السبت، 10 يونيو 2017

2 - نظرُ مُغاير للمدونة الفِقهيَّة اتجاه العلوم


سعى ابن رشد وراء الاهتمام بالعلم الطبيعي إلى بناء نظريَّة متكاملة تعبر أيُّما تعبيرٍ عن رؤيته للعالم كحاجة ماسة للوقوف أمام الرؤيَّة الفِقهيَّة التي تنبُذُ كل اشتغالٍ بالعلم، لصالح عقل أُصولِي، همه الأول والأخير: هو جعل التأويل الثيولوجي سابقاً على الوجودي، فالإقرار بأحقيَّة العلم الطبيعي في البرهنة على مبادئِه لا يعني غير قلب المُعادلة التي يرسمها العقل الكلامي للعلاقة بين العالم والله، لصالح علاقة جديدة يكون فيها العالم منطلقاً نحو الجوهر المفارق، ليعلن عن موت التفسير الغيبي الكلامي الذي يُلغِي الفاعِليَّة السببيَّة، لذا انتقد أفكار ابن سينا والاسكندر والفارابي وكل من يرى أن العلم الإلهي هو الذي يبرهن ويضع مبادئ العلوم الجزئيَّة ومنها العلم الطبيعي، ولهذا هدف ابن رشد من وراء هذا النقد إلى تحقيق غايتين اثنتين:

-     تتمثل الأولى في بيان بُطلان حجة البعض الذي افترى على أرسطو دون أن يفهم ما يقوله الحكيم (وهذا حال أبو حامد الغزالي مثلاً). فالغزالي في حقيقة الأمر لم يطلع على ما قاله الفلاسفة وإنما أسس نقده على ما نسبه ابن سينا للفلاسفة، وهذا ما دفع أبي الوليد إلى الرد عليه لدحض افتراءاته تلك. هكذا إذن تصبح الغاية بيِّنةً من أمرِها، فالطبيعيَّات التي أعاد فيها ابن رشد النَّظر ونقحها وخلَّصها من الأقاويل الجدليَّة، إنما هي طبيعيات أرسطيَّة خالصة كما وصلت إليه، تصلح لأن تكون منطلقاً لقراءة جديدة ولتأويل جديد خالٍ من كل شبهة أو تحريف أو تشويه.
إن العمل الذي أسسه ودشنه ابن رشد بصدد الطبيعيات هو الأول من نوعه في زمانه إذا استحضرنا الحظر الذي مارسته الكنيسة الأوروبيَّة على العلوم الأرسطيَّة، حيث احتفظت بالمنطق لوحده كعلم مسموح به في مدارسها الدينية الأكليريكيَّة، بالنظر إلى أنه لا يشكل أي خطر عليها. أما الطبيعيَّات وما شابه فلم يكن مسموحاً بها إلا بعد ازدهار الأعمال الرشديَّة اللاتينيَّة في مدرسة باريس ومدرسة بادو الإيطالية، ولقد ازدهرت الرشديَّة بالأساس في عصر النهضة حيث الحاجة إلى العقل والعقلانيَّة كأداةٍ لتقويض العقل اللاَّهوتي القروسطوي، لصالح عقلٍ حديث جديد مطلوب يوماً بعد يوم. فميتافيزيقا ديكارت ومن بعده ليبنتز وسبينوزا لم تكن ممكنةً إلا بفضل التطورات العلميَّة التي دشنتها العلوم بعد تجاوز تأثير المنطق الأرسطي عليها، ولهذا نعتبر أن المجتمع الذي يعزل الحداثة عن سياقها العلمي والمعرفي والفلسفي لن يلجها يوماً.
-     وتتمثل الثانيَّة في إفادة "أهل" زمانه بما يملكه من منفعة علميَّة، ويرشدهم إلى ضرورة النظر في صناعة المنطق في كتب الفارابي أو في مختصره الصغير، معتبراً أن هذا النَّظر يقتضي حذف الأقاويل العلميَّة البرهانيَّة من الأقاويل الجدليَّة. وتمييز المنهج البرهاني (الفلسفي) عن باقي المناهج الجدليَّة والخطابيَّة (الفقهيَّة).
نسجل هنا عمق تفكير ابن رشد المتسلح برؤية نقديَّة ترسم له مهامه كمثقف بلا منازع، شنَّ الهجوم على ممثلي الإيديولوجيَّة الرسميَّة، وتحمل تبعات اجتهاداتِه الفلسفيَّة والعلميَّة في الآن ذاته.
إن اشتغال ابن رشد على الطبيعيات لم يكن محكوماً بالرد على الغزالي فقط، وإنما بالرد على المتكلمين عامة، وعلى الأخص دُعاة "الجوهر الفرد"، أو دعاة "الله يعلم الجزئيات"، وعلى دعاة  القول ب: "الله لا يعلم إلا الكليات".
يتضح من خلال هذا أن اهتمام ابن رشد بالطبيعيَّات كان اهتماماً أملته الحاجة أولاً إلى رد الاعتبار للأرسطيَّة عبر تنقيحها من الأخطاء التي تشوبها، إلى جانب الرَّد على المتكلمين وتقويم الطرح الخاطئ للإشكالات التي ساجلوا فيها بعضهم البعض، وثانياً تنوير أهل زمانِه بحقيقة العلم الطبيعي، ولكن اتضح أيضا أنه لم يساهم في تنوير أهل زمانه فقط، وإنما كان له الفضل في التعريف بالأرسطيَّة في أوروبا المسيحيَّة من خلال ما يعرف ب "الرشديَّة اللاَّتينية".
يمثل هذا الاهتمام ـ في حقيقته الأمر ـ ترجمةً للهم الذي حمله ابن باجة حيث عمل على مواصلة الجهد الذي بدله بخصوص الطبيعيَّات الأرسطيَّة، كما عمل على استكمال النقد الذي دشنه ابن تومرت في كتابه "أعز ما يطلب" لعلماء الكلام حول إشكاليَّة النقل والعقل. 
لقد ساهم النقاش الذي أثاره علم الكلام بشكل كبير في نمو النزعة الطبيعيَّة وتطورها، ممَّا جعل هذا المبحث غير منفصلٍ في بداياتِه الأولى داخل الفكر العربي – الإسلامي عن التفكير الديني، بل ظلَّ لصيقاً به، ومتأثراً به أشد التأثير، غير أن ما وصل إليه العقل الأصولي اليوم من ابتعادٍ وافتراءٍ في حق العلوم يستوجب حقيقةً العودة إلى السِّجال السيَّاسي والمعرفي لتوضيح الرؤى وبيان بهتان نمط تفكير سطحي يدعي إمكانيَّة توظيف مستجدات العلوم المعاصرة لخدمة إيديولوجيا بائِدة، بحيث إن الأفكار التي يتداولها دُعاة "الطب القرآني"، و"الفهم القرآني للعالم" تتجه صوب تبخيس العلوم المعاصرة وتحوير نظريَّاتها التي لا تستند على أي أساس ميتافيزيقي، وفي نفس الوقت هو افتراء على نصٍ مقدس يُنسب لنفسه الاطلاقيَّة في أحكامِه وتصوراته ويمثل الحقيقة المطلقة في مقابل الحقيقة العلميَّة النسبيَّة: فهل يمكن المماثلة بين الحقيقتين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق