء المتكلمين من جهة أخرى، إلى بيان الخلفية التي كانت وراء "فلسفة الجمع بين الحكيمين"، ومدى تأثير الفارابي وابن سينا بنظرية الإبداع الكلامية. في محاولة إلى ضم الكلام إلى الفلسفة، وهو الأمر الذي يرفضه صاحبنا منذ بداية مشروعه الفلسفي، أي أن تخليص الفكر الفلسفي من بقايا علم الكلام كانت المهمة الأولى التي كرس لها ابن رشد حياته الفلسفية، هذا إن لم نقل إنها أساس فلسفته النقدية. 
يسوق أرسطو دليلا آخر في نقده لنظرية المثل، ويتعلق بدليل الحركة، وهو الأمر الذي نلفيه أيضا لدى ابن رشد، فجوهر الأجسام الطبيعية وكل الجواهر المحسوسة بنوعيها: السرمدية وغير السرمدية. فالحركة في نظره لا توجد منفصلة عن الأجسام المحسوسة بل هي جوهرها، بل إن ماهية المحرك الذي لا يتحرك تتأصل بدليل الحركة، وما يعنيه ذلك من أن الجواهر المفارقة بدورها تعود في نهاية المطاف إلى المحسوسة، فما دام الموجود يوجد في حركة فإنه يمكن أن يتحول إلى غير ما هو عليه أي أن الموجود لا يكون ما هو تماما وهذا شبيه بالعلاقة التي يسوقها أرسطو في هذا المستوى من النقد بين الجزئي والكلي. ولكن يتوجب التمييز هنا بين نوعين من الموجودات:
- الموجودات البسيطة
- الموجودات المركبة
ففي النوع الأول نكون إزاء موجودات يتطابق وجودها مع ماهيتها، في حين أننا في النوع الثاني (سواء كانت مركبة من جواهر وأعراض، أو من مادة وصورة) إزاء موجودات يكون وجودها منفصلا عن ماهيتها.
2 - الجوهر والواحد والمحرك الأول:
وثاني القضايا التي يسوقها ابن رشد في سبيل دحضه لنظرية المثل أو الفيض تتعلق ب: قضية الجوهر والواحد والمحرك الأول:
يرى ابن رشد أن غاية الجوهر هو البحث عن الواحد، أي الوصول إلى الجوهر المفارق المالك لمعقوليته الذاتية والكافية لنفسها بنفسها، حيث يقول في مقالة الياء: "ثم قال، ولكن كمثل ما في الألوان يطلب لون واحد بعينه كذلك في الجوهر أيضا يطلب جوهر واحد هو الواحد بعينه، يريد، الذي هو مبدأ وجود الجواهر ومبدأ عددها الموجود في الجوهر وإنما قصد بهذا أنه إذا أضيف إلى هذا ما تبين في السماع من ها هنا محركا أول أزليا بريا من كل مادة، ويبين مما بعد أن هذا ليس هو مبدأ أعلى أنه محرك فقط بل وعلى أنه صورة وعلى أنه غاية تبين أنه هو هو الواحد بعينه الذي تبين ها هنا أنه مبدأ للجوهر كما تبين أنه الفعل الآخر الذي لا يشوبه قوة أصلا"[6]. وهنا نلاحظ تأثير ابن رشد بمنطق المقولات، أو ما أسميناه في هذا البحث بالجوهر المنطقي، حيث الجواهر الثواني تابعة لجوهر واحد بعينه، هو هو الواحد، الذي لا بعده جوهر، ولا يمكن أن يعود في وجوده إلى جوهر غيره. أي أن الغرض من توظيف منطق المقولات فيما بعد الطبيعة يتجه دوما في خدمة النسق الفلسفي الأرسطي، الذي ينتظم في وحدة منسجمة ومتناسقة.
يذهب الدكتور محمد المصباحي إلى أن نظرية ابن رشد في المبدأ الأول وعلاقته بالمبادئ المفارقة هي أكثر نظرياته غموضا[7]، متتبعا سيرة تطور الفكر الرشدي في إشكالية المبدأ الأول والمحرك الأول في علاقته بالعالم، ويرى أن فكر ابن رشد بصدد هذه العلاقة مر بثلاثة مراحل: حيث كان في المرحلة الأولى متأثرا بنظرية الفيض السينوية. أما المرحلة الثانية فهي مرحلة مواجهة الغزالي والتي تخلى فيها عن بعض مبادئ نظرية الفيض نظرا لتأثره بدعاة القول بالإبداع والخلق. واعتبر أن المرحلة الثالثة هي مرحلة النضج حيث دافع صراحة عن نظرية أرسطو في الربط بين المحرك الأول والعالم عن طريق الحركة.
يرفض ابن رشد نظرية الفيض لصالح فلسفة أرسطية خالصة من الشوائب لذلك فلا حاجة للوسيط بين الله والعالم وبالتالي لا حاجة لوجود مبدأين: المحرك الأول والمبدأ الأول لأن افتراض وجودهما معا مناقض لقانون الحركة، وبالتالي سيكون أحدهما (المبدأ الأول) عاطلا، لأن الحركة ستنسب للآخر (المحرك الأول). ووجود العطالة عن الفعل هو ما تأباه الطبيعة، وسيقود هذا إلى نكران وجود جوهر أول هو أقدم من محرك الكل (المحرك الأول) حيث يقول ابن رشد: "وأما ما قاله المتأخرون من أن ها هنا جوهر أول هو أقدم من محرك الكل فهو قول باطل، وذلك أن كل جوهر من هذه الجواهر هو مبدأ الجوهر المحسوس، على أنه محرك وعلى أنه غاية، ولذلك ما يقول أرسطو أنه لو كانت ها هنا جواهر لا تحرك لكان فعلها باطلا"[8].
يستعمل ابن رشد المبدأ الأول وكأنه المحرك الأول حيث يقول في شرح البرهان: "لا سبيل إلى تبيين وجود المحرك الأول إلا بدليل في هذا العلم أعني العلم الطبيعي، لا على ما ظنه ابن سينا. وقد وضعنا مقالة في تبيين فساد الطريق الكلي الذي ظن ابن سينا أنه به يمكن صاحب العلم الإلهي أن يثبت وجود المبدأ الأول"[9]. وبهذا نصل إلى الغاية التي من أجلها عالجنا مسألة الرد على نظرية المثل والفيض، والتي لا تخرج عن غرض هذا البحث وهي إثبات الصلة القائمة بين الطبيعة وما بعد الطبيعة، أي بين عالم المبادئ (العلم الطبيعي)، وعالم المعقولات (علم الموجود بما هو موجود)، وما لعالم المحمولات (علم المنطق) من دور في ذلك الاتصال الظاهر من جميع الوجوه. وعن هذا الربط يعلق المصباحي ويقول: "يتأكد بأن البرهان من وراء الدفاع عن وحدة المحرك الأول بالمبدأ الأول هو ربط مصير علم ما بعد الطبيعة بالعلم الطبيعي، لا بالنظرية العامة للوجود التي تعود بأصلها إلى المنطق، كما فعلت نظرية الفيض مع الفارابي وخاصة مع ابن سينا"[10]. بل إن الأمر يتجاوز مسألة البرهان، ذلك أن نظرية الاتصال بحاجة إلى صياغة لمختلف تمظهراتها الوجودية، لبناء رؤية للعالم تتسم بالنسقية وبالترابط والانسجام بين كافة عناصرها. وهذا خير ما ورثه ابن رشد من أرسطو. ولو هذا الترابط في فلسفة ابن رشد لما كان إسهامه قادر على الخروج من شرنقة التفكير السائد. والذي ينسجم والمصالح الإيديولوجية للطبقات الحاكمة. لقد كان اختياره اختيارا صارما لا يشوبه أي لبس ولا يكتنفه الغموض البتة. ولكن مع ذلك تبقى العديد من التساؤلات عالقة حول صلة ابن رشد بنظار زمانه، ومدى التأثير الملحوظ في فلسفته: منها صلته بابن تومرت على مستوى صياغة القول الفقهي ضد المعتزلة من جهة والأشاعرة من جهة أخرى. وصلته بابن باجة وابن طفيل فيما يخص الطبيعيات. وصلته بابن سينا والفارابي على مستوى المنطق والإلهيات... قلنا تبقى هذه الصلات المحتملة والقائمة بين ابن رشد والفلاسفة الأخرين بحاجة إلى العناية الفائقة. ولقد أشرنا إلى وجود ملامح سينوية مثلا في فلسفة ابن رشد في الفصل السادس، ولكن المقام لا يسمح بتتبع خيوط ذلك التاثير. وسنكتفي بمعالجة البعض منها والذي له علاقة مباشرة بموضوعنا.





ثانيا: النقد الرشدي للإسكندر ولابن سينا[11]
"وأما ابن سينا فلما اعتقد صحة القول بأن كل علم لا يبرهن مبادئه وأخذ ذلك بإطلاق. اعتقد
أن مبادئ الجوهر المحسوس، سواء كان أزليا، أو غير أزلي، صاحب الفلسفة الأولى، هو الذي
يتكفل بيان وجودها. فقال إن صاحب العلم الطبيعي يضع وضعا أن الطبيعة موجودة، وأن
 صاحب العلم الإلهي هو الذي يبرهن وجودها ولم يفرق بين الجوهرين في ذلك"
التفسير ص 1423، 1424..
يؤسس ابن رشد أطروحته المركزية بصدد العلاقة بين "الطبيعة" و"ما بعد الطبيعة"، على نقده اللاذع لكبار الشراح المعروفين في تاريخ الأرسطية العربية واللاتينية. حيث وضع الخطوط العريضة لنقده بالوقوف على الدلائل البرهانية التي يحاجج بها على رأيه المؤسس على القول الأرسطي؛ في مقابل الحجج الجدلية والخطابية و السوفسطائية التي تميز القول السينوي وقول الإسكندر، وقول ثامسطيوس[12]... لذا نتساءل: ما الذي دعا ابن رشد إلى خوض هذا النقد؟
لقد أعلن فيلسوف قرطبة ما من مرة أنه بصدد مشروع يروم التقاط الأقاويل العلمية من مقالات أرسطو وتمييزها عن الأقاويل الجدلية والسفسطائية. فالشروح التي توارثها عن المدرسة المشائية في صيغتها العربية أو اللاتينية مشوبة بركام من التحريفات والتشويهات التي تتعارض مع النص الأرسطي. أي أن عمله يصب أولا في اتجاه تصحيح وتنقيح النص الأرسطي، إلا أن هذه العملية غير ممكنة في نظرنا إلا بمعاندة بعض "الأقاويل" التي تدعي انتمائها إلى فلسفة أرسطو في حين أنها ليست كذلك ولا تمت صلة بالمعلم الأول. بل هي بعيد عنه كل البعد، وهذا هو حال الإسكندر وابن سينا تحديد بصدد المسألة التي نعالجها ها هنا. فلنكشف إذن عن جوهر هذا النقد.
قبل الحديث عن مستويات النقد الرشدي للأقاويل السينوية ولأقاويل الإسكندر، لا بأس أن نشير إلى أن النصوص التي يمكن العودة إليها بخصوص الإسكندر غير متوفرة بالمرة، ولم نستطع العثور إلا على شذرات منها هنا وهناك[13]، ولما تبين لنا أنها غير كافية ولا تتصل كلها بموضوعنا، فإننا نؤجل الحديث عن نقده للإسكندر وسنكتفي بالإدلاء بوجهة نظر ابن رشد وحده دون العودة إلى نصوص الإسكندر، وفي نفس الوقت أولينا العناية الكاملة لابن سينا لأن نصوصه متوفرة إلى حد ما.
1 - نقد ابن رشد للاسكندر[14]:
أشرنا سلفا إلى أن البحث في هذا النقد تعتريه العديد من العيوب فهو لا يتأسس على أقوال ونصوص الإسكندر بقدر ما يتأسس على ما جاء به ابن رشد لوحده. وبمقتضى هذا أمكننا القول أنه فحص أحادي الجهة، ولسنا نروم بهذا القول التشكيك في مصداقية ابن رشد أو في صدق ما يقول أبدا ما كانت هذه غاياتنا ولا حق لنا في إعطاء الصدقية لأقواله من عدمها، ولكن قواعد البحث العلمي تشترط النظر إلى المصدر والبحث في النصوص كآلية لمقابلة الرأيين.
يقول ابن رشد: "قال (يقصد الإسكندر) وذلك أن البرهان على مبادئ الموجودات، إنما هي، إنما هو[15] من حق الفيلسوف الأول. وأن هذه هي التي يستعملها الطبيعي من حيث لا يبينهما لكن يضعها وضعا، وذلك أن الجوهر الغير المتحرك هو مبدأ وعلة الأشياء الطبيعية، وهذا هو الذي يتكلم الآن فيه على القصد الأول. وأما تلك المبادئ الأخرى فللعلم الطبيعي فقط أي أن يبين أيما هي"[16]. فهذا هو جوهر رأي الإسكندر كما عبر عنه ابن رشد والذي يرى فيه رأيا باطلا على حد تعبيره: "فهذا ما يقوله الإسكندر في هذا الوضع وفيه نظر وذلك أن قوله أن البرهان على مبادئ الموجودات إنما هو من علم الفيلسوف الأول لا من علم صاحب العلم الطبيعي وأن الطبيعي يضع هذه وضعا إذ كان الجوهر الذي هو غير متحرك هو مبدأ وعلة الأشياء الطبيعية...فكيف يقال أن صاحب العلم الطبيعي يضعه وضعا ووجوده لا يمكن بيانه إلا في العلم الطبيعي؟... فهذا القول على هذا التأويل قول باطل"[17]. فالجوهر المفارق (غير المتحرك) الذي هو موضوع الميتافيزيقا وفق ما جاء أعلاه هو علة الأشياء الطبيعية. وينسى الإسكندر أن الجوهر المفارق إنما يبرهن عليه العلم الطبيعي وفق ما جاء في الثامنة من "السماع الطبيعي"، ولكن برهانه ها هنا في التأويل الرشدي هو برهان وجود ولا يرقى إلى مستوى البرهان المطلق الذي هو برهان الفلسفة الأولى باعتبارها الحكمة بإطلاق والعلم الأتم. فلنلاحظ أن مؤاخذات ابن رشد على قول الإسكندر وموقفه هذا هي نفسها المؤاخذات التي يسجلها على ابن سينا إلا أن نقده لهذا الأخير سيتسع كما سنرى ذلك ليشمل مختلف الحقول المعرفية، وليمتد إلى مبادئ تتجاوز العلاقة بين العلم الطبيعي والفلسفة الأولى.
هكذا يعلن ابن رشد بطلان زعم الإسكندر، بصدد أحقية الفلسفة الأولى في بيان الجوهر المفارق متجها صوب التشديد على دور العلم الطبيعي. وهو نفس الموقف الذي يسجله على ابن سينا. حيث يقول: " وأما ابن سينا فلما اعتقد صحة القول بأن كل علم لا يبرهن مبادئه أخد ذلك بإطلاق اعتقد أن مبادئ الجوهر المحسوس سواء كان أزليا أو غير أزلي صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكلف بيان وجوده فقال أن صاحب العلم الطبيعي يضع وضعا أن الطبيعة موجودة أن صاحب العلم الإلاهي هو الذي يبرهن وجوده ولم يفرق بين الجوهرين في ذلك كما وقع هاهنا في هذا الكلام بحسب ظاهره"[18]. فابن سينا لا يفرق ـ في نظر ابن رشد ـ بين الجوهرين، أعني الجوهر المحسوس الأزلي والجوهر المحسوس الغير الأزلي. فالجوهر في نظره ثلاثة أنواع وليس نوعان: جوهر محسوس سرمدي، وجوهر محسوس غير سرمدي، ثم جوهر مفارق. فالجوهران الأولان طبيعيان بينما الثالث هو جوهر ميتافيزيقي هو الذي يتكفل به علم ما بعد الطبيعة ويبينه ببرهان مطلق. أي أن صاحب الفلسفة الأولى (الفيلسوف) يتكلف ببيان الجوهر ومبادئه على نحو مطلق في حين أن صاحب العلم الطبيعي (الفيزيائي) يتكفل ببيان الجوهر المحسوس ببرهان الدلائل (برهان وجود وسبب). ف" ليس لصاحب الصناعة السفلى أن ينظر في أوائل جنسه على طريق البرهان المطلق وإما على طريق المسير من المتأخرات إلى المتقدمات وهي التي تسمى الدلائل"[19]. ينفي ابن رشد أحقية الفلسفة الأولى في بيان مبادئ العلم الطبيعي، لأن العلم الطبيعي يأخذ من الفيلسوف كل ما يتعلق بمبادئ علمه.
لذا ينبغي في نظر ابن رشد التمييز بين كون العلميين يشتركان في الاهتمام بالجوهر ويختلفان في جهة النظر، وهو ما سماه في شرح البرهان بالاشتراك في الموضوع والاختلاف في جهات النظر، وهي نفس الفكرة التي عبر عنها في مقالة اللام حيث يقول: "(...) ينبغي أن يفهم اشتراك هذين العلمين أعني الطبيعي والإلاهي في النظر في مبادئ الجوهر، أعني أن العلم الطبيعي يبين وجودها من حيث هي مبادئ جوهر متحرك وصاحب هذا العلم ينظر فيها بما هي مبادئ الجوهر بما هو جوهر لا جوهر متحرك"[20]. ويضيف " إن صاحب العلم الطبيعي هو الذي ينظر في الجوهر المتحرك ونظره فيه هو بأن يطلب مبادئه وذلك بأن يصير من الأمور المتأخرة إلى الأمور المتقدمة كما تبين في العلم الطبيعي "[21]. ومعنى هذا أن صاحب العلم الطبيعي ينظر في الجوهر المتحرك ويبحث عن مبادئه منطلقا من المقدمات التي يضعها علم ما بعد الطبيعية الذي ينظر في الجوهر غير المتحرك.
والقول أن ما بعد الطبيعة يضع مبادئ العلوم الجزئية الأخرى (الطبيعي منها أساسا) لا يتعارض مع القول أن للعلم الطبيعي ( كما العلوم الجزئية الأخرى ) الحق في بيان مبادئه. فالنظر الطبيعي " إنما هو في الجواهر التي في الحركة من حيث يأخذ مبادئه هذه من الفلسفة الأولى وأما الجوهر الغير المتحرك فالكلام فيه خاص بالفلسفة الأولى"[22]. وهذا هو شأن ما يراه الإسكندر وهو غير صحيح بلغة ابن رشد لأن " صاحب العلم الطبيعي هو الذي ينظر في الجوهر المتحرك ونظره فيه هو بأن يطلب مبادئه وذلك بأن يصير من الأمور المتأخرة إلى الأمور المتقدمة كما تبين في العلم الطبيعي"[23].
إلا أن الموقف المعلن ها هنا لا ينبغي أن يفهم من جهة ما هو قول يلغي الاختلاف بين العلمين: الطبيعي والإلهي. بل إن لحظة اشتراك العلمين في الموضوع لا يعني اشتراكهم على مستوى المنهج، فعلم "جهات النظر" يقضي بأن مقدمات العلم الكلي شيء ومقدمات العلم الجزئي شيء آخر. ولقد رأينا أعلاه أن ابن رشد يقر بعلاقتين مختلفتين من هذه المسألة: علاقة معرفية ـ إبستيمية صاعدة من العلم الأدنى إلى العلم الأعلى، وعلاقة أنطولوجية نازلة من العلم الأعلى إلى العلم الأدنى.
إذا كان هكذا الأمر بالنسبة لنقد الإسكندر الذي لا يختلف من حيث الطبيعة كما رأينا مع موقف ابن سينا، فإن هذا الأخير يسترعي انتباهنا أكثر فلنرى كيف يؤسس ابن رشد هذا الموقف؟ وعلى أي أساس يقوم نقده لابن سينا؟
2 - نقد ابن رشد لابن سينا:
"الكلام في الهيولى الأولى هو من علم الطبيعي بخلاف ما ظن ابن سينا".
 التفسير ص 1442.
       يشكل النقد أهم الآليات التي تؤسس لفلسفة ابن رشد، وتميزها عن غيرها. ولقد سبقت الإشارة إلى أن استراتيجية النقد الرشدي أبعد من أن تكون مجرد دفاع عن فلسفة المعلم الأول، بل تروم أهدافا غير معلنة وغير مصرح بها. وهذا ما قلناه أيضا اتجاه الغزالي فاختيار ابن رشد للممثل الرسمي للدولة آنذاك ما كان بريئا. وهجومه على هذا الممثل قد كلفه ابن رشد الكثير، وما نكبته إلا دليل على مكانة الصراع الذي خاضه[24].
تمتد آلية النقد لتشمل معظم الشراح الذين استعان بهم ابن رشد في اشتغاله على المتن الأرسطي. بل امتدت سهامه إلى المتكلمين والفقهاء وكل ممثلي الإيديولوجية الرسمية آنذاك، إلا أن نصيب الشيخ الرئيس من هذا كان في اعتقادنا الأكبر بالنظر إلى حجم ما خصصه له من مقالات نقدية تشمل مختلف المجالات التي شغلها ابن سينا: المنطق، العلم الطبيعي، الميتافيزيقا...
ينحي قاضي قرطبة اللائمة على ابن سينا لكونه سلك مسلك المتكلمين وتبنى مسائلهم في العديد من الأمور، وأتى بتأويلات وآراء ليست من الفلسفة في شيء، فأساء بذلك للحكمة والشريعة معا كما فعل الغزالي. وقد خصه بنقد لاذع في "تهافت التهافت"، حيث واجه أطروحات الشيخ الرئيس في الإلهيات. وناقشه أيضا مناقشة فلسفية دقيقة، مبينا مواطن الضعف فيها، غير متردد في إعطاء الحق للغزالي عندما يكون الحق بجانبه، وكان يتجاوز موقف القاضي إلى موقف الأستاذ والمعلم المصحح، فيشرح المسائل المطروحة كما هي في فلسفة أرسطو. ولقد ذكر في التهافت اسم الشيخ الرئيس ثمانين مرة، منبها إلى أن الآراء التي ينسبها الغزالي للفلاسفة (أرسطو تحديدا) هي أراء ابن سينا الذي تساهل في التزام الطريقة البرهانية ونحا منحا جدليا، وتشكل هذه المسألة ـ أي الابتعاد عن البرهان لصالح الجدل والسفسطة ـ أهم التبريرات التي صوغ بها ابن رشد رده ونقده اللاذع لابن سينا.
ويكفي أن نستشهد بهذه الأقوال لبيان شدة هذا النقد الذي وجهه لقضايا عدة من فلسفة الشيخ، ونخص بالذكر نظرية الفيض التي لا تعدو أن تكون غير "تخرص على الفلاسفة"، ومجرد "هوس" وأكثر من ذلك فهي "كلها خرافات وأقاويل أضعف من أقاويل المتكلمين، وهي كلها أمور دخيلة على الفلاسفة، ليست جارية على أصولهم، وكلها أقاويل ليست تبلغ درجة الإقناع الخطبي فضلا عن الجدلي"[25].
أما على مستوى المنطق فقد انتقد بعض أفكاره في المنطق والمتعلقة بالقياس وبالعبارة في عدة مقالات أهمها[26]:
-                  مقالة في العبارة: "القول في المحمولات المفردة والمركبة ونقد مذهب ابن سينا".
-                مقالة في القياس: "نقد مذهب ابن سينا في عكس القضايا".
-      مقالة في القياس أيضا: "القول في القياس الحملي والشرطي ونقد القياس الاقتراني عند ابن سينا".
          ليس في وسعنا هنا أن نعالج كل ما يتعلق بالمسائل النقدية الرشدية اتجاه السينوية ولكننا سنركز على الأطروحة المركزية التي ينبني عليها موضوع بحثنا. ويتعلق الأمر هنا بالنقد الذي وجهه أبو الوليد للشيخ الرئيس ابن سينا اتجاه العلاقة بين العلم الكلي والعلوم الجزئية، أي طبيعة العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة[27].
تنبني رؤية ابن رشد للعالم على أسس علمية ـ فلسفية باعتباره أول من أقام الفصل بين العلم الإلهي والعلم الطبيعي، مؤكدا استقلالية هذا الأخير ومبينا دوره في البرهان على الجوهر المفارق، وممييزا بين مجال الوجود (الأنطولوجيا L'Ontologie)، ومجال اللاهوت (الثيولوجيا la théologie)، وهو بذلك يقف أمام الخطاب الكلامي القائم على أولوية العلم الإلهي في مجال البرهان على الوجود، والتي تجسدت معالمها في خطاب ابن سينا الذي يؤكد ما من مرة على أن العلم الطبيعي لا دور له ولا يبرهن عليه انطلاقا من أوائل[28] هذا العلم، لأن الطبيعة لا تقوم بذاتها وليست بينة الوجود بنفسها وما على الطبيعي إلا أن يتسلم براهينه من الفيلسوف.
يتخذ نقد ابن رشد للأطروحة السينوية أشكالا : مباشرة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى. وسبيله إلى ذلك ـ كما جرت العادة لديه ـ هي العودة إلى الأصل، أي إلى المنطق. فالمنطق يتأسس في نظره و ينبني على البرهان، لذا يؤكد ابن رشد دوما أن الطريقة البرهانية هي أفضل الطرق لتخليص الفكر الأرسطي (الأرسطية العربية تحديدا) من كل الشوائب التي تعتريه.
والطريقة البرهانية تقود عمليا إلى الدفاع المباشر والمستميت عن السببية[29] كوجه من أوجه العقلانية، هنا يقترح ابن رشد علاقة جديدة للصلة الأنطولوجية والابستمولوجية بين الحدود الطبيعية وأنحاء ما بعد الطبيعة، فالطبيعة كما نقرأ في "مقالة الدال[30]" وفي رسالة "ما بعد الطبيعة"، معطى أولي ثابت بأسبابها الأربعة والتي تنظم الكون وتتحكم فيه، وهي التي تلعب دورا في بيان موضوعات الميتافيزيقا، على الرغم من التداخل الحاصل بين مبادئ الجوهر المتحرك الفاسد ومبادئ الجوهر المفارق، الأزلي، لأن "البرهان على وجود مبادئ للجوهر الطبيعي ليس للفلسفة الأولى، بل إن صاحب العلم الطبيعي هو الذي يعطي أسباب الجوهر المتحرك المادي والمحرك"[31] وقد سبق وأن أكدنا على ذلك في الباب الأول.
يعتبر ابن سينا أن مبادئ العلم الطبيعي يحددها صاحب الفلسفة الأولى. وفي هذا يقول ابن رشد: "إن ابن سينا متعسف على المشائين في قوله أن هذا الحد ها هنا للطبيعة غير بين بنفسه، وأن صاحب الفلسفة الأولى هو الذي يتكفل بيان ذلك (...) وإن كان أراد بذلك أن الطبيعة مجهولة الوجود كما هو الظاهر من قوله، وأن صاحب العلم الإلهي يبرهن وجودها فقد أخطأ. وذلك إن تبرهنت فإنما تبرهن من الأمور المتأخرة التي في هذا العلم، أعني العلم الطبيعي، ولو تبرهنت في العلم الإلهي لوجب أن تبرهن من أمور هي أقدم منها وأعرف عندنا وذلك غير ممكن"[32]. فصاحب العلم الطبيعي ينظر في المادة والصورة معا، أي في الأمور الطبيعية والصناعية معا،  "وبالجملة فينبغي أن يعتقد أن الحال في الأمور الطبيعية كالحال في الأمور الصناعية"[33]. تشكل هذه العبارة إحدى الاعتراضات التي يقيمها أبو الوليد ضد الشيخ الرئيس معلنا اختلافه معه في أهم القضايا التي لا يشك أحد في أن فيلسوف قرطبة أجاد الخصومة الفكرية ضد عملاق الفكر المشرقي. فالعلم الطبيعي في نظر ابن رشد له الحق في بيان المادة الأولى كما اتضح في كتاب "الطبيعة - السماع". وتعبيرا عن استغرابه لموقف الشيخ الرئيس يقول: "والعجيب من ابن سينا حين يقول انه يجب على صاحب هذا العلم أن يتسلم وجود المادة الأولى عن الفلسفة الأولى وليست هاهنا الضرورة التي يتسلم بها صاحب علم من علم آخر شيئا ما ويلزمه مثل ذلك في المحرك الأول ولا سبيل إلى بيان وجوده إلا في هذا العلم"[34]. ويعود السبب في خطأ الشيخ إلى أمرين كما اتضح أعلاه:
- يعود الأول إلى فهمه للطبيعة والذي لا يستقيم والفهم الأرسطي. ففي هذا الفهم يتضح نكران الشيخ الرئيس لمبدأ السببية، وهذا ما سنبينه فيما تقدم.
-  ويتعلق الثاني بوجود المادة الأولى: فهل مهمة إثبات وجودها والبرهنة على ذلك الوجود من حق الفيزيائي أم من حق الفيلسوف؟
لا يتعلق نقد ابن رشد بموضوعات العلوم فحسب، بل يمتد إلى نقد المنهج المتبع في ذلك، فابن سينا لا يخطئ في نسبة بيان الجوهر المحسوس إلى الفيلسوف فقط، ولا في نفي السببية على علم الجوهر المحسوس. بل في المنهج المتبع في الاستدلال على موقفه الذي يفتقد لأدنى شروط نظرية البرهان. فالطريقة البرهانية ما كانت طريقته في المحاججة، بل يركن إلى الأساليب الخطابية و "الأقاويل الجدلية"، وفي هذا يقول ابن رشد أن هذه الأقاويل غير صادقة بالكل: "وأما البيانات التي يستعملها ابن سينا في بيان المبدأ الأول في هذا العلم فهي أقاويل جدلية غير صادقة بالكل وليس تعطي شيئا على التخصيص، وأنت تبين ذلك من المعاندات التي عاند بها أبو حامد في كتابه في التهافت"[35].
إن مؤاخذة صاحبنا القرطبي على ابن سينا لا تفهم في أول الأمر إلا ببيان الطبيعة المزدوجة لموقفه، حيث تبنى موقفين متناقضين من علاقة الفيزيقا بالميتافيزيقا. أو يظهر أنهما كذلك:
-     موقف يرى فيه أن الفلسفة الأولى هي وحدها لها الحق في البرهنة على مبادئ جميع العلوم حيث تمتلك البرهان المطلق الذي يخولها تلك الإمكانية. نقول البرهان المطلق بالنظر إلى التمييز الذي تحدثنا عنه سلفا في أنواع البراهين.
-                   وموقف يرى أن العلم الطبيعي هو الذي يبين ويبرهن بعض مبادئ العلم الكلي.
ولهذا يذهب الدكتور محمد المصباحي[36] إلى أن ابن رشد خلال معالجته لهذه الإشكالية قد آمن بأطروحة أرسطية ـ سينوية تقول : بأن ليس من حق علم من العلوم أن يبرهن على مبادئه، مخافة من تجاوز نطاق جنسه الذي يبحث فيه إلى جنس أعلى منه يبحث فيه علم آخر. فهل كان ابن رشد يقول بأن على الفلسفة أن تنظر في جميع مبادئ العلوم الجزئية أم أنه كان بالأحرى يدعو إلى اقتسام النظر إلى المبادئ بين الفلسفة والعلم؟
            لنلاحظ كيف أن تأويل أستاذنا يتجه صوب الكشف عن أمر جديد في بحث علاقة ابن رشد بابن سينا. ففي الوقت الذي نتجه فيه نحو بيان تجاوز ابن رشد للشيخ الرئيس عبر الكشف عن الانتقادات التي خصها له، يتجه أستاذنا نحو الكشف عن التأثير السينوي ـ الأرسطي في ابن رشد.
           صحيح أن موقف ابن رشد يمثل موقفا جديدا بالمقارنة مع موقف المعلم الأول وموقف الشيخ الرئيس وحتى موقف المعلم الثاني. إلا أن هذا لا يمنع من وجود تأثير، لكن: كيف يمكن تفسير هذا الأمر[37]؟ تتطلب معالجة هذا السؤال الكشف عن المؤثرات السينوية والفارابية في ابن رشد، والتي لا يمكن أن ينكرها أحد، غير أن النتائج التي يسجلها الدكتور محمد عابد الجابري في "نحن والتراث" حول القطيعة الابستمولوجية بين الفلسفية المشرقية والفلسفة المغربية تستدعي النظر، إذا أخذنا بعين الاعتبار بعض الأبحاث التي أنجزها الدكتور محمد المصباحي حول وجود ملامح سينوية في فكر ابن رشد[38]، فهو يقر صراحة: "إننا نعتقد أن معارضة ابن رشد لابن سينا تظل معارضة استرتيجية، فهو كان يعارض الميتافيزيقا العرضية لأنها كانت تهدد في نظره قوام الوجود ومشروعية العلم. أما أن تبقى جيوب سينوية في نسق ابن رشد، فذلك أمر طبيعي لأن كل من يتصدى لغيره بالنقد لا بد أن تظل آثار من فلسفة هذا الغير في فكره مهما حاول أن يبتعد عنه"[39].
            ولكن قبل الكشف عن المؤثرات السينوية وملامحها المتجلية في فكر ابن رشد لابد وأن نقف أول الأمر على عناصر النقد الذي يوجهه لابن سينا، وهو الأمر الذي يقتضي منا في هذا المقام الوقوف على الفلسفة السينوية، وعن تصور الشيخ الرئيس للعلم الطبيعي ولعلاقة هذا الأخير بالميتافيزيقا، ومكانة نظرية البرهان من كل هذا لبيان صحة الموقف الرشدي من عدمه. ومن ثمة بيان التأثير الفعلي والحقيقي للفلسفة المشرقية على الفلسفة المغربية[40].
          ردا على ابن سينا يقدم ابن رشد في نصوصه إجابات متنوعة تتراوح بين القول بأحقية العلوم الجزئية، وبين القول بأحقية العلم الكلي. فمن جهة: واجب على العلوم أن تتسلم مبادئها من الفلسفة الأولى؛ أي أن لهذه الأخيرة وحدها، الحق في بحث موضوعات العلوم الأخرى، لأن موضوعات العلوم الجزئية جزء من الوجود العام الذي هو موضوع الميتافيزيقا. وهي وحدها التي تنفرد بالبرهان المطلق لأن البرهان قادر على بيان ماهية الشيء ووجوده، أي على بيان الطبيعة الأعلى لأسباب موضوع العلوم الجزئية. وعلى هذا الأساس يميز في مقالة الزاي بين العلم الطبيعي وما بعد الطبيعة حيث يقول: "ولما قرر (أرسطو) أن العلوم الجزئية ليست تنظر في الهوية المطلقة، وأنه يجب أن يكون ها هنا علم يفحص عن الهوية المطلقة، أخذ يعرف أن العلم الطبيعي ليس هو هذا العلم"[41]. مما يعني أن على العلوم الجزئية أن تتسلم مبادئها من علوم جزئية أخرى أو من العلم الكلي "الميتافيزيقا". وهذا ما توصل إليه ابن سينا فليس للعلوم الجزئية أن تأخذ مبادئها من ذاتها بل ينبغي أن تتقيد بالفلسفة الأولى وخاصة حينما يتعلق الأمر بمبدأ المبادئ أي واجب الوجود.  
          تعود هذه الأطروحة في الحقيقة إلى الفارابي الذي يذهب إلى أن العلوم تصنف من أعلى إلى أسفل وأنها جميعها خاضعة وتعود إلى العلم الكلي الذي هو أسمى وأشرف العلوم. وهو بذلك لا يميز بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة، بل ليس للعلوم الجزئية الحق في أن تبرهن على مبادئها[42] لأن برهانها ليس برهانا مطلقا، وفي هذا يقول الدكتور محمد عابد الجابري: "تربط المنظومة الفارابية بين الطبيعة و"ما بعد الطبيعة" ربطا منطقيا لا يخلو من جمال وإحكام، لتؤكد على وحدة الكون وترابط أجزائه وجمال بنائه: وهكذا، فانطلاقا من الموجودات الحادثة وبالتالي الممكنة الوجود، يطرح الفارابي، كموضوعة غير مبرهن عليها/ ولا تحتاج إلى برهان لأنها أحد أطراف الفلسفة العقلية الثنائية للوجود، بطرح الموجود الواجب الوجود كسبب أول متى وجد له الوجود "لزم ضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات ـ التي وجودها لا بإرادة الإنسان واختياره ـ على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحس وبعضه معلوم بالبرهان"[43]، ويرى أن هذا التداخل الحاصل بين المجالين يعبر أيما تعبير عن النظام الفلكي لبطليموس حيث يقول: "ذلك هو العقل الأول في سلسلة العقول السماوية الفائضة من واجب الوجود. هنا، عند هذه النقطة يتداخل نظام بطليموس الفلكي ليحول "المنطق" إلى انطولوجيا وليمزج بين الطبيعة و"ما وراء الطبيعة" بشكل يجعل الواحد منهما يفسر الآخر ويكمله"[44]. فالعقل الأول بهذا المعنى لا يحتاج في وجوده إلى أي مادة أو إلى أي شيء، أي أنه عقل مفارق، وهو الذي تفيض عنه سائر الموجودات الأخرى كعقل مفارق وواحد وبسيط. هذه الأطروحة التي تبناها الفارابي لدواع سياسية وإيديولوجية لتبرير الحاجة إلى نظام سياسي وحكم مركزي يلم الشتات، هو ما صاغه ابن سينا في قالب معرفي دون التقيد بأي حاجة إيديولوجية أو سياسية[45]. هكذا أمكننا القول أن أطروحة ابن رشد تعتبر بحق أطروحة تأسيسية بصدد هذه المسألة، لأن أطروحة ابن سينا ليست إلا أطروحة "فارابية" في جوهرها، و"أرسطية" في ظاهرها. فعلى ماذا يتأسس هذا النقد؟
يتلخص هذا النقد في فكرة أن مبادئ العلوم الجزئية إنما يكون بيانها على صاحب العلم الإلهي وهو الذي ينظر في ما بعد الطبيعة، وهذا يؤدي ضرورة إلى وضع المبادئ الكلية للعلم الطبيعي وضعا، طالما أنه واحد من العلوم الجزئية. وهذا الموقف لا يحدث أي خلل معرفي عندما يرى أن العلم الطبيعي والعلم الإلهي كلاهما يبحثان في الجسم الطبيعي. فلكل علم وجهة نظره الخاصة بشأن الموضوع، شريطة أن يتسلم صاحب العلم الطبيعي مبادئه الأولى للجسم من العلم الإلهي مبرهنا عليه.
يرى ابن رشد أن ابن سينا لا يميز ولا يرى فرقا بين الجوهرين السرمدي غير الكائن وغير السرمدي الكائن فالجوهر الكائن الفاسد مركب من مادة وصورة، أما الجوهر السرمدي فهو على خلاف ذلك شيء متبرئ من الهيولى، فضلا عن أن الجوهر الكائن الفاسد جوهر محسوس وليس موجودا مجردا ومفارقا.
يرى ابن رشد أن ابن سينا يصادر مبادئ العلم الطبيعي لصالح العلم الإلهي. فالعلم الطبيعي حينما يبحث ـ ينظر في مبادئ الجوهر إنما ينحصر في مبادئ جوهر متحرك ساكن، وأما العلم الإلهي فينظر إلى هذه المبادئ على أنها مبادئ جوهر غير متحرك ولا ساكن. معنى ذلك أن ابن رشد لا يعطي فضلا للعلم الكلي عن العلم الإلهي، أي حق برهنة أو فرض مبادئ العلم الطبيعي إلا في منطقة محددة لا تخص الموجود المتحرك بما هو متحرك بل تخصه بعده موجودا مطلقا. فهناك انقسامات عامة تخص كلا العلمين: الإلهي والطبيعي مثل: انقسام الموجود إلى جوهر وعرض، قديم وحادث، واجب وممكن، علة ومعلول، قوة وفعل...
فابن سينا تبنى مقدمتين متقابلتين:
- فصله لعلم الموجود والواحد عن العلوم التي توجد تحته. وهو الأمر الذي أدى به إلى عدم تجويز نظر العلوم الجزئية في مبادئ العلم الإلهي.
 - دفاعه عن اندراج العلوم الجزئية تحت علم الموجود بما هو موجود. وبالتالي لا يحق للعلم الجزئي أن ينظر في العلم الأعم منه. وهذا كله نتيجة تبنيه لنظرية الفيض التي يتم فيها النزول من أعلى إلى أسفل. ويستتبع هذا القول محو حق العلوم الجزئية في البرهنة على مبادئ العلم الكلي وخاصة حينما يتعلق الأمر بواجب الوجود لأنها ستخرج عن موضوعها الخاص بها.
ويرجع المصباحي[46] ذلك إلى سببين دعيا ابن سينا إلى اتخاذ موقفه:
-     موقف ابستمولوجي: يعود إلى فهمه للعلم الذي يتخذ عنده دلالة متواطئة تنطبق على الفلسفة كما على العلوم الجزئية. وللفلسفة الحق في تصحيح مبادئ العلوم الأخرى لأنها أعم واشمل.
-     موقف ميتافيزيقي: يعود إلى نظرية الفيض التي تفرض النزول من الأعلى نحو الأدنى. وإذا كانت الفلسفة الأولى  (العلم الإلهي) هو العلم الأعلى الذي ينظر في واجب الوجود فإن لها الحق في النظر إلى العلوم الأخرى التي تقع تحتها.
وبالنظر هذين السببين يتضح أن مؤاخذة ابن رشد على الشيخ الرئيس ترتكز أكثر على نفس المؤاخذة التي يؤاخذ بها الإسكندر، ويتعلق الأمر بعدم تمييزه في الجوهر المحسوس بين المحسوس الأزلي والمحسوس غير الأزلي. وهو الأمر الذي قاده إلى استخلاص النتائج التي تلغي كل دور للعلم الجزئي.
ويسعى ابن رشد وراء نقد موقفي الإسكندر وابن سينا إلى بناء نظرية جديدة حول العلاقة بين العلم الطبيعي والفلسفة الأولى، وهي العلاقة التي كشفنا عنها أعلاه. فإذا كان ابن سينا يؤكد على عدم انفصال العلمين ـ كما يؤكد ذلك الفارابي قبله ـ معلنا أن العلم الإلهي هو الذي ينظر في مبادئ العلم الطبيعي كما ينظر في مبادئ مختلف العلوم الجزئية، في إطار علاقة الكل بالجزء، وفي علاقة نازلة من الأعلى نحو الأدنى، فإن ابن رشد لا ينكر قيام هذه العلاقة أو هذه الصلة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة، لأن كلا العلمين ينظر في الجوهر ، ولكن يختلفان في طريقة النظر إليه، أي أن هناك اتصال في بيان مبادئ الجوهر شريطة استحضار طبيعة البرهان لذلك يقول: "(...) ينبغي أن يفهم اشتراك هذين العلمين أعني الطبيعي والإلاهي في النظر في مبادئ الجوهر، أعني أن العلم الطبيعي يبين وجودها من حيث هي مبادئ جوهر متحرك وصاحب هذا العلم ينظر فيها بما هي مبادئ الجوهر بما هو جوهر لا جوهر متحرك"[47].
ومعنى ذلك أن صاحب العلم الطبيعي ينظر في الجوهر المتحرك ويبحث عن مبادئه منطلقا من المقدمات التي يضعها علم ما بعد الطبيعية الذي ينظر في الجوهر الغير المتحرك.
وهذا هو شأن ما يراه الإسكندر وهو غير صحيح بلغة ابن رشد لأن " صاحب العلم الطبيعي هو الذي ينظر في الجوهر المتحرك ونظره فيه هو بأن يطلب مبادئه وذلك بأن يصير من الأمور المتأخرة إلى الأمور المتقدمة كما تبين في العلم الطبيعي[48].
يتلخص إذن نقد ابن رشد للإسكندر ولابن سينا في اتهامهم بكونهم لا يميزون بين الجوهرين السرمدي غير الكائن وغير السرمدي الكائن. فالجوهر الكائن الفاسد مركب من مادة وصورة، أما الجوهر السرمدي فهو على خلاف ذلك شيء متبرئ من الهيولى، فضلا عن أن الجوهر الكائن الفاسد جوهر محسوس وليس موجودا مجردا مفارقا. أي أن ابن سينا والاسكندر يعتقدان أن الجوهر المحسوس السرمدي هو جوهر يخص العلم الإلهي وبالتالي لا يحق النظر فيه إلا للفيلسوف. وما يستتبعه ذلك من نفي لأحقية العلم الطبيعي في البرهان على مبادئه، أي نفي كل فاعلية عن الطبيعة لصالح المحرك الأول (الله) الذي يتحكم في الكون عامة والذي إليه تعود كل الأشياء في كونها وفسادها معا. وهذا هو مصدر الخلط بين الكلام والفلسفة الذي كان محط استنكار وشجب لدى ابن رشد.




[1]  - وفي هذا يقول ابن رشد: " لو كان التكون عن صور مفارقة لما أمكن أن تكون هذه الصور عللا لما يظهر من أن المكون والمتكون اثنان بالعدد واحد بالصورة، وهذا لازم في كل مكون"، التفسير، مقالة الزاي، ص 870.
[2]  - يقول في هذا: "الجوهر الكائن الفاسد إنما يتكون عن جوهر كائن فاسد هو مثله بالنوع والجنس. وأن المتكون والفاسد هو الشيء المجتمع من الصورة والهيولى وأن الصور ليس بكائنة ولا فاسدة إلا بالعرض. وأنه لما كان هذا ليس للصور الأفلاطونية غناء في الكون إن كانت موجودة أعني الصور المفارقة التي يقول بها أفلاطون. وبين أيضا أن الكليات ليس بجواهر موجودة خارج النفس وإن كانت تدل على جواهر. وأن الصور جواهر لا على أنها أسطقس ولا على أنها مركبة من أسطقس بل على أنها جوهر ثالث" التفسير ص 1403. والجوهر الثالث المقصود هنا هو المركب من الصورة والمادة معا، وهو الجوهر المحسوس السرمدي كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الذي بحثنا فيه مشكلة الجوهر عند انب رشد."، التفسير، مقالة اللام، ص 1402.
[3]  - أنظر: محمد المصباحي: "مشكل الاتصال: الإنسان بين البيولوجيا والميتافيزيقا عند ابن رشد"، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، فاس العدد السابع، 1983 – 1984، ص 77.
[4]  - التفسير ص 1543 – 1544.
[5]  - التفسير، ص 1503.
[6]  - التفسير ص 1277 – 1278
[7]  - الوحدة والوجود، نفس المعطيات السابقة، ص 251.
[8]  - تلخيص ما بعد الطبيعة ص 107 نشرة عثمان أمين.
[9]  - شرح البرهان، تح بدوي، ص 298.
[10]  - الوحدة والوجود ص 257
[11] أبو علي، ابن سيناAvicenne  (980-1037)،
[12]  - فالفلسفة الحقيقية في نظر ابن رشد كما يسجل ذلك في مقالة الجيم ص 329: هي التي تنظر في الموجود نظرا برهانيا بخلاف الفلسفة الجدلية التي تنظر في الوجود نظرا جدليا والفلسفة السفسطائية التي تنظر في الموجود نظرا يظن فيه أنه فلسفة وهو ليس كذلك.
[13]  - أنظر مثلا بعض المقالات التي نشرها عبد الرحمن بدوي في كتابه: "أرسطو عند العرب"، وكالة المطبوعات الكويت، الطبعة الثانية، 1178.
[14]  - الاسكندر الأفروديسي  Alexandare d’Aphrodisses: يعد من أكبر شراح أرسطو  في العصر اليوناني ـ الروماني، وهو ينسب إلى أفرو ديزياس في منطقة كاري Carie من آسيا الصغرى. عاش في الربع الأخير من القرن الميلادي الثاني والربع الأول من القرن الثالث. وقد أهدى كتابه «في القدر» إلى الامبراطورين سيفيريوس وأنطونيوس بين سنتي 198 و208م، وعهد إليه تدريس فلسفة أرسطو في أثينا بين عامي 197- 211م. وثمة ما يشير إلى أنه أقام مدة من الزمن في روما حيث يحتمل أنه لقي جالينوس.
ترجع شهرة الإسكندر الأفروديسي إلى عدّه خبيراً في فلسفة أرسطو، ولاسيما في مجال الكليات ونظرية العقل. وقد تأثر بدروس معلميه، ومنهم أرسطوقلس، ونذر نفسه لشرح مصنفات أرسطو فلُقب بأرسطو الثاني أو الشارح. وباتت شروحه منهلاً ونموذجاً، يفيد منها أتباعه من الإغريق والبيزنطيين.
[15]  - (كذا في النص)
[16]  - التفسير، ص 1420.
[17]  - التفسير 1421 – 1422.
[18]  - الفسير، ص 1423 – 1424.
[19]  - التفسير، ص1423.
[20]  - التفسير ، ص 1425 – 1426.
[21]  - التفسير، ص 1429.
[22]  - التفسير، ص 1429.
[23]  - التفسير، ص 1429.
[24]  - للمزيد أنظر في هذا كتاب محمد عابد الجابري: "المثقفون في الحضارة العربية"، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، يناير 2000. ص 118.
[25]  - ابن رشد، تهافت التهافت، م، ن، ص 295.
[26]  - مقالات نشرها "جمال الدين العلوي" في كتاب: "مقالات في المنطق والعلم الطبيعي" (رسائل فلسفية)، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1983. ونجد مقالات أخرى ذكرها جمال الدين في كتابه "المتن الرشدي" وهي:
- شرح أرجوزة ابن سينا في الطب - مقالة في الرد على ابن سينا في البرهنة على المحرك الأول - كتاب في الفحص عن مسائل وقعت في العلم الإلهي في كتاب الشفاء لابن سينا - مقالة في الرد على ابن سينا في تقسيمه الموجودات إلى ممكن على الإطلاق وممكن بذاته واجب بغيره وإلى واجب بذاته - مقالة في المحمولات المفردة والمركبة ونقد مذهب ابن سينا - نقد مذهب ابن سينا في عكس القضايا
- مقالة في القياس الشرطي ونقد مذهب ابن سينا - نقد مذهب ابن سينا في عكس القضايا
[27]  - نذهب مع الدكتور المصباحي إلى أن تجليات النوعة الكلامية في السينيوية والتي كانت محط نقد ابن رشد تتمثل في ثلاثة مسائل: علاقة الوجود بالذات، ثم طبيعة العقل الفعال ودوره في العالم، وأخير المسألة التي نبحث فيها ها هنا. أنظر في هذا محمد المصباحي: مع ابن رشد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2007، ص 174.
[28]  - يريد ابن رشد بالأوائل عدة معان يتلخص الأول في كون الأوائل تدل على الجواهر حيث يقول في التفسير (224: 5): "إن الأوائل هي جواهر"، ويريد به أيضا ما هو موجود في الشيء وخارجه كما جاء في قوله: "الفرق بين الأوائل و الأسطقسات أن اسم الأوائل قد تنطلق على ما هو موجود في الشيء وخارج الشيء، والعلل تنطلق أكثر ذلك على الفاعل والغاية، وقد تنطلق على الأربع علل، و الأسطقسات ليست تنطلق إلا على العلل الموجودة في الشيء، وهي التي ينحل إليها المركب"، (التفسير: 1024: 4)، كما تدل على المبادئ "لا فرق بين قولنا أوائل وبين قولنا مبادئ من قبل أنهما اسمان مترادفان... يدلان على معنى واحد"، (تلخيص كتاب البرهان: 374: 20) ...
[29]  - لقد دافع ابن رشد عن السببية في سياقات عدة، فمعلوم أن الغزالي أنكر عن الفلاسفة القول بالسببية وأرجعها إلى مجرد "العادة"، لأن القول بالأسباب في نظر الغزالي، يؤدي إلى الحد من إرادة الله وحريته، وإلى إبطال المعجزة. ودافع عن السببية باعتبارها أداة لفهم وإدراك العالم فالعلم بمقتضى القول الأرسطي هو علم بالأسباب. للمزيد أنظر في هذا محمد عابد الجابري: "نحن والتراث": قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة 1983. ص 321.
[30]  - أنظر فيما سيأتي تعريف الجوهر كما ورد في مقالة الدال (كتاب الدال، المعهد القومي لعلوم الترجمة، تونس أعده عبد الكريم المراق، محمد الحبيب المرزوقي، ومحمد المحجوب) في كتاب "ما بعد الطبيعة"، كما أوردناه في الفصل الخاص بمفهوم الجوهر وتحديدا في النقطة المتعلقة بمفهوم الجوهر في علم ما بعد الطبيعة،
[31]  - تفسير ما بعد الطبيعة: مقالة اللام: 1433: 19.
[32]  - تهافت التهافت ن م ص 38 - 39.
[33]  - تهافت التهافت ن م ص 42.
[34]  - ن م ص 42.
[35]  - رسالة ما بعد الطبيعية، ن م، ص 32.
[36]  - وذلك في كتابه: "دلالات وإشكالات"، نفس المعطيات السابقة. وسيعود إلى معالجة نفس الإشكالية بشكل أدق في كتابه "الوجه الآخر للحداثة عند ابن رشد"، نفس المعطيات السابقة.
[37]  - يفترض استاذنا جمال الدين العلوي أن التمييز بين مرحلتين في تطور فكر ابن رشد، وهي مرحلة التلاخيص والجوامع من جهة والتي تشكل في نظره مرحلة ابن رشد الشاب، ومرحلة الشروح الكبرى، أي مرحلة ابن رشد الناضج، قد تسعفنا في فهم التأثير السينوي الذي نلفيه في أكثر من موضع. وسوف نبين هذا الأمر فيما تبين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التقسيم الذي اعتمده جمال الدين العلوي هو تعديل في التقسيم الذي اقترحه المستشرق ألونسو والذي يقسم تطور ابن رشد إلى ثلاثة مراحل: مرحلة الجوامع، ومرحلة التلاخيص، ومرحلة الشروح الكبرى.
[38]  - محمد المصباحي: "الوجه الآخر لحداثة ابن رشد"، ص135، م، ن.
[39]  - الوجه الآخر لحداثة ابن رشد، م، ن، ص 138.
[40]  - نشير هنا إلى ما أثاره مفهوم القطيعة الابستمولوجية التي يدافع عنها الجابري بين الفلسفة المشرقية والمغربية، ما أثاره هذا المفهوم من ردود فعل متباينة لعل أهمها موقف محمود أمين العالم. أنظر في هذا مقاله: "ملاحظات منهجية تمهيدية حول نقد الجابري للعقل العربي، مجلة الوحدة، العدد 51، 1988، ص 144. هذا ناهيك عن السجالات التي أثارها جورج طرابيشي، وغيره من المفكرين المعاصرين...
[41]  - التفسير: (مقالة الزاي 703: 9 – 15).
[42]  - في معرض حديثه عن أقسام العلم الإلهي في كتابه إحصاء العلوم يقف الفارابي على علاقة هذا العلم بالعلوم الجزئية ويقول: "والثاني (يقصد القسم الثاني من العلم الإلهي) يفحص فيه عن مبادئ البراهين في العلوم النظرية الجزئية وهي التي ينفرد كل علم منها بالنظر في موجود خاص، مثل المنطق والهندسة والعدد وباقي العلوم الجزئية الأخرى التي تشاكل هذه العلوم: فيفحص عن مبادئ علم المنطق؛ وميادئ علوم التعاليم؛ ومبادئ العلم الطبيعي؛ ويلتمس تصحيحها وتعريف جواهرها وخواصها. ويفحص الظنون الفاسدة التي كانت وقعت للقدماء في مبادئ هذه العلوم". الفارابي: "إحصاء العلوم"، جماعة إحياء الفلسفة، حققه وقدم له وعلق عليه الدكتور عثمان أمين، دار الفكر العربي، د، ت، ص 99.
[43]  - "نحن والتراث"، معطيات سابقة، ص 143 – 144
[44]  - نحن والتراث، ص 144.
[45]  - وفي هذا يقول الجابري: "لنلفت الانتباه إلى أن ابن سينا حينما تبنى المنظومة الميتافيزيقية الفارابية، تبناها كمنظومة معرفية وليس كعلم إيديولوجي. ولم يكن هذا راجعا إلى قراره واختياره، بل كان ذلك هو "قرار التاريخ"". نحن والتراث، ص 139.
[46]  - محمد المصباحي: "الوجه الآخر"، ن، م، نفس المعطيات السابقة.
[47]  - التفسير، (1425-1426).
[48]  - التفسير، (1429)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق