الاثنين، 27 أغسطس 2018

جاك دريدا: سؤال الجامعة ومستقبل الإنسانيات الجديدة




العلوي رشيد
لا أتـوخى من هذا المقال الدفاع عن وجود جامعة تخص الفيلسوف الجزائري – الفرنسي جاك دريدا أو جامعة تحمل اسمه، بل النَّظر في تصوره للجامعة ومجموع القضايا المتصلة بها، فاهتمامه بهذه المؤسسة العريقة – كما هو شأن فلاسفة ألمانيا الكبار: هايدجر، شلينج، هيجل، كانط… – هو اهتمام يندرج ضمن مشروعه الفلسفي التفكيكي. وسأكتفي هنا بمعالجة التساؤلات التالية: هل كان هاجس دريدا اتجاه الجامعة هاجسا سيَّاسيّاً أم فلسفيّاً أم بيداغوجيّاً؟ ما هي الأطروحة التي تبناها دريدا حول الجامعة؟
ينطلق دريدا في العديد من النصوص التي تركها من تساؤلات عدة: أين نحن؟ ومن نحن داخل الجامعة التي نتواجد بها ظاهرياً؟ ما الذي تمثله المسؤوليَّة الجامعيَّة؟ هل هناك إمكانيَّة لإيجاد نمط جديد للمسؤوليَّة الجامعيَّة؟ هل الأستاذيَّة كافيَّة على تحمل المسؤوليَّة في الجامعة؟ وضمن أية شروط؟ هل من مستقبل للجامعة؟ سأحاول مقاربة العلاقة بين الجامعة والحقيقة والتفكيك ضمن ما أسماه دريدا بالجامعة “بلا شرط” l’université sans condition.



يدافع دريدا في كتابه “الجامعة بلا شرط” (هو منطوق الدرس الافتتاحي الذي ألقاه باللغة الانجليزية بمناسبة تسلمه كرسي الأستاذيَّة بجامعة كورنيل في أبريل 1983) عن حريَّة الجامعة من جهة، وعن التفكيكيَّة، كضامنة لتلك الحريَّة من جهة أخرى، فعلى الجامعة بحسبه أن ترفض كل أشكال السُّلطة. إنها إيمان بالمعرفة. هذا الايمان يتفرع إلى لحظتين أساسيَّتين: الالتزام من جهة، والتفكير من جهة أخرى. بحيث يرافِع عن المؤسسة الجامعيَّة وعن حقها – بما هي مؤسسة – في الدفاع عن نفسها ضد كل أشكال السُّلطة التي تهدد الديموقراطيَّة، كحق على الجامعة نفسها التفكير به وتطويره وتأسيسه. لذلك يقول دفاعاً عن أطروحته: “بإمكان المقاومة اللامشروطة أن تجعل الجامعة معارضة لعدد كبير من السُّلطات: مثل: سلطات الدولة” ويخص بالذكر السلطات السيَّاسيَّة للدولة الوطنيَّة، والسلطات الاقتصاديَّة والإعلاميَّة والأيديولوجيَّة والدِّينيَّة والثقافيَّة… أي كل السُّلط التي تحد من الديمقراطيَّة المنتظرة أو المأمولة. هي إذن جامعة لها الحق في قول كل شيء ولو على مستوى التخيل وتجريب المعرفة وكذلك الحق في قول ذلك علانيَّة وفي نشره.
“الجامعة دون شرط”، تفهم كجامعة مفتوحة وغير مشروطة، وما تعنيه هذه العبارة من “حريَّة الجامعة” في الاحتفاظ بكامل سُلطاتِها وفي ممارستِها في وجه السُّلط الأخرى التي تفرض نفسها على الجامعة من الخارج وتضغط عبر “قوى ضغط” محددة للاستسلام لطلباتها ومسايرتها للحاجات الاقتصاديَّة. وبدل هذا الضغط فالجامعة حرَّة لأنها تبقى دوماً في خدمة العقل: “في حدود معرفتي، فإنه لم يتم أبداً تأسيس مشروع للجامعة ضد العقل. لهذا، يمكننا الإقرار عن حق، بأن مبرر وجود الجامعة يشكل دوماً عين العقل وتحددت من خلاله علاقة أساسيَّة بين العقل والوجود” (عن الحق في الفلسفة، ص 513).
فالجامعة غير المشروطة لا وجود لها واقعيّاً وغير معلنة مبدئياً، وهي محايثة لها لأنها مقاومة نقديَّة وأكثر نقديَّة”، يقصد أنها أكثر نقديَّة، وتفكيكيَّة حيث يقول (الجامعة دون شرط ص 14): “أسمي الحق في التفكيك حقاً غير مشروط في طرح الأسئلة النقديَّة ليس مجرد حقٍ حول تاريخ مفهوم الانسان، ولكن أيضاً حول تاريخ موضوعة النَّقد، حول شكل وسلطة السؤال ذاته”، هذا وقد سبق له أن طرح مسألة سلطة السؤال في كتابه حول: “الروح، هايدجر والسؤال” جاليلي 1987 (ص 147).
يدافع دريدا بخصوص مستقبل علوم الإنسان أو ما يسميه ب: “الإنسانيَّات الجديدة”، عن سبع أطروحات رئيسة بمثابة عناوين موضوعاتيَّة وبرنامجيَّة:
1 – ستعالج الإنسانيَّات الجديدة تاريخ الإنسان وفكرته وصورته وخصوصيَّته، ويدعونا هنا إلى تقصي قوتين قانونيتن إنجازيتين لفهم التاريخ الحديث للإنسانيَّة ويتعلق الأمر بإعلانات حقوق الإنسان والتي خضعت للتحول والإغناء باستمرار منذ سنة 1789 إلى سنة 1948 وما بعدها، ثم مفهوم “الجريمة ضد الإنسانيَّة” الذي غير منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، الحقل الجيو – سيَّاسي للقانون الدولي.
2 – ستعاجل الإنسانيَّات الجديدة وبنفس الأسلوب، تاريخ الديمقراطيَّة وفكرة السيَّادة، بحيث لن يمس تفكيك مفهوم السيَّادة القانون الدولي وحدود الدولة الوطنيَّة وسيَّادتها المزعومة. “كان مفهوم السيَّادة التي لا تنقسم في الغالب، محور نقاشات لم يفكر فيها ولم تهيأ بشكل جيِّد، حول موضوع “المساواة” بين الرجال والنساء بخصوص الاستحقاقات الانتخابيَّة” (الجامعة دون شرط).
3 – ستعالج الإنسانيَّات الجديدة تاريخ “الجهر” والجهر بالمهنة” والأستاذيَّة PROFESSORAT. وقد سبق لدريدا في كتابه “عن الحق في الفلسفة” أن فكك مفهوم الأستاذيَّة ومهنة الأستاذ، غير أنه سيعاود النَّظر فيها لينحت مفهوماً جديداً في “الجامعة دون شرط” ويتعلف الأمر بمفهوم: “الجهر بإيمان مهنة الأستاذ”، ولا يتعلق الأمر هنا بالإيمان الديني ولا بالاعتراف الديني La profession de foi، وإنما بالثِّقة في شيء ما في عمل ما أو مهنة ما، الإيمان هنا هو تصور للعالم، وإيمان بالفلسفة من خلال تفكيك السرديَّات الكبرى للبشريَّة عموماً.
4 – ستعالج علوم الإنسان الجديدة تاريخ الأدب: لا يتعلق الأمر بالموضوعات الكلاسيكيَّة التي عالجها تاريخ الأدب وإنما بمفهوم الأدب وبالمؤسسة الحديثة المُسماة أدباً وروابطه بالخيال والقوة الإنجازيَّة وبمفهوم العمل والمؤلف والتوقيع واللُّغة الوطنيَّة والحق في قول كل شيء.
5 – ستعالج تاريخ الجهر بالمهنة والمهننة والأستاذيَّة: وهنا نتذكر أيضا ما قاله في عين الجامعة (ص 539) عن علاقة الجامعة بالعقل، حث يتساءل: هل المهمة الأساسيَّة للجامعة هي انتاج كفاءات مهنيَّة قد تكون أحياناً من خارج الجامعة؟ هل يتعيَّن على الجامعة ضمان إعادة إنتاج الكفاءة المهنيَّة، عبر تكوين أساتذة في مجال البيداغوجيا والبحث، عبر احترام سنن معين، وفي ظل أي شروط تم ذلك؟ الجواب الذي يقدمه: “يمكن الإبقاء على الأشكال والقيم المهنيَّة الجامعيَّة خارج السوق، والإبقاء على غايات العمل الاجتماعي خارج الجامعة”.
6 – ستعالج بالدِّقة الكافية التمييز الثمين بين الأفعال الإنجازيَّة والأفعال التقريريَّة أو بعبارة أخرى تاريخ “كما لو” (Comme si).
7 – ستعالج الإنسانيَّات الجديدة أخيراً: زعزعة السلطة ذاتها التي تربط الجامعة والإنسانيَّات بكل من: المعرفة، الجهر بالمهنة أو بالتعقيد، الاشتغال بالاستعمال الإنجازي ل “كما لو”.
إن التمييز بين ما هو تقرير وما هو إنجازي، سيسعى إلى طمأنة الجامعة من الداخل، بخصوص التحكم السيَّادي في هذا الداخل وسلطتها الخاصة التي تمتلكها.
إننا هنا إزاء عمل تفكيكي يعيد الاعتبار لمفهوم الجامعة ولتاريخ العقل بالقدر الذي ألفنا دريدا وهو يكتب: “عندما أكتب فأنا أكتب بجرأة وأتوقع تحمل عواقبها، أكتب ما أرغب فيه” وبعبارته الدقيقة: “لا شيء يرهبني عندما أكتب”.


تحرير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق