الاثنين، 12 فبراير 2018

موضوعات للنقاش
حول رهانات التنوير في السياق الحالي
-2-
الموضوعة الثالثة :
جمهور النخبة العلمانية الحقيقي صنفان:
الصنف الأول : نخبة من السياسيين والإعلاميين يطرحون الدفاع عن المطلب العلماني من زاويتي خوض الصراع الفكري حول القيم والأفكار و القوانين المتعلقة بالمرأة والحريات الفردية تحديدا ، باستقلال عن برنامج عام للتغيير الديموقراطي الشمولي. وبغض النظر عن كون هذا الصراع يمارس في الحدود الضيقة لعمل نخبوي (مما يحكم عليه بالهزيمة أمام الأصوليين)، لكن الكارثة هي أن استدخال الهزيمة منذ البداية لم يدفعهم باتجاه السعي لخلق جماهيرية الفكرة استنادا للطبقات الشعبية كونها المعني الأول، بل بالإستقواء بالتحالف مع النظام السياسي بوهم وجود جناح حداثي داخله أولا، وثانيا بالاستناد لفكرة كون الاندماج في العولمة الرأسمالية، عامل أساسي يفرض جبريا على النسق السياسي الرسمي تلك التحولات.


الصنف الثاني: هو "شعب اليسار" وهو ما يشكل الغلبة العددية داخل النخبة العلمانية، لكن نمط تفكيره لابد أن يراجع، وممارسته يطغى عليها التشتت وغياب رؤية منظمة لغرس هذه الأفكار لدى الأغلبية الشعبية.
فمن عيوب نمط التفكير لدى اغلب اليساريين في البلدان ذات الغالبية المسلمة، أنهم يسقطون في مركزية أوربية فجة. فعوض استقاء إشكالاتهم من واقعهم المباشر والتفكير من خلالها باستعمال الأسس العامة لمنهجهم، تراهم يستعيضون عن ذلك بقلب عكسي للمنهج الماركسي عبر البحث في الواقع جبريا عن دلائل لصحة النصوص والمقولات.
ومن هنا ينبع التقسيم الشائع بين المهام الديموقراطية المنعوتة بالبورجوازية والمهام الاشتراكية. حيث يصنف التنوير والعلمانية وحتى الديموقراطية كمهام برجوازية. ومن هنا أيضا ينبع الاستخفاف الملحوظ بهذه المهام مقارنة بالمهام "البروليتارية" و "ديكتاتورية البروليتاريا" العظيمة (ينسحب هذا أيضا على موقف قيام البروليتاريا بهذه المهام عوض برجوازية عالمثالثية عاجزة لان نقاشنا هنا يدور حول نعت هذه المهام بالبرجوازية حتى حين يطرح القيام بها على عاتق طبقات أخرى) وغالبا ما يتم الحديث عن هذه المهام باستخفاف كأنما هي مهام غير موكولة لنا من الناحيتين التاريخية والطبقية.
فبالتفكير خارج جعل السياق التاريخي للغرب مرجعية كونية، نطرح التساؤل عما الذي يجعل الاقتراع العام مهمة برجوازية؟ وما الذي يجعل الكفاح لأجل تحرير الشعوب المضطهدة من الاستبداد الديني وإقرار العلمانية مهمة برجوازية؟ فهل ستكون البشرية ملزمة في كل بقاع المعمور بنموذج الثورة الفرنسية؟ وهل التاريخ العالمي لن يكون سوى استنساخا لكل مراحل التطور اﻻوربي؟
ومن نتائج هذا النمط من التفكير ضعف القناعة الديموقراطية وتحول هذه الأخيرة إلى وسيلة لبلوغ السلطة السياسية واﻻستئثار بها. وهو ما وضحته الحصيلة الكارثية للثورة الروسية بدءا من إلغاء انتخابات الجمعية التأسيسية (1917) وصولا الى السيطرة الستالينية (1924 فما فوق) التي سدت جميع مسامات الشعوب السوفياتية.
إن عدم فهم المهام الراهنة والملحة في بلداننا وموقع التحديث والحداثة والعلمانية من برنامج النضال لأجل الديموقراطية، نابع من هذه الرؤى الكسيحة التي لا تفهم بأن الديموقراطية ليست مرحلة، بقدر ما هي هي اﻻشتراكية بالتعريف والترادف.
هذا التفكير هو ما يجعل تيارات اليسار الجذري في صورة من يصلح للغد وليس لليوم (ومنطق علم السياسة لا يقبل التموقع في الراهن بالتكرار الدعاوي ليوتوبيا بعيدة وغير ملهمة). ويترك مهام التنوير والعلمانية لغيرهم ممن يعيدون إنتاج "الفوات التاريخي" واستمرار الإعاقات الذاتية لمسيرة مجتمعاتنا في اتجاه التقدم التاريخي.
نقول باختصار أن الصنف الأول حليف للثاني في المعركة لأجل الديموقراطية والعلمانية كل من موقعه، لكن إعادة التموقع الريادي للثاني تقتضي توفره على المشروع الفكري الواضح أولا، وثانيا بتنظيم الانغراس المجتمعي بدمج شمولي للتنوير والديموقراطية والمسألة الاجتماعية، ولكن بوسائل حديثة  لرسملة معقلنة للمجهودات.

الموضوعة الرابعة:
في تفسير استدامة تخلفنا الحضاري والتموقع الطرفي في النظام العالمي ، يخطئ من يقدم له أسبابا فكرية فقط  تتجلى في هيمنة الدين في الوعي الجمعي لشعوبنا. لكن أيضا يخطئ أكثر من يركز معركته في ساحة اﻻقتصاد والسياسة مهملا الضرورة الآنية  لصراع الأفكار وإزاحة الميتافيزيقا بإحلال العقل مكانته في وعي الشعب، بنشر التنوير والصراع ضد القوى المحافظة في "حرب مواقع" بالتعبير الغرامشي الشهير.
من نافل القول التذكير بأن الماضي ليس هو الذي يتحكم في حاضرنا ومستقبلنا، ولكن توجد قوى اجتماعية من مصلحتها استعمال الماضي للتحكم به في الحاضر والمستقبل.
فقد نتج عن تطبيق النيوليبرالية في بلداننا، إخراج الناس قسرا من محيطهم التضامني الجماعاتي، دون بدائل لن توفرها سوى "دولة عمومية" قائمة على شرعية اجتماعية وديموقراطية.  وفي عتمة هذا الفراغ، وأمام التهديد الخارجي عبر العولمة اﻻقتصادية والمسلحة، وجد الجمهور ضالته في الأصولية لتي استأثرت في الوعي الجمعي بالتموقع الريادي هوياتيا في خانة قيادة المواجهة ضد الامبريالية الموسومة باسم "الغرب الحداثي الكافر". وبذلك وفرت  للجمهور وهم هذا الحضن عبر إعادة برمجة وعيهم وفق ترانيم زمن القرون الوسطى، فأفاق التقدميون مصدومين بعد السيرورات الثورية للربيع الديموقراطي، على حقيقة كون الأصولية الاسلامية، القوة الكبرى المنظمة والمنغرسة شعبيا، والقادرة في أي مبارزة انتخابية على قطف ثمار هذا الربيع وتحويله إلى خريف أو شتاء قارس.
إننا أمام هذا الوضع نعيش مرحلة تاريخية على مفترف الحد الفاصل (على صعيد الوعي الشعبي) بين فكر القرون الوسطى كبنية فوقية توفر تجديد المشروعية للنيوليبرالية، وبين بلوغ الحداثة والديموقراطية.
فلابد إذن من مواجهة هادفة لتصفية تاريخية لحسابات معلقة أو مؤجلة منذ بدايات القرن العشرين إن لم نقل قبله. وهذه الخلاصة هي التي يذكرنا بها صوت التاريخ عبر حناجر الشباب القائد ميدانيا بمدن وعواصم الربيع الديموقراطي، والذي استفاق بعد ذلك على حقيقة مرة مؤداها أن من زرع البارحة وحده قادر على الحصاد اليوم.
فوضعنا اليوم ناتج عن السقوط  تحت ضعط العلاقة المتوترة بين الموقف الفكري الجريء ، مقابل مخاطره السياسية المنطوية على العزلة الشعبية وخطر هروب الجمهور المأمول استقطابه لخوض المعارك السياسية واﻻجتماعية.  ونتيجة لهذا الضغط  ومفارقات الوعي الشقي الناتج عن توتر الفكر مع ميزان القوى والرهانات السياسية، سقط اليسار في خطأ اﻻعتقاد بأن كبت المشكلة أو خنقها أو تأجيلها يعني حلها او تجاوزها. وكانت النتيجة هي ما نعيشه اليوم كحالة من حالات "جنون التاريخ"  بتعبير هيغل.
فما العمل إذن؟
في نظري، تكمن مهمتنا الرئيسية اليوم في التأسيس لمشروع فكري، غايته تجاوز نخبوية الخطاب العلماني و خوض معركة التنوير في عمق المجتمع. يقوم هذا المشروع على الدعامات التالية:
1- تجاوز الفصام بين لوثر وفولتير، في عمل فكري يتوازى فيه مجهود متجه نحو قطيعة ابستيمولوجية مع الثرات، ومجهود روحنة الدين عبر الفصل بين الفكر الديني البشري و النص المؤسس، بشكل يخدم فيه الثاني الأول.
2- تقوية الفصام بين العقل والثرات الديني المؤسطر، عبر نشر الفكر العلمي  والفلسفة والتأثير على الوعي الجمعي للشعب لاعادة بنائه على أساس العقل .
3- تجاوز الفصام بين معركة التنوير والعلمنة من جهة، ومعركة الديموقراطية والعدالة الاجتماعية من جهة ثانية. فلا تجاوز للقدرية والتقليدانية بدون حماية اجتماعية وتغطية صحية شاملة وبدون سياسة صحية عمومية. ولا يمكن كسب رهان  "انتصار العقل الصانع على العقل الساحر" بدون مدرسة عمومية.
ابوض محمد
رئيس مركز التحدي للبحث والتكوين
ناشط وباحث في الشأن الديني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق