الأحد، 24 ديسمبر 2017

الدين الذي في نفسي...


جمال أيت بلعيد
هو دين، لا إله فيه ولا قديس، لا ملاك ولا إبليس، فقط سعي وراء فن فريد في العيش، قيامه لم الحياة بالحب، وعموده اقتفاء أثر المشترك أينما وجد، ورهانه رفع غشاوة  يقين تملك قلوب الناس، فجعلهم، كل من موقعه وزاوية نظره، لا يستحي في قتل كل إمكان لقيام حياة المعية بالقول: وما ترون؟ وإنما أنا الذي أرى!


تجمعنا حكاية البدء كما المصير المشترك، وما بين هذا وذاك أعمار قدرت، إمكانات للعيش بعدد البشر وأكثر، وكينونات لا شبه فيها؛ أصالة مستعصية على النسخ، فرادة أبية على الطمس، ذوات جُعل لها الجوهر في الضعف والنقص، تعلمت من طول الخيبات والفشل، أن المفتقد هنا متوفر هناك، كما أن المتقن هنا مجهول هناك. الكل ناقص، وكماله لدى الآخر، تلك كانت الحاجة الأولى للمشترك، ذلك الذي هو للكل، من دون أن يكون لأحد.
غالباً ما يجنح الإنسان لمشتركات لا أصالة فيها، فقط مضافات وجدت سلفاً، فرضها واقع القرابة والجغرافية، ورسختها آليات المحافظة، حتى يكبر الشخص منا فتراه ينافح عنها باستماتة، يعلي صوته عالياً نصرة لهوية متوارثة، يصيح في وجه الغير الذي لا يشاركه الصراخ، أنه مستعد للموت في سبيل القضية!
كلنا وجدنا هكذا، منحنا الحياة ولم نمنح حرية اختيارها، طرحنا السؤال في خلواتنا وما ارتاح لنا بال، الواقع واحد وفي القلب آمال. واقع يقول أن لا مندوحة عن المواجهة، فالحياة معطى وفي رأسمالنا فقط الهنا والآن، حاضر يستحيل رفعه وتجاهله، وفي الحفاظ عليه كملك للجميع، يُستنفر العقل والقلب للمهمة.
منذ فجر التاريخ والإنسان يدبر مشتركه، يحتكم في ذلك للتاريخ وشروط عصره، تجربة نتمثلها نحن كدروس للإعتبار، نأخذ منها ما يوافق روح عصرنا، والعقيم فيها نشرفه باحترام الموتى؛ نصنع له تذكاراً، تراثاً نطالعه للمتعة من حين لآخر.
يبقى الصراع في الأخير صراعاً حول تملك الحقيقة، يعتقد الكل أنه شرفته بالوفاء، فلسفة كانت أم نصوصاً مقدسة، شاهداً عليها المرء أم بلغته من المرويات، غير مكترث كثيراً بسؤال المصدر والتشكل والقيمة. هي أداة سيطرة في الأخير، سلطة بشرعية مفترضة، تقدس ما للأنا وتبخس ما للغير، حرب غير معلنة، كرسي عرشها الإعتقاد، وسلاح هجومها احترام شرائع الغير ظاهراً، وفي الباطن، رثاء وطلب الهداية لكافر أضَّل الطريق هنا وهناك! نفاق وتعالي يهدمان آخر جسرٍ ممكن للتواصل والحوار.
الدين الذي في نفسي لا يبتغي أتباعاً ولا يتوسل الخطابة لحشد الصفوف، لا يدعي يقيناً ولا يبخس الكفر حقه، وسط يتجاذبه الظلام والنور، إن كان مقبولاً لدى الناس لا يهلل أنه الحق ما دام الباطل يتهدده دوماً، بل يشكل آخره الذي يجادله ويتبادل معه المواقع. أما إن بدأ الناس يشيرون إليه بالفشل والتقادم، فلا يغطي عريه بثوب المؤامرة المكشوف، ويشيطن العالم كله فقط ليوهم نفسه أنه في المقدمة، يتحدث عن مثال سير السفينة ونباح الكلاب، وهو لا يعلم أن الكلاب لا تعلي من حدة نباحها سوى في وجه غريب، نشاز لا ينتمي لهذا الزمان.
أول الطريق نقد الذات، اعتراف بحالها مهما كان، تركيز على الداخل لا الخارج، القريب أولى من البعيد، فالفشل قبل الإفشال، والاستغلال أوله وشرطه القابلية للاستغلال، وما بين هذا وذلك، وجوب حضور رغبة صادقة في النقد، وحرية في الرأي، ومساءلة الأصل قبل الفرع، ووضوح في الطريق والمسعى وصدق في الجد. غير ذلك، سير رقم ألف نحو الجدار، رحلة سيزيفية لا تنتهي، خط الوصول فيها وخط البداية سيان.
لم يعد الحاضر يقبل بمكان للبلهاء والنائمين على أساطير الانتقاء السماوي، خارج التاريخ هم بل أضل سبيلا، يتوسلون النفخ في ذات تفضحها الثقوب والعيوب، تأخذ العلم عنعيات ومرويات، تُجلس أشخاصاً عروشاً لا قِبل لهم بها، تعاود معارك الماضي ولا نية لها في مبارحته، الواقع في عرفها بني مرة واحدة وإلى الأبد، مطلق هو فَكَرَ لكل الأزمان والأمكنة والشعوب، منبع يحسب نفسه، الابتعاد عنه بدعة، ضلالة فنار، وبئس التفكير.
الدين الذي في نفسي نسبي بالضرورة، لا عبادات فيه ولا طقوس ولا مبشرين ولا أمراء، مواطنين وكفى، يشغلهم حاضرهم الذي هو دوماً آتٍ، وكل يوم هو في شأن، أفقه عدالة وكرامة وقيمة مواطن مهضومة، وسعيه ديمقراطية حقة لا ممنوحة، شرائع تتكلم لغة الأرض واللحظة لا السماء وغابر الأزمان، ومشرعيها أناس يصيبون ويخطئون كأيها الناس. انسداد تاريخي يأبى أن يُرفع ما دامت مطالبنا لم تبرح الجيل الأول من الحقوق؛ الحق في التطبيب والدراسة والتعبير. فارق تاريخي بمئات السنين، أحلامنا وأمانينا هي واقع أمم أخرى تفصلنا عنها أقل من ساعة سَفَر! 
الدين الذي في نفسي تشغل فيه الذات قطب الرحى، شرط إبداعها الخروج من سجن الجماعة، وحرية مطلقة ما دامت لا تضر الآخر في شيء، اختلاف سنني لا تسلط فيه، ولا تزعجه تنورة فتاة تأكل سندويتشا من دون أن تنزل عليها أيادي أخر حراس المعبد القديم، ولا أن تطرب أذنيها سمفونية الضلع الأعوج وحديث الحمار والكلب الأسود.
الدين الذي في نفسي هو مقابل دين ما عاد يحاكي آمالنا، وما يفتأ يعيدنا عنوة لسلف لا يتكلم لغتنا، يود منا مغادرة حاضرنا والسير في الصحراء والتقلب بين الجواري في الخيم، تحدثه عن النقد فيقول لكَ زنديق عميل، وحتى لو قبل بالنقد يهاجم فقهاء معدودين، مسيئاً للنقد كما الدين، متغافلاً أن النقد إرادة صادقة وشجاعة قبل كل شيء، يقصد الأصل فيحاكمه ويغربله، يربط كل شيء فيه بواقعه ليتكلم لغة زمنه، ويحمل سيوفه في وجوه حاضره، ويستنطق تصور ذكورية زمانه لنسائه... كل ذلك والحاضر في بالنا، هو الحكم قبل النص، يميز الصالح من آياته لنُلبسها ثوباً جديداً، والعقيم منها نشيعها بالقول: لترقد روحك في سلام.
حاصل القول، يبقى هذا الدين فقط مجازاً لا يستدعي سوى إيماناً لحضياً مهدد بالكفر في كل وقت وحين، عمره مرهون إلى حيث يعجز عن إنتاج المعنى والإصابة بالصمم والبكم، وصلواته عقل لا يستريح من توجيه مطرقات النقد، أما دعواته، فحب وسلام وحرية وعدالة وكرامة .... وإنسان.
وأقم الصلاة.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق