الثلاثاء، 30 يناير 2018

موضوعات للنقاش: حول رهانات التنوير في السياق الحالي – الحلقة 1


أهو مسخ التاريخ أن يستمر مثقفوا الحداثة والتنوير ببلاد الإسلام في القرن الحادي والعشرين ، في نفس الإشكالات والموضوعات التي ساجل فيها رواد عصر النهضة حول الاستمرارية/ القطيعة/ التوافق كمفاهيم مؤطرة لعلاقة المسلم بتراثه الديني؟
التاريخ إذن يعيد نفسه ليس كمأساة بل كملهاة.


فبعد أن كان سلامة موسى والطهطاوي وشبلي شميل مقابلا لمحمد عبده والأفغاني أصبحنا اليوم في تقابل مع النهضة والإخوان وحزب الله كنسخ أكثر رداءة ونكوصية في الدفاع عن قدسية الماضي.
ترتسم علاقتنا بالتراث والإسلام تحديدا، في موقع مركزي لرهان الحداثة والتنوير، بما هي تحرير للعقل من أسر الماضي كشرط لابد منه لنجاح الكفاح لكسب الرهانات الأخرى في الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المتمركزة على الذات.
بغض النظر عن بعض المكاسب في وضعنا الراهن، فعموما لازال فريق التقدمية و العقلانية في بلاد الإسلام، تلقي عليه بظلالها نفس المآزق. فكما تم جز عنق الجعد بن درهم وأحرقت كتب ابن رشد وحوربت العقلانية المعتزلية، تستمر نفس الحرب بوأد العقلانية مع الراحل نصر حامد أبو زيد، ومع اغتيال حسين مروة ومهدي عامل ومحاكمات المثقفين والفنانين لإيقاف جهود تحرير مساحات العقلانية في مشهد محاكم التفتيش المعاصر التي تأخذ عناوين طالبان وداعش وغيرها من المسميات.
واستمرارا لتجاوز اشكالية "الفوات التاريخي"، ولربط خيط الاستمرارية التاريخية بالرموز العقلانية والعلمانية من رواد النهضة/التنوير، نطرح هذه الموضوعات لتطوير النقاش حولها.
الموضوعة الاولى:
تتموقع إشكالية العلاقة بالتراث الديني في قلب المعركة لبلوغ الحداثة. هذا ما يجعل العلمانية توأم الحداثة في هذه المعركة. لذلك انشطرت الرؤى الفكرية إلى منظورين:
- الأول ينظر للعلمانية كإجابة منطقية مقبولة في الغرب، أعادت تنظيم علاقة الديني بالسياسي عبر إلغاء سلطة الكنيسة وإعلاء كلمة العقل ورسم قوانين وضعية ذات طابع كوني، تنظم الحياة البشرية باستقلال عن الإيمان الديني الذي يبقى مسألة فردية. لكن خصوصية السياق الإسلامي حيث لا وجود لمؤسسة دينية كهنوتية، حسب هذا الرأي تدفعه ليقول برفض العلمانية، وذلك انطلاقا من اختلاف السياق المسيحي عن السياق الإسلامي. وبذلك يتموقع ضمن كوابح الحداثة والتقدم التاريخي ليس فقط كفكرة، وإنما تعبيرا عن قوى اجتماعية، مستفيدة من زواج التعدد النيوليبرالي، بالاستبداد والمحافظة. 
- الثاني امتداد للطرح الاول قائم على التوفيق بين العقل والنص المقدس، حيث أنه لا يؤسس هذه العلاقة كما في فكر الانوار الاوربي حيث الدين محدود بالعقل، بل بصيغة معكوسة يكون فيها العقل محدودا بحدود النص الديني.
- الثالث يرى العلمانية غير مؤسسة على خصوصية استثنائية للديانة المسيحية. فرغم كون هذه  الأخيرة ظهرت وتطورت بعمق ديني روحاني ثلاث قرون قبل تحولها لدين رسمي للإمبراطورية الرومانية، فإن المعارك الفكرية والسياسية التي حفزها مفكروا الانوار وتوجتها الثورة الفرنسية هي التي استعملت مقولة ما لقيصر وما لله لتقوي البعد الروحاني للمسيحية وتفرض تراجع بعدها السياسي الذي عمر 1500 سنة.(رغم حضور مقولة المسيح تلك على امتداد نفس الزمن )
وانطلاقا من ذلك فالعلمانية ليست مرتبطة بالسياق المسيحي فقط. والمطلوب خوض معارك اجتماعية سياسية تجعل تحرير العقل من سلطة النص، وإعادة قراءة التراث الإسلامي عقلانيا، محاور صراع يمنح لمقولة "أنتم أدرى بشؤون دنياكم" نفس وهج "ما لقيصر وما لله"، في الصراع لأجل تأصيل الحداثة من داخل النص الثراتي، وينفض الغبار عن الجوانب العقلانية والتقدمية من داخل هذا التراث نفسه.
وبهذا المنهج تغدو العلمانية حلا لكل النزاعات الطائفية والدينية، وتحريرا للعقل من أسر النص والماضي المتوهم إشراقه. كي تكون الإشكالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والصراعات حولها، مجالا للنقاش العمومي والتباري الديمقراطي خارج أية قدسية لمنظورات محض بشرية تتستر بالدين والتراث لشرعنة الاستبداد والنكوصية.
الموضوعة الثانية:
ذات طابع مباشر عبر تبييئ الإشكالية في صلب الصراع الدائر ببلادنا بين معسكر الحداثة والتقدمية، ومعسكر الاستبداد والمحافظة. فإعادة هيكلة الحقل الديني بالمغرب، والجارية منذ أبريل 2004 نتج عنها إعادة تقوية وتوسيع النخب الدينية، وتوسيع مدى حضور العوامل الدينية في المجتمع إضافة لتحكم الملكية في مجموع هذه النخب الدينية رغم اختلافاتها  (السلفية الوهابية؛ التصوف؛ التبليغ؛ التوحيد والإصلاح...) لتخدم رغم ذلك نفس السياسة الدينية المتحكم بخيوطها كافة من طرف القصر.
فأين يكمن دور جبهة الحداثيين التقدميين؟ هي في التمسك بالسياسة الدينية الرسمية كوقاية ظرفية (عبر اسلام معتدل) عن تقدم جماعات التطرف الديني؟ أم يكمن الدور الأساسي في الصراع ضد الاستبداد الذي يشرعن نفسه بالحكم الالهي، وأيضا ضد الجماعات الاسلامية المناضلة لتحقيق دولة الخلافة الأكثر استبدادا؟
بغض النظر عن السياقات الفكرية للسؤال، كانت معركة الدستور في سياق زمن 20 فبراير السياسي، محطة عملية لانشطار "الحداثيين" في اجاباتهم عن ذات السؤال. فقسم منهم اقتنع بوهم "الاصلاح الذاتي" للنظام معتبرا الملك ذا نزوع تقدمي ينقصه فقط دعم من النخب، لتمارس عليه ثقلا موازيا لثقل الاسلاميين بغاية ادماج مبادئ علمانية في ديباجة الدستور. وكانت النتيجة النهائية موازية لوهم الرهان الاصلي. فأمام حركات اسلامية غير ديموقراطية لكن ذات امتداد شعبي، لن يشكل التحالف مع الاستبداد حلا في ايقافها، بقدر ما هو السعي للانغراس الشعبي كصانع للتغيير الذي ينشد التقدم التاريخي بجميع دلالاته البرنامجية.
لكن السؤال الآخر هو: هل يكتفي الحداثيون في معركتهم لأجل العلمانية بخوض الصراع ضد الاستبداد السياسي مع العلم ان هذا الأخير مسنود بقوى تقليدية اكثر انغراسا في الدواليب العميقة للمجتمع؟ أليس هذ السند الشعبي لقوى الانغلاق التقليدية ذا أولوية لانغراس الحداثيين في أوساطه لتفادي خوض الصراع ضد النظام بأجنحة متكسرة؟
هذا السؤال تمليه اساليب العمل التقدمي التي تنخرها ديدان النخبوية والانحسار في حدود ضيقة جدا عبر ندوات وملتقيات وايام دراسية محدودة الحضور، إن لم نقل أن ريع التمويلات يشكل فيها هاجسا اكبر من نشر افكار التنوير والحداثة.
ان تجديد اساليب العمل باتجاه غرس الفكر التقدمي في عمق المجتمع هو الرهان الأول والأخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق