لم يكن عنوان الندوة الدوليَّة المنعقدة بمراكش (12 – 15
دجنبر 1998): "الأُفق الكونِي لفكر ابن رشد" بمناسبة مرور ثمانية قرون
على وفاته، عنواناً عرضيّاً بل هو اختيار نابع من طبيعة فكر هذا الرجل الذي طبع
زمانه وزمان غيره، فإليه يعود الفضل في انقاذ أوروبا من بطش وتزمُّت الكنيسة التي
منعت الاشتغال بفلسفة أرسطو وغيره من الفلاسفة، وأبقت فقط على مادة المنطق اعتقاداً
منها أنه مُجرد قواعد صوريَّة لا تفيد في شيء، وجهزت آلةً مُرعبة تُشرف على خزانات
الكنائس والأديرة والمدارس الدينيَّة التابعة لها خوفاً ألاَّ يتسلَّل أحد من محبي
الحكمة إلى الكتب والعناوين المحظورة، بل بلغ بها الأمر حد وضع السُّم في بعض المؤلفات
التي ما أن يجرؤ متعلم أو مشتغل بالفلسفة على فتحه حتى يلقي حفته في الحين.
صوَّر الروائِي والمفكر الإيطالي الشهير أومبرتو ايكو
مشاهد مُخيفة عن الحجر الذي فرضته الكنيسة على إرث أرسطو في روايته الشهيرة
"إسم الوردة"، وهو العمل الذي أتقن إخراجه السينمائي والمخرج الفرنسي
جون جاك أنو الذي اختار لأعماله أن تكون دوماً فلسفيَّة بامتياز.
فيلم اسم الوردة شأنه شأن فيلم المصير رغم اختلاف
الروايات والحبكة والمكان والظروف، غير أنهما يشتركان في نقل معركة الفكر الحر
والتنويري ضد عصر الظُلمات: ظلمات المدينة الأندلسيَّة الإسلاميَّة وظلمات المدينة
الأوروبيَّة المسيحيَّة.
الأفق الكوني
لابن رشد أفق مفتوح على مختلف الحضارات، لأنه لقي ترحيباً أوسع إبان محاكم التفتيش
التي حرمت الاشتغال باجتهاد ابن ميمون ووضعت الحجر عليه، بحيث جرى تحريم أعماله في
القرن الثالث عشر، وتمكن كثيرٌ من حاخامات اليهود من إقناع محاكم التفتيش بحرق
أجزاء من كتابه «دلالة الحائرين»، الذي أثر في الفيلسوف باروخ سبينوزا، الوريث
الحقيقي لفلسفة ابن ميمون خاصة في التفسير الطبيعي. رغم أن جهد ابن ميمون الفلسفي والديني
والعلمي يحتاج إلى اهتمام الباحثين لاستشراف علاقته بابن رشد وسبينوزا والفارابي
وأرسطو. ففي الوقت الذي نال فيه هؤلاء ما استحقوه من عناية، يبقى فيلسوفنا
العقلاني مهمشاً، على الرغم من المحاولات المتواضعة التي تقوم بها بعض المؤسسات
الأكاديمية في هذا المضمار.
ذهب ارنست رينان إلى أن فضل ابن رشد على اليهودية كان
كبيراً في حفظ تراثِه الفلسفي من الضياع وفي نقله إلى أوربا المسيحية بمعونة
الرشدي اليهودي إسحاق البلاغ مترجم ومحقق أعمال أبي حامد الغزالي.
يجد الأفق
الكوني لابن رشد أساسه من كونه الجسر الضروري لقناة الاتصال بين أوروبا اللاَّثينية
والفلسفة اليونانيَّة، وذلك بفضل جهود كبيرة تعود بالأساس إلى بعض اليهود الذين
رحلوا كتبه وملخصاته وشروحه وتفاسيره إلى مدرسة بادو الإيطاليَّة ومدرسة باريس الفرنسية
بعد أن تعرض لمضايقات سيَّاسيَّة بعد نفيه إلى أليسانة اليهوديَّة، ولهذا لم يكن
عبور فكره عبوراً سلِساً بل عانى من تبعات تيار التشدُّد والتزمُّت الذي لحق به
أدى نفسي ومعنوي في الآن ذاته باسم احتقار الدِّين والحط من قيمة الشريعة والرقي
بمكانة الفلسفة. ولهذا فإن دخوله إلى أوروبا أيضاً لم يكن سلِساً بسبب تحفُّظ بعض
الكهنوت.
جال ابن رشد
في مختلف المجالات العلميَّة: علم النفس، المنطق، الطب، الفلك، والفلسفة، والفقه
وعلم الكلام... فكيف لا يمكن لأثره أن يكون كونيّاً؟
انعقدت ندوات
دوليَّة كبرى في كولونيا بألمانيا وبوسطن بالولايات المتحدة الامريكية، وفاس
ومراكش، وتونس... والتي تشهد على كونيَّة ابن رشد، وسلَّطت الضوء على التأثير الكبير
الذي مارسه على الفكر الأوروبي الوسيط. لهذا أمكننا إيجاز "كونيَّة فكر ابن
رشد" في دعوته الصريحة ل:
1) "إعمال
العقل" في كل الأمور المتصلة بالوضع الإنساني.
2) مواجهته
للفكر المتزمت والمتشدد الذي خنق التفكير وسيَّجه بقيود وقوالب جاهزة تدعي
الاستناد على شرعيَّة الدين والتاريخ.
3) وقوفه في وجه
التسلُّط والطغيان أو ما سماه "وحدانيَّة التسلط" للتدليل على الاستبداد
بالرأي و"سيَّاسة البيوتات" (وفق تعبيره) لاقتناعه أن الدولة كلها وما
آلت إليه من فساد واستبداد، انحرفت عن المقاصد التي أعلنت عنها عند قيامها والتي
التمست الشرعيَّة منها.
4) دفاعه
المستميث عن العقلانيَّة ودعوته إلى التزام الحدود بين المجال الخاص والمجال،
وضرورة التقيد بالقوانين في المعاملات والعلاقات بين أفراد المدينة عن طريق احترام
السيَّادة حيث يقول: "بيِّنُ أنه لا سيَّادة إلا بإرادة المسودِين أو تبعاً
للقوانين الأولى، لأنه يُظنُ أيضا في هذه المدينة، أنه لا ينبغي أن يسمح لكل واحد
من الناس أن يفعل ما يشاء، لأن هذا يقود إلى أن يقاتل بعضهم بعضاً ويسلب البعض
منهم البعض الآخر" (الضروري في السياسة، ص 174)، وهو ما يعني بصريح العبارة
الوقوف في وجه الفتنة التي ابتدعتها السلطة السيَّاسيَّة لتقوية نفوذها وللتخلص من
المعارضين وكل من يقف في وجه الاجماع المصطنع باسم المصلحة العامة والشرعيَّة
الدينيَّة والتاريخيَّة.
5) حثه على
الحاجة إلى الإصلاح الديني للرقي بالوضع الإنساني، من خلال تصحيح العقيدة والشريعة
معاً، وهو ما لم يكن ممكناً دون إقرار التأويل العقلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق