الأربعاء، 8 نوفمبر 2017

نقد العقل الإسلامي لمحمد أركون: أو نحو تأسيس براديغم إنسي


العقلانية النقدية وسؤال المنهج وملابسات القراءة الحداثوية في الفكر العربي المعاصر

شنوف نصرالدين. باحث في الفلسفة. جامعة الشلف. الجزائر
   منذ أن حاد العقل العربي الإسلامي عن جادة الإنتاج الفكري والصناعة العقلية، وإنحرف عن طريق صياغة المفاهيم وبناء المعرفة، أضحى العقل العربي الإسلامي لا يجاري أسئلة الراهن ومستجدات العصر، إذ تحول هذا العقل من عقل فعال بتعبير الفرابي إلى عقل حبيس نزواته التأملية، منغلق على نفسه بنفسه، يعيش الهامش التاريخي بكل ما للكلمة من معنى، وجاءت النهضة العربية الثانية مع مشاريع العقلانية النقدية لتشخص حالة العقل العربي من خلال تفعيل أحدث الأدوات المنهجية والآليات المعرفية لمجاوزة هذا التأخر التاريخي للعقل العربي.


ويعتبر مشروع نقد العقل الإسلامي مع محمد أركون (1928­2010) من المشاريع الفكرية البارزة في حقل الإسلاميات والتاريخ والفكر العربي الإسلامي، اهتم أركون بنقد العقل الإسلامي من عدة أوجه "السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية...الخ، إذ أنه باشر مهمة هذا النقد انطلاقاً من كون أن المجتمعات الإسلامية أحوج بكثير إلى عملية النقد الذاتي، إذا ما باتت تفكر حقيقةً في تحقيق نهضة فعلية، متجاوزاً كل النزوعات الإديولوجية التي اتسم بها الخطاب الفلسفي العربي على طوال تارخيته، إنها رؤية إيبستيمولوجية تهدف إلى تفكيك الخطابات الأرثوذوكسية وإلى تخطي الفكر الدوغمائي ومحاولة تحليل الذهنية الغيبية والماورائية التي تحكم تفكير الإنسان المسلم منذ زمن طويل. لكن نجد للأسف أن الفكر العربي الإسلامي المعاصر « يبقى غارقاً أكثر من اللازم في حمأة الصراع السياسي والاقتصادي وضروراته، وإذن فهو يبقى بعيداً جداً عن القيام بالعودة النقدية اللازمة على مسلماته وفرضياته الخاصة بالذات»[1]، لهذا كان مسعى أركون كسر هذا الفكر التقليدي الأبوي بلغة هشام شرابي، من حيث هو خطاب أرثوذكسي دوغمائي يتنافى وقيم الحداثة الغربية " كالعقلانية و العلمية والفردانية "، على ما ميزه في كل مراحله من انغلاق على الذات والخوف من التفتح والتحرر، فكانت دعوة أركون بهذا الشأن صريحة في محاولته لدفع هذا العقل الإسلامي إلى تبني قيم الراهن، والخروج من قوقعة الماضي الذي سجننا، إلا أن « العقل الإسلامي العقائدي لا يقر بهذه التحليلات التفكيكية للبيانات المتراكمة التي بناها هو وأبقاها كما هي، ولا يزال يدافع عن "حاكمتيها" ويتخبط فيما جعله هو مستحيلًا التفكير فيه وما لم يفكر فيه»[2].
   إن مشروع نقد العقل الإسلامي من المشاريع الإبستمولوجية التي تصبوا إلى فك طلاسم المجتمعات الإسلامية من خلال مناقشة مواضيع هذا العقل الإسلامي مناقشة عقلية نقدية بأحدث مناهج علوم الإنسان والمجتمع والألسنية المعاصرة، ومحاكمة كل منتوجاته المعرفية محاكمة موضوعية بعيدا عن كل ممارسة إديولوجية ضيقة، والنظر إلى العقل الإسلامي نظرة تارخية أنثروبولوجية عقلية الهدف منها إعادة كتابة التاريخ الإسلامي .هذا من جهة، والتأسيس للاهوت إسلامي يتعايش ويتطابق وقيم الحداثة من جهة أخرى، وإستبدال النقاشات الإديولوجية الخلافية بنقاشات إبستمولوجية منطقية الغاية منها إستكمال النقد الإنساني ـ الذاتي ـ كما بدأ مع الغرب، والنظر إلى الحداثة باعتبارها هدف لابد منه، وعليه فإن نقد العقل الإسلامي كمشروع إبستمولوجي نقدي إنما جاء ليستبدل هذه النظرة التقدسية للتراث وللقيم والعادات والتقاليد والدين والمعرفة الكلاسكية السائدة. والدعوة إلى وضع حد للوهم الذي طالما ربط وحصر الإنسان العربي ـ شخصه وفكره ـ بالثبات على نوع واحد من الثقافة والقيم والتقاليد في عالم يتنافى وقيم الثبات والجمود . نظامه الصيرورة والحركة المستمرة. وكذلك مناقشة الذهنية الدينية ـ الإديولوجيا الإيمانية ـ في خضم النجاحات التي حققتها العقلانية في العالم الغربي، والإلحاح على الممارسة النقدية العلمية والمناقشة التحليلية لبنية وتجليات وحقيقة العقل الإسلامي وتممثلاته عبر تارخيته الطويلة .                           
    إن مشروع نقد العقل الإسلامي لا يهدف إلى تجديد الفكر الإسلامي العربي بقدر ما يهدف إلى تحرير هذا الفكر من سلطوية القداسة والمحرم والثابت، فذهب ليطرق مواطن اللامفكر فيه والممنوع التفكير فيه في الثقافة العربية الإسلامية، ومحاكمة كل أنواع الفكر الوثوقي الإيماني الجاهل لمنطق الإنسان الحداثي من قيم العقلانية والشك والمنطق والثورة والتحول، ثم دعوة الفكر إلى التجدد باستمرار، لقد آمن أركون بأنه لا سبيل لنهضة العقل الإسلامي إلا من خلال نقده نقدا جذريا فعالا صارما كما فعل الأوروبيين من ذي قبل مع المسيحية ومع كل تجليات الفكر و التفكير الفيلولوجي، إذ لا يضع أركون خطا فاصلا بين النقد الذي مارسه الأوروبيين للمسيحية في عصر النهضة  " الثورة ضد الكنيسة والسلطة الدينية " وبين النقد الذي يمارسه هو على العقل الإسلامي باعتباره تكملة لنقد العقل الديني عامة ولتحقيق النهضة المنشودة، وكأن مشروع نقد العقل الإسلامي هو تكملة لمشروع بقي له أن يشمل الإسلام، إن مايفعله أركون بالنسبة إلى التراث الإسلامي يشبه إلى حد بعيد ما فعله علماء أوروبا ومفكروها بالنسبة للمسيحية ، إنها محاولة للحفر في بنيات اللامفكر فيه في الثقافة الإسلامية السائدة وجعله مفكرا فيه، ذلك أن اللامفكر فيه لا يعني به أركون الوحي أو الظاهرة القرآنية وخلفياتها وتجسيداتها أو الظاهرة الإسلامية وتممثلاتها وتمفصلاتها، إن الإيمان بحد ذاته يشكل مجالا من مجالات الحقيقة البشرية التي لم تخضع بعد للدراسة التاريخية والفيلولوجية النقدية كما ينبغي على حد تعبير أركون، إنها محاولة جريئة لتحرير الوعي الإسلامي من كهانوت الوسطوية الظلامية، ومن قيم اللامنطقانية واللاعقلانية  المنافية والمتعارضة وقيم الراهن المعولم كالأنسنة والحرية والمساواة والديمقراطية وغيرها من قيم الحداثة الغربية، إن هذه التركيبات العقائدية الإيمانية التي تهدف إلى تنمية التقى والورع في النفس وتسيير شؤون الرأسمالي الرمزي لكل طائفة دينية على حد قوله سوف ينظر لها بصفتها تجليات ثقافية ومعطيات حاسمة لنمط التاريخ المتولد عن طريق الموقف الإيماني، ولا يهدف صاحب نقد العقل الإسلامي إطلاقا إلى وضعها بمنأى عن الدراسة التاريخية أو التقييم النقدي.                   
    لقد إنطلق مشروع نقد العقل الإسلامي من واقع هذا العقل الذي أضحى منذ مدة يعاني التخلف والتشرذم. من إنحطاط إقتصادي إلى تراجع أخلاقي وصولاً إلى تنكر لقيم الحداثة المعاصرة، فجاء ليدخل الإنسان المسلم من بعد نقد العقل الإسلامي التاريخ بعد أن كان ولايزال يعيش على هامشه بفعل إعتقاداته التواكلية وروحانيته اللانقدية وتحليلاته الميتافيزيقية لقضايا الواقع وجوهره، وبالتالي فإن أركون من وراء مشروعه نقد العقل الإسلامي، إنما يهدف بالأساس إلى زعزعة وخلخلة هذه المساحات المجهولة من الفكر العربي الإسلامي، وإدخالها مخابر العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال إخضاعها للمساءلة والنقد والتحليل والحفر، وبالتالي « القيام بتحرير ثان للمجتمعات الإسلامية بعد أن تم التحرر السياسي، وهذا التحرير الثاني هو التحرير الفكري، وهي دعوة ليست لمجرد إصلاح ديني وإنما لثورة فكرية عميقة تذهب إلى أعماق الأشياء »[3]، إذ آن الأوان في نظر أركون لفتح الآفاق أمام الفكر الإسلامي ليكون معاً، بوصفه إسلامي وعصري، فالإسلام في نظر أركون لم يعني ولا يعني الثبات والصمود والركود، إنه في الحقيقة « ليس كياناً جوهرانياً لا يتغير ولا يتبدل على مدار التاريخ، إنه ليس كياناً أزلياً لا يتأثر بأي شيء كما يتوهم جمهور المسلمين... إنه ناتج عن الممارسة التاريخية لفاعلين اجتماعيين شديدي التنوع والاختلاف من إندونيسيا إلى إيران إلى أقصى المغرب »[4]. وعليه يمكن القول حسب التصور الأركوني بأن الإسلام بما هو ناتج عن ممارسة تاريخية يعيد بناء نفسه وتحديد ماهيته في كل مرحلة من المراحل التاريخية وداخل كل سياق اجتماعي وثقافي وسياسي، إنه يتحرك بحركة التاريخ ويأبى الثبات والسكون، من هنا « ضرورة إعطاء الأهمية القصوى للثقل التاريخي والسوسيولوجي والنفسي لما ندعوه بالمخيال الديني، هذا هو الشيء الذي ينبغي أن يتركز عليه التحليل والاهتمام لفهم ما يجري حاليا »[5]، الأمر الذي لم تنتبه له الدراسات الكلاسيكية الاستشراقية سابقاً، بحيث ظلت دراسات سطحية فيلولوجية خالية من كل معطى منهجي حديث ومن كل بعد إيبستيمولوجي قلق، دون الاهتمام بالظروف التاريخية والاجتماعية والفكرية المحيطة بالظاهرة، فاقتصرت دراستهم على الوقائع المادية المحسوسة ضمن السياق المعرفي الذي يختارونه هم، «الباحث الوضعي أي "المستشرق الكلاسيكي" يهمل كل ما ليس واقعة محسوسة يمكن القبض عليها قبض اليد، وبما أن الإيمان شيء روحي أو نفسي فإنه لا يعترف بوجوده، يضاف إلى ذلك أن الباحث الوضعي يكتفي بتجميع المعلومات عن الموضوع المدروس ويرفض أن يذهب إلى أبعد من ذلك»[6].
     يحاول أركون في دراسته ونقده للعقل الإسلامي تجاوز القصور المنهجي والابستيمولوجي الذي عرفته الدراسات الاستشراقية ليعطي بذلك دراسة أكثر علمية وموضوعية، بحيث يرجع للمعنى حقه من الدرس والنظر والتحليل يجعل منه أفقاً للاستشكال والتساؤل، « إني لا أدعو العلماء المستشرقين إلى أن يكشفوا لنا عن المعنى الصحيح أو الحقيقي للنصوص معاشة من قبل المؤمنين وكأنها "مقدسة" أو "موحى بها"، إني لا أطلب منهم أن يبلوروا اليقينيات التي تتماشى مع عملية التقديس والتعالي، والأنطولوجيا، والروحانيات... فمهمة الباحث تكمل في "أشكلة" كل الأنظمة الفكرية التي تنتج المعنى وكل الصيغ التي اختفت ولا تزال حية والتي تَنتُجُ بدون تمييز المعنى وآثار المعنى »[7]، والأشكلة هنا هي أن يتعامل الباحث مع القضايا متجاوزاً كل أنواع الفكر الوثوقي والإيماني، أي ضرورة نزع صفة البداهة ووضع القضايا على محك النقد والمساءلة والمحاججة من جديد، إذ الاستشرق بذلك النمط من الدراسة، كان يتواطأ إيديولوجياً مع نظرة المسلمين لأنفسهم ولقضاياهم، إذ ما زادتهم الدراسات الاستشراقية إلا تحجراً فوق تحجرهم وتطرفا فوق دوغمائيتهم، « لقد فرض الاستشراق هذه النظرة المنكبة على "الإسلام" المتواطئة مع نظرة المسلمين أنفسهم، إذ أجمع كلاهما على أن هناك "إسلاماً" جوهرياً ذاتياً لا يقبل التغيير ولا يخضع للتاريخية ولا يزال مستمراً هو كالأقنوم الإلهي يؤثر في الأذهان والمجتمعات ولا يتأثر بها »[8].
 وبناءً على هذا يدعوا أركون في غير ما موضع إلى إخضاع الدراسات الاستشراقية نفسها إلى النقد والتحليل والمساءلة كون أنها تظل دراسات حيادية خارجية وباردة، خصوصاً وأنها تستخدم طريقة النقل الحرفي للأفكار الإسلامية، فبذلك تعمل على إحداث قطيعة خطيرة بين المعنى وتاريخيته، وبين النص وظروفه وإبستميه « نجد أن الاستشراق الحديث قد اتبع الطريق السهل المتمثل بمجرد نقل النصوص الإسلامية القديمة إلى اللغات الأوربية الحديثة دون أن يحللها من أجل تعرية فرضياتها الضمنية ويكشف عن بنيتها المفهومية والمصطلحية، ولم يطبق حتى الآن منهجية نقد الخطاب السائدة في البيئات العلمية الأوروبية على النصوص المكتوبة باللغات الإسلامية»[9]، الأمر الذي جعل من أركون يؤسس ما سماه بالإسلاميات التطبيقية كمنهجية جديدة في قراءة النصوص الإسلامية، الهدف من ذلك قراءة الإسلام قراءة معاصرة وحداثية متجاوزاً المنهجية الفيلولوجية التي كانت تعتمدها الدراسات الإسلامية الكلاسيكية، » إن الإسلاميات التطبيقية تريد أن تتجاوز هذه النقائص، وذلك بواسطة استثمارها وتوظيفها لنتائج العلوم الإنسانية وطرائقها، وإخضاع النص القرآني بشكل خاص لمحك النقد التاريخي المقارن وللتحليل الألسني التفكيكي، وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى»[10].
لقد عمل أركون على تأسيس الإسلاميات التطبيقية بوصفها منهج علمي في البحث، تساير اكتشافات العلوم الإنسانية والاجتماعية والألسنية، تلك العلوم التي خلخلت نظم المعرفة التقليدية وزحزحتها عن مساراتها، وكذلك مسايرة الأسئلة المنبثقة منها خصوصاً التي تشمل الإنسان والتاريخ والمعنى، يقول أركون: «فنحن من جهة نفتح علم الإسلاميات على الإشكالات الجديدة والتساؤلات التي تطرحها الآن علوم الإنسان والمجتمع، ونحن من جهة أخرى ننزل من علياء التبحر الارستوقراطي البارد الذي يتميز به الاستشراق التقليدي إلى أرضية الواقع الحي والمعرفة المنخرطة كلياً في هموم المجتمع»[11]، بذلك تنسجم الإسلاميات التطبيقية مع نفسها، تطبيقية من خلال تفاعلها مع المناهج العلمية والفلسفية الجديدة، وتطبيقية أيضا لأنها دائمة النقد الذاتي من وراء سعيها الدائم على المراجعة والمحاججة، ورجوعاً إلى أصل التسمية، تسمية الإسلاميات التطبيقية، فإن أركون يعترف بأن حيالها قد تأثر بالابستيمولوجيا التطبيقية لغاستون باشلار، وكذلك مفهوم الأنثروبولوجيا التطبيقية لروجي باستيد، معبراً على هذا أركون في قوله: « نتكلم عن الإسلاميات التطبيقية بذات المعنى عند روجي باستيد الذي أتى بالانثروبولوجيا التطبيقية »[12]، ويضيف في موقع آخر، « إن الدرس الإبستيمولوجي للنقد الباشلاري أتاح لنا أن نولي لعلم الكيمياء مكانته التي يستحقها في أعمال مسكوبة وفي العلم القروسطوي بشكل عام »[13]، ليفصح بذلك أركون عن المناهج الكبرى التي اعتمدها في نقده للعقل الإسلامي، كون أنه يتعامل معه في تاريخانيته من حيث هو عمل أنثروبولوجي، ومؤكداً في ذات الوقت على أهمية الخطاب الابستيمولوجي وتطبيقاته على القضايا الإسلامية، هذا الذي يعبر عنه الزواوي بغورة في قوله: « سيقوم أركون بتحليل تفكيكي ونقد إيبستيمولوجي لمبادئ العقل وآلياته  وخاصة المفكر فيه، واللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه »[14]، بهذا الشكل يعمل أركون على تطوير الدراسات الإسلامية وبعثها إلى أبعد حدودها المنهجية والابسيتمولوجية والعلمية، قصد تشكيل خطاب ديني معاصر علمي بالدرجة الأولى، يجعل من الظاهرة الدينية والظاهرة الإسلامية واللوغوس القرآني والحادث القرآني، كل هذا تحت مجهر التحليل والحفر والتفكيك، من أجل دفع الدراسات الإسلامية أبعد ما يكون نحو الجانب العلمي الدقيق، عكس ما كانت عليه، إذ أنها كانت حبيسة معطيات إيديولوجية وسياسية، مفتقدةً للروح الشكية والإستشكالية المتمخضة أساساً عن الممارسة الحقيقية لفعل التفلسف، « فالفيلسوف هو بالدرجة الأولى محلل ومتأمل، وهو نادراً ما يكون رجل جماهير، أو قائد للبشر، أو فاعل في التاريخ »[15]، وهذا الذي ينقص العقل العربي من دخول غمار الحداثة، إذ أن الحداثة الغربية لم تقم لها قائمة إلا من وراء قطع الصلة مع الأصول والمبادئ والأفكار القروسطوية في أبعادها اللاهوتية، من خلال هذا تتجسد محاولة أركون في تشكيل لاهوت جديد يتعايش ويتطابق مع مستجدات الراهن وقيم العصر، « إن تحديد مكانة العقل الإسلامي ومنتجاته الفكرية بالنسبة للعقل الحديث ومكتسباته النظرية يشكل الهدف العلمي لنقد العقل الإسلامي لأنه يسمح بالكشف عن ثغراته والكشف عن عيوبه وإعطائه دماً جديداً أو نفساً جديداً بغية تحديثه »[16]، والعقل الإسلامي إلى حد اللحظة لا يزال متمسكاً متشبثاً بالقرآن كمرجعية ثابتة لا يعتيرها شك، إذ أن القرآن لا يزال هو محور ومركز الثقل في الفكر الإسلامي، « إنه لا يزال يلعب دور المرجعية العليا المطلقة في المجتمعات العربية الإسلامية، ولم تحل محله أي مرجعية أخرى حتى الآن، إنه المرجعية المطلقة التي تحدد للناس ما هو الصح وما هو الخطأ، ما هو الحق وما هو الشرعي وما هو قانوني وماهية القيمة...إلخ »[17]، ومع هذا فإن القرآن رغم مركزيته وسلطته ومحوريته وفي تمفصله مع مجالات أخرى من الحياة، لا يزال لم يدرس حق الدراسة، إن الدراسات المقدمة حوله لحد الآن في نظر أركون دراسات أشبه ما تكون بالسطحية، قياساً إلى الدراسات التوراتية والإنجيلية التي ينبغي أن نقارنها بالدراسات القرآنية دوماً، يقول أركون: « إني إذ أقول ذلك أريد من الآن أن أربط بين مسألة القرآن وبين مسألة القطب التاريخي للحداثة من جهة، وبين القطب الأكثر تعقيداً أو الخاص بالظاهرة الدينية من جهة أخرى، قلت أكثر تعقيداً لأنه مستلحق ومحتقر في آن معاً »[18]، ليجدد أركون نظرته إلى الظاهرة الإسلامية من حيث علاقتها بالظاهرة القرآنية، تلك العلاقة التي تربط بين الجزء والمجموعة، ففي حين تمثل الظاهرة الإسلامية الدين الإسلامي  فإن الظاهرة الدينية تمثل مختلف الأديان التوحيدية من أجل مقاربتها أنثروبولوجيا وتاريخيا وابستيمولوجيا، فنحن لا نفهم الظاهرة الإسلامية إلا من خلال فهمنا لتطور الظاهرة الدينية، ونفس الأمر بالنسبة للظاهرة القرآنية التي تمثل جوهر الظاهرة الإسلامية، « فهذه الأخيرة ليست إلا تجسيداً تقريبياً من الناحية النظرية والعلمية للظاهرة القرآنية في التاريخ، إنها عبارة عن محاولة غير دقيقة وغير مطابقة في الغالب لتحسين وتجسيد المقاصد والمعاني الأولى للخطاب القرآني وليس فقط حرفيته »[19]، وبالتالي ضرورة التركيز على الجانب التاريخي والسوسيولوجي والنفسي، إذ لا مناص لنا حسب أركون من دراسة الظاهرة الدينية والإسلامية والقرآنية على وجه أخص إلا من بعد النظر في هذه الموضوعات وتحليلها في ضوء المناهج المتاحة « ينبغي أن نزحزح مناطق واسعة من الماضي باتجاه على النفس التاريخي، وعلم الاجتماع التاريخي وعلم الأنثروبولوجيا التاريخي »[20]، ولهذا يبدأ أركون في تحليله بالبحث عن معنى كلمة" القرآن" فيرى بأنها في اللغة العربة هي مصدر للفعل قرأ، وفي القرآن نجدها تدل على معنى التلاوة، بخلاف ذلك يرى المستشرقون حسب المنظور الأركوني بأن كلمة القرآن ليست ذات أصل عربي، وإنما ترجع بجذورها إلى السريانية أو العبرية، ومن هذا يستنتج محمد أركون بأن القرآن بما أنه نزل كوحي، أي كخطاب مسموع، فإنه وصف نفسه كذلك من خلال كلمة القرآن الدالة على كونه كلام يتلى، مطابقاً بذلك السمع لا القراءة، الأمر الذي أدى بأركون إلى القول: « الفكرة الأساسية تكمن في التلاوة المطابقة للخطاب المسموع لا المقروء، ولهذا السبب بالذات أفضل التحدث شخصياً عن الخطاب القرآني وليس على النص القرآني»[21]. كون أن القرآن أول ما نزل نزل شفاهياً  واتخذ طابع النص من بعد فعل الكتابة، نفس التحليل يطبقه محمد أركون على مصطلح الوحي، إذ هو بلسان المفسرين حسب أركون يمثل «إلهام يقدم نفسه "أو يتجلى" إما على صورة إيحاء يثيره الله في روح إنسان ما من أجل أن يتيح له القبض على جوهر الرسالة الإلهية، وإما على هيئة عبارة لفظية ملتبسة بلغة بشرية وموصلة إلى الأنبياء إما بواسطة ملك من الملائكة وإما مباشرة »[22]، عندئذ يمكن أن تتخذ كلمة القرآن معنيين، التلاوة والقراءة، وما يضفيه محمد أركون هو أنه لا يقصر الوحي على الإسلام أو على ما يعرف بالأديان التوحدية، إذ حتى الأساطير والحكماء يعبرون عن تجربة الوحي، « وتحديدنا الخاص الذي نقدمه عن الوحي يمتاز بخاصية فريدة، هو أنه يستوعب بوذا وكونفوشيوس والحكماء الأفارقة وكل الأصوات الكبرى التي جسدت التجربة البشرية عن الإلهي، إنه يستوعب كل ذلك ولا يقتصر فقط على أديان الوحي التوحيدي، وعلى هذا النحو يمكننا أن نسير باتجاه فكر ديني آخر غير سائد »[23]، غير مألوف خصوصاً إذا اعتبرنا القرآن من حيث هو نصٌ مقدسٌ في تداولية الخطاب الإسلامي الكلاسيكي، نصاً ككل النصوص اللغوية يخضع لنفس المساءلة والمحاكمة التي تخضع لها النصوص المعرفية بلا استثناء فأركون إذ يدعوا إلى قراءة النص القرآني، منطلقاً من أن لفظة "القرآن" في حد ذاتها مشحونة إلى أقصى حد بالعمل اللاهوتي والممارسة الطقسية، فإنه يلزم عن هذا التعامل مع النص القرآني من وراء إفراغ البطانة الأيديولوجية التي تشكل في ذاتها سلطة إضافةً إلى سلطة النص، « فالقرآن ليس إلا نصاً من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التعقيد والمعاني الفوارة الغزيرة، كالتوراة والإنجيل والنصوص المؤسسة للبوذية أو الهندوسية »[24]، لذلك حسب أركون لا يمكننا فهم النص القرآني إلا بمقارنته بهذه النصوص المماثلة، إذ من خلالها نحرر الدلالة وتقبض على المعنى لذلك تراه يؤكد: « ينبغي أن ننظر إلى القرآن من خلال مقارنته مع الكتب المتشابهة له في الثقافات الأخرى " أي مع التوراة والأناجيل" فالمقارنة هي أساس النظر والفهم »[25] ومن ثمة تحليل وفهم كل المستويات اللغوية والمعرفية والثقافية المرتبطة بالسياق الزمكاني لظهور النص وانبثاق الخطاب وتوظيفها في فهم اللوغوس القرآني وكيفية اشتغاله، والميكانيزم نفسه عندما يتعلق الأمر بالمسائل المتعلقة به، كالإيمان والخوف والعادات والمعتقدات، ومع هذا يجدر بنا التنبيه بأن مشروع نقد العقل الإسلامي لا يرغب من وراء نقده للعقل الإسلامي المساس أو الشك أو طمس أو المس بأي شكل من الأشكال بالتجربة الروحية الإسلامية المثلى، إنه عمل تاريخي عقلاني فلسفي أنثروبولوجي يطمح إلى تبيان الممارسات الأسطورية واللاهوتية غير المؤسسة والألاعيب التي يروج لها باسم الدين لقضاء مصالح إنية خاصة، والكشف على  أفكار خالية من أي معنى نشرت وسادت بفعل تفاعل مجموعة من الظروف التاريخية والإجتماعية والعقائدية باعتبارها جوهر المقدس وممنوع التفكير فيها، هكذا نجد أن العقل الإسلامي لا يعني إطلاقا القيام بعمل سلبي أو تدميري كما قد يفهمه بعضهم. ولا يعني أبدا المس بالتجربة الروحية الكبرى للإسلام الحنيف، وإنما هو يعني نقد التجسيد التاريخي والتطبيقي للمبادئ المثالية الروحية، فهناك الوحي وهناك التاريخ، هناك المثال الأعلى وهناك التطبيق على حد تعبير أركون. إنه يطمح إلى تفريغ هذا الجهل المؤسس إلى خارج الساحة الفكرية العربية الإسلامية من خلال دعوة وتحريض العقل " المنبثق . النابغ . الإستطلاعي " على النقد والتفكيك والتفكير في التاريخ الإسلامي وإعادة قراءته وفق أحدث مناهج علوم الإنسان والمجتمع والأنثروبولوجيا.    وعلى ضوء هذا قرأ محمد أركون سورة التوبة، إذ حاول من خلالها القبض والتحكم في الآليات الموضوعية للقراءة عامةً والقرآنية خاصةً لما يحملهُ الخطاب القرآني في الثقافة العربية الإسلامية من رمزية كبيرة، وبذلك قد اقتنص وافتتح محمد أركون فضاءً جديداً للتحري العلمي عن الظاهرة الدينية والقرآنية على وجه أخص،في خضم هذا يتحدث محمد أركون عن ترتيب الصور والآيات في المصحف باعتباره ترتيب خالي من أي مضمون منطقي وغير مستند في آن على أي سند عقلي يقول أركون: « نحن نعلم أن نظام ترتيب السور والآيات في المصحف لا يخضع لأي ترتيب زمني حقيقي ولا لأي معيار عقلاني أو منطقي »[27]، الأمر الذي يحفز أركون لإعادة النظر في هذا الترتيب من خلال استعمال المنهج النقدي الفيلولوجي والتاريخي لعقلنة هذا الترتيب، «من المعلوم أن النقد الفيلولوجي التاريخي للنصوص المقدسة كان قد طبق سابقاً على التوراة والأناجيل دون أن يولد أي انعكاسات سلبية بالنسبة لمفهوم الوحي، ومن المؤسف له أن هذا النقد لا يزال مرفوضاً من قبل الرأي العام الإسلامي »[28]، مرجعاً أركون سبب هذا الرفض والمعارضة إلى البعد السياسي والنفسي في آن معاً، وبالتالي كان هدف أركون المتمثل في قياس المسافة الموجودة بين مواقع إنتاج المعنى وبين الأنماط الفكرية الإسلامية المحددة للدلالة، ذا بعد إيجابي بحيث أن أركون ينظر إلى القرآن بوصفه مصنعاً للمعنى، ومؤسسة لإنتاج الدلالة، يقف أمامها بصلابة الفكر الكلاسيكي الدوغمائي الذي يجعل من تحريرها أي الدلالة أمراً غير ممكن حالياً أو مستحيلاً بأي حال من الأحوال، « ذلك أنه من الأهمية القصوى بمكان أن نعلم أن الثقافة الكلاسيكية التي لا يزال الوعي الإسلامي متعلقاً بها حتى الآن هي عبارة عن ثقافة منغلقة كلياً داخل الفضاء العقلي القروسطوي »[29]، ليعود أركون ويؤكد بأن مشروع نقد العقل الإسلامي في قراءته للنص القرآني، إنما طور القراءة الاستشراقية المتمحورة حول حرفية النص، مؤكداً على أهمية الأنظمة السيميائية غير اللغوية "الميثولوجيات والشعر والموسيقى" ودور العملية التأويلية في اقتفاء أثر المعنى وتحديده، خصوصاً وأن النص القرآني في تصوره مثال للخطاب الأسطوري، أي «البنية اللغوية والأسلوبية للقرآن، هي بنية مجازية رمزية خيالية في معظمها، فالمجاز والاستعارة والحكاية وضرب الأمثلة تخترق كلية الخطاب القرآني من أوله إلى آخره»[30]، الأمر الذي يزيد من أهمية العملية التأويلية في هذا النص بوصفه نصاً لغوياً خالصاً، محاولاً أركون تخليص وفك الارتباط بين النص القرآني بوصفه نصاً متعالياً إلهيا، والتفاسير التي هي حوله، بحيث أن العقل الإسلامي ما فتئ يفرق بين النص الأصلي والنص الشارح للنص الأصلي، « إن مسلمي اليوم يجدون صعوبة كبيرة في الفصل بين المكانة اللاهوتية للحظاب القرآني وبين الشرط التاريخي واللغوي للعقل الذي ينتج خطابات بشرية ارتكازاً على العقل الإلهي »[31]، بذلك يكون أركون من خلال مشروعه نقد العقل الإسلامي قد حاول تحرير النص القرآني أولاً من سجون المطلق والتعالي، كما أنه حاول ربطه بالمجال العلمي وإخضاعه للنقد والمساءلة الابستيمولوجية في آن، وبتعبير أدق، حاول أركون إجراء شكلين من التحديث، «تحديث لاهوتي يحرر النص من النص، وتحديث فلسفي يحرر العقل من النص»[32]، إذ راهن أركون على فك الرابطة بين النص الأساسي في الثقافة العربية الإسلامية وما بين الخطابات الشارحة له، إنه عمل تأويلي بامتياز، عمل نقدي فكري قد طرق من خلاله محمد أركون مواطن مظلمة في تاريخ الفكر الإسلامي سماها هو بمواطن اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه في الثقافة الإسلامية، مدركاً صعوبة الأمر خصوصاً في ظل الثقافة والسياسة السائدة، تلك الثقافة التي تخشى التغيير وآلياته وتأبى الحركة وقوانينها، وتمقت النقد وتغفل عن مكاسبه، معبراً عن هذا محمد أركون حينماً علق على محنة المفكر نصرحامد أبوزيد إذ يقول: « إن المسكين نصر حامد أبوزيد الذي نشر دراسة متواضعة عن القراءة الألسنية للقرآن، راحوا يلاحقونه في محاكم القاهرة... وويل لأولئك المغامرين الذين يخاطرون بأنفسهم في هذه الأرضية المليئة بالألغام »[34]. هذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول مكانة الممارسة التأويلية في الثقافة العربية وموقعها وطبيعة اشتغالها بالمقارنة مع الفلسفة الغربية، ثم هذا ما يستفز العقل على التفكير ما إن كان التأويل منهجاً أصيلاً في الفلسفة العربية أم أنه منهج غريب بغرابة المشتغلين عليه.
لقد طرح محمد أركون العديد من الإستفهامات الهامة جدا المتعلقة بعقل الإسلامي، ولعلى أهمها: سؤال الإنسان الذي طالما شغل محمد أركون إيماناً منه بقيمة الإنسان المثلى ودوره في تفعيل الفعل الحداثي. كيف لا؟، والإنسان في ذاته قيمة من قيم الحداثة، بل قيمة كل القيم .
     حفر محمد أركون في تاريخ العقل الإسلامي باحثاً عن تجسدات وتمثلات سؤال الإنسان عبر مسار تارخية هذا العقل الإسلامي وإمتداداته الطويلة، « إن دراسة الأدبيات الفلسفية للقرن الرابع الهجري/العاشر ميلادي تتيح لنا أن نتأكد من وجود نزعة فكرية مرتكزة حول الإنسان في المجال العربي الإسلامي. وهذا ما ندعوه بالإنسية العربية، بمعنى أنه وجد في ذلك العصر السحيق في القدم تيار فكري يهتم بالإنسان وليس فقط بالله »[35]، وبحث أركون عن ما سماه بالنزعة الإنسانيةـ الإنسية ـ في تاريخ الفكر الإسلامي، وفي خضم دراساته لمحطات الفكر الإسلامي، وجد من العرب الوسطويين من اهتم بسؤال الإنسان، يأشكله ويثيره بصوت فلسفي، ويبعث به نحو صميمية الدرس الفلسفي العربي، وهذا ما تجسد في أعمال مسكويه والتوحيدي، « كان التوحيدي إحدى الشخصيات الفكرية النادرة في التاريخ الإسلامي والتي انقضت وثارت باسم الإنسان ومن أجل الإنسان »[36]، ويقول أركون عن مسكويع باعتباره من رواد الإنسية العربية « إن زعماء هذا التيار الإنساني والعقلاني لم يكونوا فقط أولئك الفلاسفة الكبار الذين كثيرا ما يستشهد بهم الدارسون والمستشرقون الغربيون: كالفرابي، وابن سينا، وابن رشد، والكندي، والرازي... وإنما كانوا أيضا مفكرين أقل شهرة كصاحبنا مسكويه نفسه» [37].
   لقد حاول محمد أركون الوقوف على ما يسمى بالنزعة الإنسية* في الفلسفة والثقافة العربية عبر تاريخها الطويل، فوجد بأن ثمة علاقة قوية بين ما يسميه الإنسية وكل ما يتعلق بالممارسة العقلانية، إذ لا يمكننا في نظره أن نتصور قيام فلسفة إنسية في ظل الغياب أو الإبتعاد عن النظر العقلاني والتفكير بمقتضى اللوغوس الإنساني في شكله الحداثي، وكأن العلاقة بين العقلانية والإنسية ـ سؤال الإنسان ـ علاقة تلازمية غياب الأول ينتج عنه غياب الثاني بالضرورةبحيث أن « كل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله يعتبر تيارا إنسيا أو عقلانيا أو علمانيا »[38]، وليس المراد بالعلمانية هنا، إحداث ذلك الفصل بين السياسي والديني، بين المدني والإديولوجي، بين المعاش والماورائي، إنما العلمانية هنا إن دلت، إنما تدل على ذلك القدر من المعقولية التي تحظى بها الممارسة العلمانية  من خلاله إبتعادها عن الدين، « نلاحظ أن ساحة العقل مغلقة، والعقل سجين الرؤية اللاهوتية للوجود ومتمركزة حولها، وسجين الكتاب المقدس »[39]، وبالتالي لا غرابة إن قلنا بأن العقلانية الأركونية إنما تقتضي من بين ما تقتضيه، الإبتعاد عن الأرثوذوكسية والسياجات الدوغمائية التي تفرضها التعاملات الدينية والعقليات الإيمانية التي من شأنها أن تكبل التعاطي مع الوقائع والتفكير في القضايا تفكيرا مقيدا لا حر.
   إن بحث محمد أركون عن النزعة الإنسانية في التاريخ الإسلامي، ليست دعوة منه إلى الرجوع إلى الخلف لإحياء هذه النزعة، أو الأخذ بتجربة التوحيدي ومسكويه وبعثها في هذه  
الظروف المحيطة الآن، إنما الهدف الأسمى من كل هذا تبيان النضج العقلاني الذي وصل إليه العقل الإسلامي في تلك الفترة من الزمن،" ربما كان توهم ـ يقصد القارئ ـ أننا ندعو للعودة إلى الوراء من أجل حل المشاكل الحاضرة. ربما كان توهم أننا نقدم الإنسية العربية في العصر الكلاسيكي كبديل عن الإنسية الأوروبية أو الغربية الراهنة. في الواقع إني ما إلى هذا قصدت »[40]. توقف أركون عند الموقف الإنساني ـ الإنسان قيمة عليا ـ في الفكر العربي خصوصاً مع التوحيدي عندما قال [ إن الإنسان أشكل عليه الإنسان ]. إذ يرى أركون بأن التفسير السليم لهذه العبارة هو أن « الإنسان يتحمل كل  مسؤوليته بصفته كائنا عاقلا ويلتزم بكل مرونته وطاقته الذهنية بصفته شخصا مستقلا ذاتيا يفكر بنفسه ويتكئ على ذاته »[41]، وعلى هذا الأساس يعرف محمد أركون الموقف الإنساني بالمعنى العالي أو السامي للكلمة بذلك « النضال الدؤوب والعنيد الذي يقوم به الإنسان للرد على ذلك الإذلال والفشل والإحتقار والتراجع الذي يشعر به بسبب حصول العنف بسبب قدرته على منع اندلاع العنف»[42]، وفي السياق ذاته يشير محمد أركون بأن بروز النزعة الإنسية في أي وسط ثقافي وإجتماعي. إنما هي نتيجة لتوافر مجموعة من الأسباب أهمها السيطرة على العنف، يقول أركون « هناك عدة شروط ينبغي أن تتوافر مسبقا لكي نتوصل إلى نزعة إنسانية محسوسة أو واقعية ـ أي لا تجريدية ولا شكلانية ـ، ومن بين هذه الشروط ينبغي أن نذكر ضرورة السيطرة على العنف »[43]، كما أن العنف الذي يقصده محمد أركون ليس بالضرورة ذلك العنف المحسوس. كالعنف الجسدي أو العنف الصوتي وما شابه، إنه يقصد من بين ما يقصد بالعنف، ذلك الإقصاء للآخر ولرأي الآخر ومنطق الآخر في مقابل التعصب للأنا ومرافعتها. و يقصد أيضا ذلك العنف الإيديولوجي الذي طالما ما مارسه المجتمع العربي على صفوته ونخبته ومثقفيه إذ تم إقصاءهم في عديد الأحيان بواسطة ما يسمى بالتعنيف الإيديولوجي والتعنيف أو العنف المقدس .
     يطرح محمد أركون سؤالاً عريض وصريحا يتمثل في ذلك الإستفهام الكبير الذي أثاره مسوغ كما يلي: « ماهو سبب إزدهار النزعة الإنسية أثناء العصر الكلاسيكي. ثم إنقراضها بعد ذلك من ساحة المجتمعات الإسلامية والعربية ؟، ماهو هذا القدر التراجيدي الذي أصابها فجعلها تختفي وتموت؟ »[44]،إنه سؤال صميمي وجوهري في آن، فإذا كان قد علم عندنا بوجود نزعة إنسية في وقت من الأوقات تحترم الإنسان لكونه إنسانا، تقبل بالآخر كما تقبل بالذات، تدعوا إلى التحرر والإنفتاح بالقدر الذي تؤيد به التقدم والتطور والحياة، تدعوا إلى الأمن، محبة للطبيعة، منتغمة مع روح الفن الجذاب، تسموا بالإنسان في فضاءات العقلانية العربية التي أنتجها هذا العقل نفسه. فلماذا لا نعثر عليها الآن؟، هل آليات هذا العقل تعطلت وعجزت لكي تبدع لنا روحا إنسية عربية جديدة ؟، هل المشكلة في العقل الإسلامي العربي؟، وإن كان نعم؛ فلماذا في الأمس القريب إستطاع بعث مثل هكذا تشكلات عقلانية حول الإنسان؟، هل ثمة عوائق تحيل دون أن تبعث مثل تلك النزعة الإنسية في راهننا اليوم؟، وإن كان نعم؛ فما طبيعة هذه العوائق يا ترى؟، ونستحضر هنا قول فتحي التريكي في فلسفة الحداثة بأن « العقل واحد ولا نستطيع تقسيمه بحسب الجغراسياسية ... وليس العقل خاصية قوميات ضيقة »[45]، نطرح مثل هكذا قضايا خصوصا وأننا نعيش في عصر الحداثة، بإنسيتها المنبعثة من هنا وهناك، ثم التأكيد على وجود نزعة إنسية عقلية في البيئة العربية في عصر التوحيدي ومسكويه، يقودنا نحو تساؤل آخر ربما من الخطورة بمكان، ذلك أن الإنسية العربية كما يتوقف عليها أركون إنما هي إنسية متولدة من عصر الظلام، عصر القروسطوية المعروفة بضبابية عقلانيته وميولاته الدينية وتشبعاته الإديولوجية وتحالفاته ضد العقلانية، عصر التراجع الفكري والإنحطاط الفلسفي والذبول والتقهقر المعرفي، « إن سيادة الفكر اللاهوتي في جميع مظاهر الإنتاج الثقافي في الوطن العربي تعني بالضرورة غياب الممارسة النظرية الفلسفية من حقل الإنتاج النظري العربي المعاصر »[46]، كل هذا ونجد النزعة الإنسية باعتبارها نزعة عقلانية إنفتاحية تجاوزية لكل الذهنيات المغلقة حول الأنا وحول التاريخ بالمعنى ضيق الأفق. نثير النقاش ونحن على دراية الفكر الوسطوي كان كله مصوبا لله وليس على الإنسان. ذلك أن الإنسان قيمة محكوم عليها بالفناء والزوال، وبالتالي التركيز على الله في تلك الفترة كانت له مبرراته التاريخية. كل هذا يجعل منا أمام مجموعة من الأسئلة المفارقة والمناقضة لمنطق العيش والحياة والتاريخ العام . أو بتعبير أركون إن تاريخنا نحن كعرب ومسلمين « تاريخ معكوس: إنه يمشي عكس التيار، أقصد عكس تيار الحضارة والرقي »[47].
     لقد حاول أركون تشخيص الكيفية التي بها تراجعت النزعة الإنسية وذبلت في الفكر العربي بعدما بلغت ذروتها نظريا وعمليا في العصر الكلاسيكي، ليتوصل في هذا الصدد إلى أن الموقف الإنسي من حيث هو عقلاني يضمحل ويتراجع بالقدر الذي يطغى عليه اللاعقلاني واللاإنساني، إن انتشار الفكر الفيلولوجي والأرثوذكسي وبروز الموقف الأصولي كموقف ديني وظهور الفرق والأقليات والعادات والتقاليد الدينية التي أضرب عنها الوعي الحداثي الراهن وكذلك تفشي الإديولوجيات الغيبية والإيمانية والوثوقية، كل هذا أدى بالنزعة الإنسية والثقافة العقلانية إلى الموت والفناء، « فمما لا ريب فيه أن إنتشار الأصولية يعني إضمحلال الموقف العقلاني، وكذلك إضمحلال الفلسفة التي تتمحور حول الإنسان وتعتبره قيمة القيم »[48]. وعليه فإن أركون لا يفصل بين النزعة الإنسية والعقلانية إذ يرى بأن إنتشار النزعة الإنسانية مرتبط بازدهار النزعة العقلانية.
   إن ما نعانيه من تخلف وتشرذم على كل المستويات الثقافية والفكرية والفلسفية...الخ، إنعكس على تمثلات هذه النزعة الإنسانية في البيئة العربية الإسلامية، ولكن بعد زوال كتب الأدب والفلسفة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة والدخول في عصر الإنحطاط: إختفت النزعة الإنسانية والعقلانية العربية طيلة قرون عديدة، وعلى الرغم من الإعتراضات الكثيرة التي أبان عليها أركون من دراسات إستشراقية كونها دراسات سطحية وغير عميقة، فإن أركون يتفق مع المستشرقين في كون أن ثمة نوع من النسيان حصل للموقف الإنساني في البيئة العربية والإسلامية، « إن العلماء المستشرقين يتفقون معي على القول بحصول نسيان للموقف الإنساني في الساحة الإسلامية، بل وحصول تصفية له وللأعمال الفلسفية والعقلانية التي كانت قد إزدهرت في القرنين الثالث والرابع للهجرة بشكل خاص»[49]. وعلى هذا الأساس يتساؤل أركون عن لماذا حل محل النزعة الإنسانية والعقلانية بعد اختفائها، ويجيب عن تساؤله هذا بشكل واضح وبلغة سلسة بقوله: لقد حل محلها« الأرثوذكسية الضيقة والجامدة التي تزال تسيطر علينا منذ عصر الإنحطاط »[50].
   إنه لمن الضرورة بمكان القول أو الدعوة إلى إحداث وإنتاج نزعة إنسانية جديدة تتطابق والإنسية الحداثية، وتتعايش معها وتسمو وتزدهر بالإحتكاك بها. ولكن لن يكون هذا إلا إذا تحققت مجموعة من الشروط التي تسمح لنا بخلق ما نسميه بالموقف الإنسي في تمفصلاته الراهنية وفي حيثياته المعاصرة، وفي هذا يرى أركون أنه لا معنى للتحدث عن وجود موقف إنساني في مجتمع ما إذا لم يكن هذا المجتمع يسمح بالتعددية، فأن تكون إنسانيا تحترم النزعة الإنسانية فهذا يعني أن تقبل بوجود الآخر كإنسان، حتى ولو كان هذا الآخر مختلفا عنك في اللون أو الدين أو المذهب أو الطائفة أو اللغة، ثم إنه لمن الضرورة أيضا أن تتوافر ما نسميه بالشروط الواقعية التي تسمح للإنسان بممارسة إنسانيته على أكمل وجه من دون أية عوائق إجتماعية أو سياسية أو فكرية إبستمية أو إيديولوجية، إذ إننا لا نتصور وجود موقف إنسي في خظم صراع سياسي، وتضارب عرقي وإيديولوجي، وتفكك إجتماعي، وإنحلال أخلاقي، وسقوط إقتصادي ...الخ من المشاكل التي تحيل دون ظهور أي ممارسة إنسانية حداثية.
قائمة المصادر والمراجع:
1- محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، تر: هاشم صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت.لبنان، المركز الثقافي العربي، المغرب.لبنان، ط2، 1996م، ص161.
2- محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال..." أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟"، تر: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت.لبنان، ط2، 1995م، ص21.
3- زكي الميلاد، الإسلام والحداثة " من صدمة الحداثة إلى البحث عن حداثة جديدة، الانتشار العربي، بيروت،ط1، 2010م، ص208.
4- محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال..." أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟"، مرجع سابق، ص9.
5- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي"، تر: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت.لبنان، ط1، 1999م، ص24.
6- المرجع نفسه، ص20.
7- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص22.
8- محمد أركون، من فيصل التفرقة إلى فصل المقال..." أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟"، مرجع سابق، ص22.
9- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، تر: هاشم صالح، دار النهضة العربية، بيروت.لبنان، مركز الإنماء القومي، بيروت.لبنان، ط1، 2007م، ص8.
10- الزواوي بغورة، ميشيل فوكو في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.لبنان، ص67.ص86.
11- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي"جيل مسكويه والتوحيدي"، تر: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت.لبنان، ط2، 2006م، ص67.
12- محمد أركون، تاريخية العقل العربي الإسلامي، مرجع سابق، ص57.
13- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي"جيل مسكويه والتوحيدي"، مرجع سابق، ص62.
14- الزواوي بغورة، ميشيل فوكوفي الفكر العربي المعاصر، مرجع سابق، ص71.
15- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، مرجع سابق، ص26.
16- فارح مسرحي، الحداثة عند محمد أركون، الدار العربية للعلوم ناشرون، لبنان،منشورا الاختلاف، الجزائر، ط1، 2006م، ص75.
17- محمد أركون، الفكر الأصولي وإستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص23.
18- المرجع نفسه، ص23.
19- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، مرجع سابق، ص24.
20- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص27.
21- محمد أركون، الإسلام الأخلاق والسياسة، المرجع نفسه، ص117.
22- محمد أركون، الفكر الإسلامي " نقد واجتهاد "، تر: هاشم صالح، لافوميك، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، " د.ط "، " د.س "، ص75.
23- محمد أركون، الفكر الإسلامي " نقد واجتهاد "، مرجع سابق، ص80.
24- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص36.
25- المرجع نفسه، ص22.
26- محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، مرجع سابق، ص36.
27- محمد أركون، الفكر الإسلامي" نقد واجتهاد"، مرجع سابق، ص86.
28- المرجع نفسه، ص82.
29- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي" جيل مسكويه والتوحيدي"، مرجع سابق، ص62.
30- زكي الميلاد، الإسلام والحداثة، مرجع سابق، ص215.
31- محمد أركون، من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، تر: هاشم صالح، دار الساقي، بيروت.لبنان، ط1، 1991م، ص96.
32- جورج طرابيشي، من النهضة إلى الردة" تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة"، دار الساقي، بيروت.لبنان، ط1، 2000م، ص44.
33- محمد أركون، من الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، المرجع نفسه، ص7.ص8.
34- محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني" كيف نفهم إسلام اليوم؟"، تر: هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت.لبنان،"د.ط"،"د.س"، ص59.
35- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي"جيل مسكويه والتوحيدي"، مرجع سابق، ص605.
36- المرجع نفسه، ص19.
37- المرجع نفسه، ص605.
38- المرجع نفسه، ص605.
39- فارح مسرحي ـ الحداثة في فكر محمد أركون ـ الدار العربية للعلوم ـ ناشرون ـ بيروت . لبنان ـمنشورات الإختلاف ـ الجزائر  ـ ط1 ـ 2006م ـ   ص75.
40- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي"جيل مسكويه والتوحيدي"، مرجع سابق، ص30.
41- المرجع نفسه، ص609.
42- المرجع نفسه، ص39.
43- المرجع نفسه، ص36.
44- المرجع نفسه، ص10.
45- فتحي التريكي ـ  نقلا عن فارح مسرحي ـ الحداثة في فكر محمد أركون ـ المرجع السابق ـ ص69.
46- ـكمال عبد اللطيف، عبد السلام بنعبد العالي و آخرون ـالفلسفة في الوطن العربي المعاصر ـ الفصل 9ـ كمال عبد اللطيف ـ طبيعة الحضور الفلسفي العربي في الفكر العربي المعاصر ـ بحوث المؤتمر الفلسفي العربي الأول ـ الجامعة الأردنية ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ ط2 ـ نوفمبر 1987 ـ بيروت لبنان ـ ص214.
47- محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي"جيل مسكويه والتوحيدي"، مرجع سابق، ص11.
48- المرجع نفسه، ص12.
49- المرجع نفسه، ص15.
50- المرجع نفسه، ص14.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق